* كتب السفير السابق زياد خازر المجالي:

أولاً: اعترافات

= اعترف ان عنوان المقال يبدو سيريالياً ،خاصة في الوقت الذي يمسك فيه اليمين وتحالفاته المتطرفة في اسرائيل أغلب مفاصل صنع القرارات صغيرها وكبيرها. وكل ‏القراءات تدل على أن الجولة القادمة ‏من الانتخابات لن تغير من الواقع الحالي شيئا، ومع ذلك، ‏فإنني أتمنى لو أن بعض الإعلام الإسرائيلي ينقل الرسالة الأهم في مقالي هذا الى الناخب الاسرائيلي كما نقل في اكتوبر الماضي نقدي لمن يعارض معاهدة السلام الاردنية الاسرائيلية ( https://m.jpost.com/Middle-East/Jordanian-diplomat-defends-peace-treaty-with-Israel )

= واعترف اني كنت سأكتفي بقراءة مقدمة (صفقة القرن ) وبندي اللاجئين والقدس لأضم نتاج ذلك لصاعقة الارقام الوضيعة التي طرحتها ندوة المنامة العام الماضي، وتسريبات الصفقة المقصودة منذ عامين، لكي أتوقف عن قراءة نص الصفقة (الاسرائيلية الامريكية) المقترحة للسلام الذي يؤدي الى الرفاهية ، لكن الموضوعية كانت تقتضي ان ( نلاحق العيّار الى باب الدار- من حيث الاطلاع على النص-)

= واعترف اني قد أكون ابتعدت عن الموضوعية ، وانا ازاوج بين حصاد قرائتي – وفق سيكولوجية الصوره- لملامح جاريد كوشنير متحدثاً أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي، وبين عنجهية السفير الامريكي في تل ابيب ديفيد فريدمان، التي وصلت الى مستوى تصريحه الفج بأن الصفقة أمرٌ واقع ، مستعملاً المصطلح الفرنسي ( fait accompli ) مما حدا بنتنياهو إلى تلقف ذلك الآن ليعلن بدء إجراءات استيطانية وفق خرائط كوشنير ، حينها تذكرت تعليقاً لأحد الظرفاء : ان فريدمان هو سفير اسرائيل في تل ابيب ، أو هو سفير الحركة الصهيونية في اسرائيل.

= واعترف اني انتمي الى مدرسة السلام ولا يمكن ان تغيرني إرادة أي طرف آخر قد ينتمي الى ثقافة الموت.

= وأخيراً اعترف اني اعتدت ان اهرب من الصحافة الورقية التي تعد علي كلماتي، وبالتالي تعد علي افكاري ونبضاتي…

ثانياً صفقة القرن

: ‏لقد قوبلت صفقة القرن منذ أن تم الإعلان عنها نهاية الشهر الماضي بمئات التقارير والتحليلات التي تناولتها في الأغلب نقداً ونادرا تأييدا ودعما.

كان جلياً ان الصفحات ال١٨١ كان يمكن ان تُكتب بشأنها مئات الصفحات تمحيصاً وتفنيداً، ولكن، ومن حيث ان المتخصصين اشبعوها بحثاً ، فسأكتفي هنا أن أشير إلى نقاط محددة لفتت انتباهي:

١: ‏تشير المقدمة إلى أن إسحاق رابين دفع حياته ثمنا للسلام … وهذا صحيح، الا ان النص لم يوضح من اغتال إسحاق رابين ولماذا ؟، ‏ولا أدري إن كان ذلك جهلاً أم خجلا !!فمن المعروف أن إسحاق رابين اغتيل على يدي ايغال عمير المتطرفٍ الإسرائيلي الذي اغتال قائد مسيرة السلام الاسرائيلي التي وصلت‏ إلى توقيع اتفاقية أوسلو ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، ولكن الأهم أن رابين قبل اغتياله بيومين كان قد ‏صرح ايضاً بما معناه ان الجولان أرضاً محتلة .

