– مرايا – عمر كُلّاب –

بحكم تزاوج التغذية العقلية والبدنية كأحدى ثنائيات الكرم الاردني , فإن معظم الاخبار السياسية الدسمة تأتي من دعوات العشاء خاصة , فولائم الغداء بالعادة كبيرة ولا يمكن التسريب فيها , كذلك تخلو دعوات الغداء بالعادة من مشروبات المسرات والمازات التي تشجع على البوح وكشف الاسرار كما في دعوات العشاء التي تتستر بالليل وشجونه وبالعادة محدودة العدد وطويلة المدة , وهذا منح العشاء امتيازات على حساب الغداء المرتبط عادة بالمناسبات الجمعية مثل الافراح والاتراح , وتلك لا تفرز اخبارا خاصة .

كل النصوص الثقيلة بالاخبار والتسريبات اذا تتبعتها ستجدها منتج وليمة عشاء على الاغلب , فالذاكرة الاردنية تجود على الموائد بكل ما تعسّر من الاخبار , ولعل تثقيف الحالة اكثر يقودنا الى ان الاردنيين بالعادة اسرى لذاكرة الديوان والمضافة التي كانت تجمع القرية او العشيرة على تعليلة خير او نميمة , فنحن مجتمع زراعي موشح بالبداوة والمضافة جزء من هذه التركيبة او تعبير جمعي لها , لذلك لم تجد الاحزاب فرصتها في الاردن , وكل حزبي برز نجمه كان مسنودا بعشيرة او محافظة او مدينة كبرى , رأت فيه بطلها او لسانها السياسي .

ثمة بُعد آخر جعل من العشاء فرصة للتسامر والاخبار , وهو انتشار ظاهرة المزارع او البيوت الريفية , البعيدة عن الاعين والتي تسمح بالراحة اكثر سواء في طبيعة الاحاديث وطبيعة المشروبات , فأنتجت المزارع ثقافة سياسية جديدة , ومنحت المتحدث فرصة التحلل من وقار العاصمة وظلال المراقبة الشديدة فيها ’ فالهواء الطلق والمساحة المفتوحة على ما يبدو تمنح العقل رخاء التفكير واستجرار الذاكرة وتمنح اللسان فرصته للانطلاق , فالفضاء المفتوح والسماء المشعة انتجت الشعر والزجل والموال , وانتجت ايضا ثقافة المزارع واخبارها واسرارها , والذاكرة الاردنية تعرف مخرجات ” الكايدية ” نسبة الى محمود الكايد رحمه الله ابرز المزارع السياسية على الاطلاق والتي لحق بها مزرعة الحاج محمود سعيد رحمه الله وعبدالله العتوم واحمد سلامة وغيرهم الكثير .

انتشار الاخبار الدسمة مرتبط بالعشاء والوليمة على وجه الحصر في الاردن وهذه ظاهرة تحتاج الى متابعة ومراجعة لقراءة طبيعة الشخصية الاردنية المفتونة بالسياسة والنميمة والمبنية على ثقافة الاستماع وعدم التوثيق , فمعظم التراث السياسي محكيّ ولا تجد توثيقا له , فثقافة المذكرات لم تدخل عالمنا السياسي الاردني ويمسك كل سياسي على ذاكرته لاسباب متعددة لعل ابرز تلك الاسباب آلية وصوله الى المنصب , فمعظم الساسة دخلوا الحياة العامة والمناصب السياسية من بوابة العلاقة الشخصية او الصدفة , وهذه اسباب لا يستطيع كثيرون الاعتراف بها .

محاولة تحليل ظاهرة الوليمة المسائية وكمية الاخبار الخارجة منها , اسردها اليوم عل القائمين على قانون الجرائم الالكترونية يعرفون طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي , ويعرفون لماذا ظهرت الاشاعة , التي نشكو من انتشارها ولا نشكو من وجودها , فما فعلته وسائط التواصل الاجتماعي هو منح هذه الاشاعات او الاخبار الحصرية فرصة الانتشار الواسع ولكنها لم تنتج الظاهرة اساسا , والقانون يجب ان يكون ابن بيئته , وعلى المشرع ان يفهم البيئة الحاضنة ثم يقوم بالتشريع لها ولتصويب اختلالها , وللاسف حتى اللحظة ما نقوم به هو محاصرة الظاهرة ومحاولة حبسها , دون مراعاة ان الافكار لها اجنحة ولا احد يستطيع حبس فكرة , بل يمكن تغيير هذه الافكار وترشيقها ومعالجة اعراضها السلبية , او على المشرع التفكير في تشريع يجرم الموائد اذا لم تراع اداب السلطة والمرحلة .