مرايا – تحت وطأة الحاجة والفقر وقانون عمل، تفقد عاملات الزراعة في وادي الأردن، حقوقهن الأساسية كعاملات، بالحصول على الحد الأدنى للأجور والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وحتى المعاملة الإنسانية، بتوفير وسائل نقل تليق بالإنسان لا الحيوان، تبقى الكثير من نساء وفتيات وادي الأردن يعملن في ظروف قاسية، وسمت على وجوههن أخاديد من التعب، وسرقت من أيديهن الغضة نعومتها.
في مثل هذه الظروف، تكابد ما يزيد على 10 آلاف سيدة ضنك العيش اليومي، مجبرات على العمل الزراعي بمزارع وادي الأردن، لقاء أجر زهيد، لا يوازي يوما واحدا من مجهود عمر كامل تبخر تحت أشعة الشمس الحارقة ورطوبة وحرارة البيوت البلاستيكية.
ففي قطاع زراعي يلفظ أنفاسه، بعد أن خنقته لسنوات عدة مشاكل التسويق وكلف الإنتاج المرتفعة، وتسببت بتراجع نسبة المساحات المزروعة الى 60 % في بعض المواسم، ومنافسة غير عادلة على فرص عمل شحيحة مع “تغول عمالة اللجوء السوري” ذات الأجور الزهيدة، لا تجد العاملات في الزراعة وصفا لما يقمن به يوميا غير كلمة “استعباد”.
في صباح كل يوم، تستيقظ الأربعينية أم خالد، وبسرعة ترتشف كوب الشاي الساخن باعتباره الشيء الوحيد ذا المذاق الحلو بحياتها، ترتدي ملابسها التي تحرص على أن تكون بألوان فاتحة مقاومة للهيب الشمس، تغادر منزلها لتلتحق بزميلاتها بانتظار قدوم ما يقال له “مركبة” التي تقل ما يزيد على 10 عاملات رغم أن سعتها 5 ركاب، في واحدة من أعقد المعادلات الحسابية في أنظمة المرور.
أم خالد التي لفحت أشعة الشمس ووسمت عليه بؤس الحياة، تقول “هذه حياتي، لا أملك خيارات أخرى وأنا مجبرة على العمل رغم قساوته، وقلة الأجر الذي أحصل عليه”.
وتردف بأسى، لا يوجد لدينا تأمين صحي ولا ضمان كباقي العاملين بالقطاعات الأخرى، نواجه أقسى أنواع العمل بداوم طويل يمتد طوال النهار، وأجر زهيد لا يزيد على 5 دنانير، في مثل هذه الأوضاع يتحول العمل الى “استعباد”.
حال أم خالد ينسحب على العاملات كافة في المزارع بوادي الأردن واللواتي يقمن بقطف المحاصيل الزراعية وخاصة محصول البندورة، وقطف أوراق العنب، وغيرها من المحاصيل حسب المواسم.
تقول منال مستهزئة، وهي إحدى زميلات أم خالد “نستيقظ مبكرا للعمل بالمزارع، في ظروف صعبة، لأننا نملك أوقات فراغ ونريد التنفيس عن أنفسنا بقضاء يوم كامل إما تحت أشعة الشمس الحارقة أو داخل البيوت البلاستيكية الحارة”.
منال اسم مستعار لربة منزل تسعى لكسب قوت يوم أولادها، بعد أن قبلت مكرهة على نفسها القيام بدور المعيل؛ إذ إن زوجها بات مقعدا، فيما بات تأمين الخبز للبيت من الأمور الصعبة.
وتزيد “عملنا بالمزارع أشبه بالانتحار، لا يوجد أي تأمين صحي أو حتى بدل إصابات عمل، والعديد من أصحاب المزارع يرفضون إشراكنا بالضمان، فيما موضوع المطالبة بالحد الأدنى للأجور يعني الاستغناء عن خدماتنا واستبدالنا بعمالة من اللاجئات السوريات، نحن نرضى على أنفسنا الكثير من التعب والجهد لقاء أجور رمزية لأن الخيارات أمامنا معدومة”.
وتواجه العاملات في المزارع “مزاحمة” قوية من قبل آلاف النساء من العمالة الوافدة، إلا أن أوضاعهن تبقى مقبولة مقارنة بالرجال الذين فقدوا فرص العمل أمام منافسة لا طائل لهم بها مع العمالة الوافدة من الرجال، للحد الذي اعتبر فيه مصدر في مكتب العمل بالأغوار الشمالية بأن “هناك بطالة بين الشباب وعمالة بين النساء”.