٢: ‏ومما يفتقر إلى الموضوعية الإشارة الى انه من الافضل الابتعاد عن الإعتداد الديني، وبعد ذلك تعود الخطة للتحدث عن أن فلسطين ‏هي أرض الأجداد لليهود . فهل ياترى أجداد الفلسطينيين جاءوا ومن بولندا وروسيا وأصقاع العالم؟

٣:اما القدس رمز السلام ‏وعنوانه فمعلوم ‏كيف تعاملت بشأنها الإدارة الأمريكية منذ ما قبل إعلان صفقة القرن وإضافة الى ذلك ‏فقد خلت الإشارة في النص ‏إلى الوصاية الهاشمية خلافاً لما ورد في الاتفاقيات بما فيها معاهدة السلام الأردنية الاسرائيلية.

‏اما رمزية وأهمية القدس في العقل الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي فقد تم ‏إسقاطها نهائيا ‏جغرافياً وسياسياً ودينياً وثقافياً في النص وما قبل النص من خلال مواقف الإدارة الامريكية الحالية المتتالية.

واستذكر إنني أشرت إلي جواب الرئيس الراحل عرفات لي حول أسباب فشل مفاوضات القاهرة عام 2000 ، ‏وذلك في مقالي على صفحة هلا أخبار الغراء العام الماضي . (صفقة القرن بين المبادئ وسياسة فن الممكن )

٤: ‏اما قضية اللاجئين والتي أيضاً ‏اشبعت بحثاً، فقد وجدت مقاربتها في الخطة مضحكة مبكية ، ويهمني ذلك الجانب المتعلق باللاجئين اليهود من الدول العربية الذي استدركت الصفقة ان حله سيكون في نصٍ ومحفلٍ آخرين، وان كان نص الصفقة اشبع الأمر بحثاً لغاية لا يمكن اخفاءها وهي طمس مقاصد وغايات ورمزية القرار الأممي رقم ١٩٤ الذي ينص من بين أمور أخرى على حق العودة و ( أو ) التعويض للاجئي عام ١٩٤٨.

واذا كانت ارقام ملتقى المنامة العام الماضي جاءت بمطلقها ( حجماً ومصدراً ) عاجزة عن إعطاء دلالة جدية لتحقيق حالة رفاه تعزز السلام المستهدف، فقد لاحظت ان ( جدلية ) حقوق اللاجئين في الصفقة قد عجزت أيضاً عن الإشارة إلى حقوق ٫الدول التي استضافت اللاجئين منذ النكبة وحتى الآن، وهو الأمر الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ حوالي عشرين عاماً ، عندما كان هنالك أملٌ أن تصل عملية السلام إلى نهاية وفق الاتفاقات السابقه بين منظمة التحرير الفلسطضنية وإسرائيل .

٥: من ضمن الأمور المثيرة في نص مقترح السلام ( الصفقه )، تاكيد ضرورة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، والغريب ان يأتي الطلب من واشنطن( بافتراض انها نص أمريكي ) مع أن مجموعة المبادئ والقيم الأمريكية ترفض فكرة تسييس الدين، والغريب ان الخطة نفسها تطلب في موقعٍ آخر عدم الادعاءات وفقاً لأسسٍ دينيةٍ ، ومرّة أخرى يتم التعامل مع ( اليهودية ) باعتبارها تارة قومية وتارة ديانة .

٦: وقد يكون من الجدير ملاحظة ما أورده المفاوض الامريكي المخضرم آرون ديڤيد ميلر في مركز كارنيجي قائلاً : خطة ترامب هي الأكثر خطورة التي رايتها.

ويضيف معترفاً: ان كل فرق التفاوض الامريكية للأسف كانت دائماً متحيزة ضد الفلسطينيين بما فيها فريقي ، الا ان التحيز الشديد في إدارة ترامب حالة غير مسبوقة.

وأكد: أن مبعوثي الولايات المتحدة الحاليين في الشرق الأوسط ، يعملون فقط من أجل تعزيز مصالح نتنياهو ، وتصرفوا ( دون خجل )كمحامين لإسرائيل.- حسب وصفه-.

وينتهي ميلر الى ان ذلك لن يكون في مصلحة اسرائيل وسينتهي مقترح السلام من جانبٍ واحد بتقويض سمعة اسرائيل في الولايات المتحدة كما انه يعطل إمكانية قيام الولايات المتحدة مستقبلاً بالتوسط من اجل السلام في المنطقه.

