مرايا – رصد  – كنت أعلم بأن الموت قادم لا محال، وكنت أعلم حجم الحقد الشديد علي بسبب مبادئي الجذرية الثابتة، لذلك كانت من أهم رسوماتي لا لكاتم الصوت، وأعلم شديد العلم أن كل من ينوي الكتابة عن فلسطين وجب عليه الاستعداد للموت ..
هاجرت مع اهلي من فلسطين عندما حدثت النكبة، كان عمري انذاك 10 سنوات هاجرت من قرية تدعى الشجرة وهذه القرية تقع بالقرب من طبريا، كان من الواضح أنني أنحدر من عائلة فقيرة، كنت عاري القدمين ورث الثياب وكأي فقير اخر، فثيابي مليئة بالتشققات والرقع وكل من في القرية سواسية في الفقر، استمر الحال كذلك إلى حين لجوئنا أنا وأهلي الى جنوب لبنان سنة 1940 الى مخيم عين الحلوة، طريقة اللجوء والشجر والظل والليل والنهار محفورة ومثبتة بعيناي، كأني فقأتهما وثبتت معاناة اللجوء فيهما، لذلك لن أنساها، مخيم عين الحلوة كان ممتلئ بالخيم والفقر والجوع، كانت الخيم بالليل تبكي وتنوح، كل من في المخيم كانت عيناه مليئة بالحزن، شعرت بأني اكره الجميع أياٌ كان، كرهت الجميع إلا الفقراء، ومن يحب فلسطين هؤلاء كنت منحاز لهم، كنت أحمل الطباشير وأرسم على الجدار، على الباب، على الخيم أينما أذهب أرسم خيمة شجرة علم فلسطين، شاركت بندوات وفعاليات ومظاهرات، لا اطيق الكذب، استمريت بالرسم إلى أن شاركت بندوة تتحدث عن فلسطين فشاركت ببضع رسمات، وكانت الصاعقة أن غسان كنفاني سياتي ويحضر هذه الندوة، هو أكبر مني بقليل ولكن كان رمز للثورة، والصدمة الكبرى عندما أتى وسأل عن صاحب هذه الرسومات، وطلب أن يقابلني وأخذ رسمتين لي وقام بنشرهم بمجلة أو جريدة تدعى الحرية، وفي حقيقة الأمر كنت أمتلك الموهبة هكذا قال لي غسان، بعد ما نشر لي رسوماتي شهرت فهو من تنبأ لي بمستقبل بالرسم والتعبير، عملت بالكلية الجعفرية وبعدها سافرت للكويت، عملت بجريدة كصحفي، وبعدها ترفعت لمخرج وبعدها لسكرتير تحرير وهكذا أصبحت الرقم الاول بالجريدة ورسوماتي إجتاحت العالم، كنت أرسم وأنتقد وأسخر من القيادات و الإحتلال وكل من يدعي حبه لفلسطين، وبعدها قررت رسم نفسي، رسمت رسمة طفل صغير عمره 10سنوات وكان هذا الطفل حالة إستثنائية، شعره كشعر القنفذ يشبه الشوك؛ لأن الشوك سلاح القنفذ الوحيد، كانت تبدو على الطفل ملامح الفقر يرتدي ملابس مرقعة ومشققة، وعاري القدمين، كان يضع يديه وراء ظهره، ويرفض التطبع مع العدو، ويرفض أن يمد يديه لأي حل مهما كان لن يصالح ولو منحوه الذهب، سميته حنظلة من شدة المرارة، ووجهه غير ظاهر ولن يظهر إلاحين يعود إلى فلسطين، وعندما يعود سيكون الطفل ذو ال 10 سنوات وبعدها سيكبر، لن أبالغ هذا الطفل سيبقى بعد ما أموت بعشرات السنين لأنه يروي قصة، ولو أعلم أن هناك أحد سيمسه سأقتله بكل ما تحمل الكلمة من معنى، و لو كانت قبيلة، بعدها إستمريت بإنتقاد جميع المتخاذلين برسوماتي، لم أكن أخشى أي تهديد ولكن كنت اخشى أن يمس قلبي اليأس، إنتقلت من الكويت إلى فرع الجريدة الآخر في لندن، تلقت الجريدة تهديدات لها ولي حتى أنني سجنت سنة من أجل إحدى هذه الرسومات، كنت الرقم واحد في الوطن العربي بهذا المجال، لذلك كيف للجريدة أن تتخلى عن مكسب لها، لذا هم حاولوا أن يحافظوا علي وعلى حياتي وحياتهم ونقلوني إلى فرعهم في لندن، واستمر بي الحال بالإنتقاد ومن يحاول أن ينتقد أسلوبي بالنقد كنت أنتقده، عندما اقتربت من بداية العقد الرابع من عمري كنت قد رسمت ما يقارب 19 ألف رسمة كاريكاتير، كل رسمة تتحدث بقصة وغصة ووجع، آخر رسمة كنت قد رسمتها بلندن وضعتها تحت ذراعي وصففت السيارة وذهبت مشياً إلى المبني لم يكن بعيداً عني إلا 10 أمتار، لمحت صديق لي يقف على شباك المكتب فابتسمت له، وبعدها لم أشعر إلا بمفاتيح السيارة قد سقطت من يدي، و سقطت الرسمات على الأرض، والشاب الذي يرتدي قميص جينز و شعره أسود ولحيته سوداء ذو ملامح عربية، يحمل مسدس كاتم صوت، أطلق الرصاص علي !!
رصاصة واحدة تحت عيني اليمين أسقطتني على الأرض وتناثرت رسوماتي بوسط لندن وتشكلت بركة دم كبيرة اسفلي، بعدها بنصف ساعة أتت سيارة الإسعاف، تأخرت بسبب أزمة السير، لم أمت؛ أنقذوني ونقلوني إلى المستشفى، ودخلت في غيبوبة بعدها، وتم نقلي لمشفى آخر وعانيت من هبوط في القلب، و إستشهدت على إثر هذه الرصاصة التي كانت بكاتم الصوت، كاتم الصوت الذي كان احدى رسوماتي والذي كان قضيتي “لا لكاتم الصوت !”
ما بعد الموت إستمرت رسوماتي باجتياح العالم وظل حنظلة بعدي، حنظلة الذي تعدى مرحلة الرسومات الأخرى، أصبح جزءاً من البيوت، والجدران، ومن ميداليات السيارات، و دفاتر الطلاب، رسوماتي حية وتولد وتحيا يوماً بعد يوم، وحنظلة هو الشاهد على هذه المهزلة..
أمنيتي ما بعد الوفاة، أن أكون أنا ناجي العلي قتلت على يد العدو ولم أقتل على يد أبناء بلدي ولحمي ودمي، أنا أعلم على يد من قد قتلت ولكن إذا أردتم أن تعلموا على يد من قد أزهقت روحي، تمعنوا في رسوماتي وستعلمون كيف قتلت ..
#الشهيد_ليس_رقماً،