ويشير المصدر، إلى أن قانون العمل لا يلزم أصحاب المزارع بشمول العاملين لديهم بالضمان الاجتماعي أو التأمين الصحي، لكنه يوضح أنهم ملزمون بدفع تكاليف علاج العاملين لديهم في حال تعرضهم لإصابة عمل، شريطة أن تؤكد مديرية الصحة والسلامة المهنية أن الإصابة كانت جراء العمل.
وينحصر واجب مكتب العمل، وفق المصدر ذاته، في تنفيذ حملات تفتيش مكثفة لمراقبة ساعات العمل، ومدى الالتزام بدفع الحد الأدنى للأجور.
وأمام نظام قانون كهذا، يصبح موضوع تحصيل حقوق العاملات في ذمم أصحاب المزارع؛ إذ إنه حتى إثبات تدني الأجور أمر مستحيل، فالموضوع يتم بالموافقة بدون اشتراط بين العاملات وأصحاب المزارع تحت مفهوم “من لا يعجبها فلتترك العمل”.
تستذكر أم صبحي بحرقة والدموع تسيل على خديها زميلتها الشابة وفاء التي قضت أثناء عملها في مزرعة تعود لأحد المتنفذين، بعد أن تعرضت للدغة أفعى وهي تقطف أوراق العنب، موضحة أن الفقر والجوع كانا الدافع لها للعمل لتواجه الموت في ظروف عمل سيئة.
وتؤكد أن صاحب العمل لم يتكفل بأي شيء ليكون تراب القبر أبرد من الحياة القاسية التي تواجه العاملات في وادي الأردن.
فاطمة، إحدى العاملات في مزارع الخضار، لم تتمالك نفسها لحظة معرفتها أن إحدى الوسائل الإعلامية وهي “الغد”، على موعد مع معاناتها، رفضت الحديث بداية واكتفت بالبكاء الصامت، بدت وكأنما غصة في نفسها قد تطيح بها، تمالكت نفسها بعد دقائق، وبدأت بالحديث، كانت المفارقة أنها من حملة الشهادات العلمية بدرجة البكالوريوس بتخصص الحقوق؛ أي أنها على دراية بقانون العمل والعمال وكيفية تحصيل الحقوق، فيما حال وجهها الذي حرقته الشمس وسرقت منه نضارة شبابها ونعومة يديها، كان كافيا لشرح قصة معاناة وكفاح عاملات بمزارع في وادي الأردن.
تدرك فاطمة أن العديد من أصحاب العمل لا يتحملون مسؤولية إصابة العاملات لديهم، كما تدرك أن معظمهم غير معنيين بتوفير أبسط المعدات، التي تقي من حرارة الشمس أو المبيدات الحشرية التي تبقى آثارها على النباتات، متسائلة كيف نأمل منهم توفير العلاج اذا ما ألم بنا مصاب أثناء العمل؟، فعندما تكون أبسط أساليب الوقاية غير متوفرة يصبح الحديث عن العلاج ضربا من الخيال.
قصة فاطمة كانت كافية للإجابة عن العديد من التساؤلات، فهضم حقوق العاملات ليس منبعه قلة الوعي، بل الحاجة وقلة الحيلة والفقر، الذي يدفع بشابات وربات منازل وأرامل وحتى أطفال الى قبول ما بات مقنعا بتسميته “استعبادا”.
ويقول رئيس جمعية مزارعي وادي الريان، مثقال الزيناتي “الصورة العامة تظهر مزارع تعج بالعاملات المصطحبات بناتهن لإعانتهن بالعمل، لكنهن عاملات أيضا، فبدلا من أن يقضين أوقاتهن باللعب والراحة يعملن في ظروف عمل قاسية وصعبة على الكبار قبلهن خصوصا في فصل الصيف”.
ويقول الزناتي، الذي يطمح إلى الموافقة على إنشاء نقابة عاملات وعمال الزراعة في الأردن “إن التحديات التي تواجه العاملات بالزراعة كثيرة وهي يومية، سواء من حيث طريقة ذهابهن للعمل بمركبات تفتقد لأبسط شروط السلامة العامة وبأعداد مخالفة لسعة المركبة، أو ظروف العمل بحد ذاتها، أو للأجور التي يتقاضينها، وغالبا لا تصل إلى الحد الأدنى”.
