مرايا – عمر كُلّاب

ليس بحكم الصراع الطبقي , يأخذ الحوار السياسي والاجتماعي شكله الخشن والاتهامي , بل بحكم اختلال تشكيل الطبقات في الاردن وصلنا الى هذا الشكل العدمي والاتهامي من الحوارات وضعف البنية السياسية والفكرية , فاستسهل الكثير لغة الاتهام والتخوين والتكفير , وعلى الدوام هناك بائع لافكاره وهناك مشترٍ لهذه الافكار , فالثقافة الرعوية ومن بعدها الثقافة الفلاحية افرزت هذا الاستسهال في القاء الاتهامات , فثمة بضائع معروضة مثل الخس وباقي الخضروات على الطرقات , كما هنالك حظائر لبيع الماشية وبيع حليب الإبل .
غياب الصراع الطبقي وانحسار الطبقات اصلا , هو الذي اوصلنا الى هذه الحالة الاجتماعية فأصبحنا مثل ” اللدو ” لا نحن مجتمع بدوي ولا مجتمع فلاحي , بل هجين من هذا وذاك وتكاذب في الانتماء الى هذا وذاك , ولعل هذا يفسر سرعة اقبال الاردنيين من كل المشاتل والمنابت على السيارات الهجينة بوصفها الاقرب اليه في التركيبة والبنية , فأبناء المدن الاردنية يتحدثون بلكنة بدوية وابناء القرى الفلسطينية يتحدثون بلكنة مدنية , فغابت لغة المدينة والبادية والقرية وتمازجت في لكنة عجيبة قائمة على تخفيف القاف الى ألف ” آل ” والطاء الى تاء ” تيّب ” .
ولان اللغة اداة تعبير وتفكير معا , فقد وصلنا الى هذه الحالة الرخوة , في الثقافة والسياسة والادب , واسهمت السلطة في تجريف مكامن الوعي والابداع , بعد ان احتكرها طغمة فاسدة ومفسدة وخالية من اي ابداع ولا تنتمي اساسا الى طبقة معرّفة الملامح والتكوين , فالاغنياء في الاردن ليسوا طبقة برجوازية بأي حال من الاحوال فهم حاصل انتاج حالتين اما ثراء بسبب ارتفاع اسعار الاراضي , او بسبب الاغتراب في بلاد الملح والنفط او وكلاء وسماسرة ” كومبرادور ” سواء لسياة ما او لشركة ما .
الطبقة التي لامست حواف الثراء بشكل مغاير كانت طبقة البيروقراط التي جمعت ثروتها وحضورها من الوظيفة الرسمية والهبات والمنح الرسمية , وهذه اسهمت دون شك في بناء منظومة ادارية جيدة على حساب واقع سياسي جامد يضمن بقاء هذه الطبقة في مفاصل القرار , فظهر مصطلح التوريث السياسي , وبات الولوج الى مفاصل الدولة والوظائف العليا مربوط بالاقتراب من جماعة البيروقراط , في ظل ذبح التجارب الحزبية وهدم البناء السياسي , وقد حاول البيروقراط في فترة الانفتاح اعادة تدوير حضورهم بانشائهم احزاب على مقاساتهم لكنهم فشلوا ليس لعدم ايمانهم بالفكرة اساسا فقط بل لعدم مقدرتهم على خوض هذا الباب .
في ظل هذه البيئة الطاردة , داهمنا التطور التقني والمعارف الجديدة في علوم الاجتماع والسياسة والادارة , فوقفنا حائرين , وبدل ان نسعى الى تطوير واقعنا والتفاعل مع الجديد الكوني , قمنا بتأبيد ماضينا برجالاته وانماطه الفكرية والاجتماعية , وسعت كل طبقة الى الحفاظ على مساحتها والتشييك عليها من الآخر , ورأينا كيف الهجوم على الجديد القادم من الشارع او من غير البنية التقليدية , وسعت كل طبقة الى حماية نفسها مستخدمة للاسف ادوات اجتماعية واشخاص لا ينتمون الى تلك الطبقة الا بنهاية الاسم او بالتراث السابق , وعلت صيحات الاستهجان وارتفعت اصوات الاتهام وكلها تددعي الحرص على البلد وتركيبته الاجتماعية , ولكن الهدف حماية المصلحة الذاتية والمنافع الفئوية .
طبعا كل هذا يجري وسط غياب الاحزاب السياسية التي دخلت مرحلة التحنيط , فلا هي منتجة للافكار والقيادات البديلة ولا قيادتها قادرة على التفاعل مع الجديد , فباتت الازمة مركبة ومعقدة بوصفها ازمة في الشكل القائم وفي البديل المقترح .