مرايا – كتب : راكان السعايدة – دائماً يؤدي التفكير بعقل بارد، لا انفعالي، إلى نتائج مفيدة، فكيف إذا قام هذا التفكير على أساس موضوعي، ودون أحكام أو مواقف مسبقة..

بالتأكيد؛ سنكون أمام أفضل القرارات والتوجهات والسياسات.

ذلك ليس ترفاً فكريّاً، بل أساس منطقي سليم في منهجيات وآليات أيِّ عمل، أفراداً وجماعات ومؤسسات ودولاً، وهذا معناه، من حيث المبدأ، عدم إنكار السلبيّات أو الإيجابيّات أو المشكلات أو أيّ مسألة جدليّة خلافيّة.

نلتقط ونفهم، في أعلى درجات الفهم والاستيعاب، أن ظروفنا الوطنيّة تواجه تعقيدات ومشاكل، منها ذاتيٌّ مرتبط بنا، ومنها موضوعيٌّ مرتبط بمتغيرات إقليميّة ودوليّة.

وللذاتي والموضوعي انعكاساتهما، المباشرة وغير المباشرة، على حياة الناس، وعلى آمالهم وإحباطاتهم، وهما، عمليّاً وواقعيّاً، ما أنتجا معارضات من نمط جديد، وآليات احتجاج بأساليب مختلفة، هدفت إلى التعبير عن الوجع والألم، وعن الأمل والطموح.

هذا حق مشروع، تكفله الديمقراطية واشتراطاتها، وعلى رأسها حرّية الرأي والتعبير، دون إنكار أو تجاوز، لأن الناس ما نطقت برأي ولا صدحت بتعبير إلاّ من ضيق ألقى عليهم حملاً ثقيلاً متعباً.

أيّ أنَّ كل مظاهر الرأي والتعبير، بالقول أو الفعل، هي انعكاس لما يدور في أذهان، العامة والنخب، ومظهر لاختلالات تحتاج معالجات عميقة، بعضها جار وبعضها ينتظر.

هذا المتركز بالحالة الوطنية، على صدقيته ومنطقيته، يستدعي، من ميل آخر، أن نطرح، بهدوء ومنطق، سؤالاً مركزيّاً مفصليّاً، إجابته تحتاج إلى شجاعة وليس تسطيحاً أو تسخيفاً أو تشكيكاً، والسؤال:

إلى أي مدى يأخذنا التفكير، بعقل انفعالي أو بارد، إلى موازنة المواقف والآراء والتعبير عن الحقوق والمظالم، مع حال الدولة؛ ظروفها الداخليّة، وتأثرها بتداعيات إقليميّة خارجة عن إرادتها، ومتغيرات تسعى عبرها دول كونية، بقدرات حاسمة، لإنتاج واقع جديد، جوهره يحمل تهديداَ وجوديّاً..؟!

إجابة السؤال، بحس مسؤولية عال، وبموضوعيّة، وتفكير متسلسل سليم، وتحليل منطقي عميق، سيصل بنا، أو هكذا يفترض، إلى نقطة اتفاق، تدفعنا، حبّاً لا كرهاً، إلى تعديل أفكارنا دون أن نلغي قناعاتنا، وتعديل مواقفنا دون أن ننكر صحتها.

هذا النمط من التفكير والتحليل الذي يقارب المعطيات والمتغيرات، والواقع والمتخيّل، ليس انقلاباً على الأفكار والقناعات، فهو ليس أكثر من تعديل على الأولويات، لتجنب الأخطر والأصعب، ولضمان البقاء والاستمرار، أي نبقي الدولة ونضمن ديمومتها، ومن ثم نختلف فيها، لا عليها.

بصراحة تامة، في الأردن مشاكل وبيئات توفر أرضيّة للرفض والاحتجاج، وهناك معالجات لها، بوتيرة قد نتفق أو نختلف عليها، وبالقدر الذي لا ننكر فيه تلك المعالجات، فان الانصاف يفرض علينا، أيضاً، ألا ننكر أن الأردن دولة تواجه ضغوطاً كبيرة، لا يظهر منها إلاّ مقدار ما يظهر من رأس جبل الجليد.