ويدعو الزناتي الى ضرورة الالتفات أكثر لمشاكل العاملات ومساعدتهن، وأن يتم تنظيم العمل الزراعي، مبينا أهمية حصول من تقل دخول أسرهن عن 300 دينار على التأمين الصحي، ليتسنى لهن العمل وإعالة أسرهن بدون مخاوف من حدوث أي طارئ صحي.
وأضاف أن الهدف من النقابة هو تحسين الأوضاع الصحية للعاملات المنتجات عبر شمولهن بالتأمين الصحي المجاني.
وبحسب بيانات مديرية زراعة وادي الأردن، فإن عدد العاملات في المزارع بالوادي يتجاوز 10 آلاف عاملة.
وقال إن ظروف العمل بالقطاع الزراعي صعبة، والأجور متدنية، والتي غالبا ما يتم تقاضيها بشكل يومي، وتتراوح بين 4 و6 دنانير، مقابل التزام صاحب العمل بتأمين وسيلة مواصلات تقل العاملات من بيوتهن إلى أماكن عملهن وعودتهن، والتي تتم عادة باستخدام (البك اب) وليس وسائط نقل خاصة بنقل الركاب”.
وأشار الى تعرضهن كغيرهن من العاملين في الزراعة لعمليات استغلال، وعدم توافر شروط السلامة والصحة المهنية، لافتا الى أن العديد من أصحاب العمل يبررون ذلك بموسمية العمل، وعدم انتظام العاملات بالدوام اليومي.
وبين أن شريحة واسعة من العاملين في هذا القطاع، يعانون من زيادة عدد ساعات العمل في اليوم، والتي تتراوح بين 10 و13 ساعة تحت أشعة الشمس الحارقة، كما أن معظمهم محرومون من التمتع بيوم الإجازة الرسمي الأسبوعي، وباختصار فقد تعرضت شريحة واسعة من العاملين في هذا القطاع، لأن يكونوا ضحايا للعمل الجبري.
ويزيد الزناتي أن شروط السلامة والصحة المهنية شبه مفقودة؛ إذ لا يزود أصحاب العمل العاملين لديهم بملابس وأحذية وكمامات وقفازات تقيهم ظروف العمل الصعبة.
ولا تتوفر وسائل مواصلات لائقة بالعاملين تقلهم من وإلى أماكن عملهم، خاصة مع ظروف جوية صعبة في مناطق الأغوار التي تصل فيها درجات الحرارة لحوالي 44 درجة مئوية؛ إذ إن وسائل نقل العاملات هي ذاتها الوسائل المخصصة في الأصل لنقل الأدوات والمواد الزراعية.
السائق خالد صبري، وهو اسم مستعار، يعمل على نقل العاملات من وإلى المزارع مقابل أجرة قيمتها ديناران عن كل عاملة يتقاضاها من صاحب العمل، يقول إن نقل العاملات عملية مربحة، خاصة وأنه لا يكتفي بهذه المهنة؛ إذ يعمد إلى العمل بالمزارع لحين انتهاء العاملات من قطف الثمار ويتقاضى أجرا على ذلك.
ورغم إقراره بخطورة نقل العاملات بوسيلة غير آمنة فضلا عن الحمولة الزائدة، غير أنه يستبعد المخالفة كون الطرق التي يسلكها هي طرق زراعية، ومن الصعب تواجد دوريات نجدة وتشهد حركة سير شبه معدومة.
وتبقى العديد من العاملات وهن يقفن متجاورات أمام خطوط طويلة من أشتال مختلفة من الخضراوات، رؤوسهن منحنية نحو الثمار تحت لهيب شمس حارقة ليقطفن ما نضج منه، يعبئنه بالصناديق، لا يسمع لهن صوت باستثناء ترديد بعض الأهازيج بين الحين والآخر، ليروحن عن أنفسهن من شقاء العمل، بانتظار من يسعفهن من نظام مراقبة للعمل يقتصر على عمليات المتابعة والتفتيش التي تنتهي بتقارير بيضاء أمام احتقان الشكاوى بصدور العاملات، فيما العديد من أصحاب العمل يتذرعون بخساراتهم غير المبررة منذ سنوات عدة لتبدو منظومة العمل الزراعي بأكملها تحتاج الى من ينقذها. الغد