لا انكر على اي طبقة سياسية او اجتماعية التعبير عن احساسها بالغضب , بل والانتقال الى اي حالة تعبير مشروعة سواء بالتظاهر او الاعتصام , فكل الوسائل الدستورية مفتوحة وهذا ليس منّة او فضلا من أحد , ولكن لا يمكن القبول بمنطق الغضب والشتائم , كتعبير عن حالة امتعاض او ظلم , رغم ان النص القرآني اجاز بالفُحش بالقول لمن ظُلم , وهنا مكمن الفرس فهل الغاضبون من المتقاعدين , ظُلموا فعلا ام ذهبت امتيازات الوظيفة فارتفع الفُحش في القول ؟

واقع الحال ان الاصوات التي تنطلق بالفُحش , هم من طبقة الكبار , الذين حصلوا على امتيازات كثيرة , وكانوا في الموقع الى وقت قريب , ولم ينبسوا ببنت شفة , بل كانوا يدافعون وينافحون حتى عن الخطأ الجسيم الذي لا يمكن الدفاع عنه او تبريره بأي منطق وتحت اي عنوان , فالوزير الخارج من التعديل لا يمكن الاستئناس الى رأيه الا اذا كان هذا الرأي والقول حاضرين اثناء الخدمة العامة , وكذلك الامر على باقي المتقاعدين , ربما يمكن سماع شكوى قدامى المتقاعدين الذين تآكلت رواتبهم التقاعدية , ولكن هذه الفئة بقيت صامتة وممسكة على احترامها لذاتها وعلى شرف وظيفتها السابقة , في حين ان المتقاعدين الجدد هم اصحاب الرواتب الاعلى والصراخ الاعلى , وتحديدا الطازجون جدا الذين لم يبرد مقعدهم الوظيفي بعد .

هناك تصريحات مقيتة وروايات مخجلة تتناقلها فئة محدودة من المتقاعدين , وللاسف ممن خرجوا من الوظيفة مؤخرا , وروايات عن فساد كبير وتجاوزات مقلقة , وربما تكون الروايات صحيحة , لكن السؤال لماذا هذه الفروسية المتأخرة , فالحرص الوطني ليس مربوطا بالخروج من الوظيفة بل مربوط اثناء الجلوس على مقاعدها اكثر , والغريب ان الدنيا اثناء جلوسهم على المقاعد الوثيرة ربيع دائم , تتحول الى خريف لحظة الخروج من الموقع , ولو راجعنا السيرة الذاتية لاصحاب الفُحش لما وجدنا فيها شيئا يُذكر , واغامر بالقول انهم جزء من الخديعة وجزء من الخلل الذي يتحدثون عنه , فكل الذين خرجوا من الوظيفة بسيرة عطرة رغم الظلم الذي وقع عليهم , كبروا على جراحهم وصمتوا , فاحترموا ذاتهم واحترموا سيرتهم المهنية والوظيفية .

البكاء على الاطلال , والوعي بأثر رجعي لن يُعفي اي مسؤول بصرف النظر عن حجم مسؤوليته , صغيرة كانت ام كبيرة , واستثمار لحظة الغضب الوطني العام والقلق الوطني العام , تعبير فيه انتهازية سياسية مقيتة , تكشف فعلا عن حجم الخديعة التي عاشتها الدولة مع موظفين وصلوا الى اعلى المراتب الوظيفية , فالسياسي الذي يخرج من الوظيفة عليه ان يراجع تصريحاته قبل الخروج , وكذلك باقي المتقاعدين , اما أن يهبط عليه وحي المعارضة والنقد بعد الخروج , وكأن الوحي والنقد ممنوعان من دخول المؤسسات الرسمية وبيوت العاملين في السلك الرسمي , فهذا مرفوض ومدان , ونذكر كيف كانت السنتهم طويلة على كل الناقدين ممن سبقوهم .

بالمقابل ثمة اسماء معارضة كانت تتحدث وهي في المنصب , وثمة اسماء تحللت من عبء المنصب وتحدثت بانتقادات مهمة ودقيقة , لكنها بقيت في الاطار المنهجي للنقد وتحدثت بموضوعية دون فُحش , فأسكنها الناس منازل محترمة في المجتمع والعقل , على عكس فئتين مهما وصلوا من تراتبية سيكونون بلا قيمة , واحد ركب المعارضة للوصول الى المنصب وآخر عارض لانه خرج من المنصب وللحديث بقية .