وعندما نقول الأردن تحت ضغط سياسي واقتصادي وإعلامي، فهو يمرُّ بذلك فعلياً لا نظريّاً، ويمكن تلمس ورؤية نتائج ذلك في تفاصيل عديدة، ضغط يستهدف إخضاعه كي يغيّر سياساته ويبدّل مواقفه، من قضايا الإقليم، بالضدّ من مصالحه ودوره وثوابته وأساسات وجوده.

والقوى الضاغطة لا يهمها الأردن ومصالحه ومآلات ضغطها وتداعيها عليه، بقدر ما يهمها مصالحها، وإنفاذ ترسيمها للمنطقة ومستقبلها، مدخلها الأساس في ذلك اقتصادي بألا تمد يد المساعدة إلى الأردن كما ينبغي، وتركه يسمع كلاماً إيجابياً ولا يرى فعلاً عملياً، لرفع منسوب التوتر والارباك.

لقد تُرك الأردن، اقتصاديّاً، يواجه مصيره وحده، مع يقين تلك القوى، الإقليميّة والدوليّة، ومعرفتها الأكيدة بشح موارده، وحجم الأعباء عليه، وربما شكلت أكلاف اللجوء التي فرضتها أزمات المنطقة، وتجاوب الأردن معها، إنسانيّاً وعروبيّاً، أبرز تلك الأعباء التي قصّر حتى المجتمع الدولي في التعامل معها.

إن الدعم، ومد يد العون بـ «القطارة» مقصود بذاته، ويأتي في سياق محاولة الإخضاع الذي يمهد للقبول بالإملاءات، وهو ما يقاومه الأردن، ليل نهار، ويرفضه من منطلق وطني عروبي إسلامي، لأن القبول يعني قفزة في المجهول.

وتنسى هذه القوى، الإقليميّة والدوليّة، أن استقرار الأردن ليس مسألة هامشيّة طرفيّة، وأن استقراره يعني آلياً استقرارها واستقرار مصالحها ووجودها من قبل، وهي إذا اعتقدت أن التوظيفات الاقتصاديّة والسياسيّة والإعلاميّة والنتائج السلبية المحتملة لهذه التوظيفات لن يطالها أثره وتداعيه، فهي بلا شك تعاني قصوراً سياسيّاً، وسطحيّة في التفكير، وضعف في إدراك تبعات ما تفعل عليها ذاتها.

نعم، الخاصرة الرخوة أردنيّاً هي الخاصرة الاقتصاديّة، وهي مشكلة حقيقيّة لا يستهان بها، وتتضاعف مع ضغوط سياسيّة وإعلاميّة مفتعلة، وتوظيفات تستغل وتستثمر في بيئة معقدة، ساهمت تلك القوى بها، لاعتقادها أن هذا يهزّ البنية الاجتماعيّة عبر فوضى التفكير والحركة، وبتأثيرات عاطفيّة انفعاليّة مجزوءة.

علينا، كمؤسسات أن نعترف بمشاكلنا الذاتيّة والتأثيرات الخارجيّة عليها، ولا ننكر حق التظلم والتعبير، وعلينا كشعب أن نعبّر عن أوجاعنا وطموحاتنا، وأن نعترف بذات الوقت، ودون إنكار أو مواربة، بأن بلدنا تحت ضغوط شديدة ومعقدة؛ نتائجها خطيرة، إن لم نقاومها، بموقف جمعي، ستكون الكلفة كبيرة.

فالاعتراف، بما لنا وما علينا، مسؤولين وشعباً، والمكاشفة والمصارحة، تؤدي إلى توازن التفكير، والموازنة بين متطلباتنا ومتطلبات حفظ الدولة من المخاطر، فلا أحد يريد أن ينام ويصحو على شيء مختلف، يندم عليه طول العمر.