ثالثاً: ثقافة السلام

كنت مع المتحمسين للسلام مطلع الثمانينات عندما كنا في نيويورك نتابع مناقشة الجمعية العامة لقرار يدعو الى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، ولم يكن احد يتوقع ان مجمل الظروف الإقليمية ستؤدي الى صورة اخرى أفرزت مؤتمر مدريد للسلام في اكتوبر عام ١٩٩١.وخلال تلبيتي دعوة عام ١٩٩٣ للمرحوم السيد ياسين مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام لحضور ندوة حول تطورات مؤتمر مدريد ، وخلال الاستراحة قلت له اني ارغب ان اسأل أعضاء الفريق المشارك سؤالاً : هل نحن ذاهبون لمؤتمر السلام لقناعة جوهرية بالسلام وأنه حالتنا الثقافية الذهنية الان ؟ ام نحن ذاهبون بسبب قناعتنا اننا عاجزون عن القيام بالحرب ؟ فاستحلفني ان لا أثير هذا الأمر، وتفهمت موقفه خاصة بسبب انتماءات وخلفيات بعض المشاركين الأيديولوجية، ولكني فهمت من موقفه ايضاً ان حالتنا الذهنية لم تنضج بعد لاستيعاب فكرة السلام.

لكن الامر تغير بعد اقل من عامين. عندما دخلت القيادة الفلسطينية الى ارض فلسطين باعتبار ذلك اول خطوات تحقيق الحلم.

وعندما كان دخول شارون الى المسجد الأقصى سبباً في اشتعال الانتفاضة الثانية وخلال محاضرة لي في جامعة بريتوريا سالني احد الضيوف عما أراه أسوأ ما في التطورات في حينها فأجبته عن ذاكرتي لصورة أطفال فلسطين يوزعون الورد على جنود الاحتلال المنسحبين من غزة وبعض المدن الفلسطينية، وعن أنشطة المخيمات التي جمعت أطفالا من الاردن وفلسطين وإسرائيل ومصر وبعض الدول الأوروبية الأخرى من اجل المساهمة في إنشاء اجيال تفهم السلام وتدافع عنه مستقبلاً . وألمي أن يتلاشى ذلك امام إرادة التطرف والعنف والظلم.، ويستمر ذلك التطرف والتعجرف حتى يرى الباحث عن ( مكانٍ تحت الشمس ) ان عليه ان يلغي حق الآخر بالضوء والوجود .!!

نعم، أسوأ ما في تطورات القضية الفلسطينية ان ينشأ أطفال الطرفين في ظل ثقافة أن الطرف الاخر شرٌ مطلق.

تابعت كلمات الرئيس عباس امام مجلس الأمن الدولي ولانني اعرفه منذ أكثر من ربع قرن اجزم ان خياره للسلام اصيل ، ولاني ابن المدرسة الهاشمية في الاعتدال والطموح لتحقيق السلام ، فإني أستطيع بسهولة القول أن السلام بالنسبة لنا ليس خيار الممكن، وليس حتى الخيار الاستراتيجي فقط، وانما هو خيارٌ ثقافيٌ أيضاً . وتلك رسالة واضحة تضمنها خطاب حلالة الملك عبدالله الثاني امام ممثلي الشعوب الأوروبية الشهر الماضي.

رابعا:أيها الناخبون الإسرائيليون :

أعلم ان نسبة كبيرة منكم نشأ في ظل حكم يمين أذعن لضغوطات بعض المتطرفين وذلك جزء من اللعبة السياسية ، ولكن ذلك التطرف يجب ان لا يصل بك الى ثقافة رفض الآخر. فتلك ثقافة موت لا تستحقها.

تذهب بعد أيام لتختار من يمثلك في الكنيست، ووفق نظامكم الأساسي فذلك سيحدد لون حكومتكم القادمة. وقرارها السياسي.

وبعيداً عن نظرية المؤامرة ومن قراءة تطور العلاقات الامريكية الاسرائيلية ، فقد بات واضحاً مدى ترابط وتأثر قرار البيت الأبيض مع متخذ القرار في تل ابيب ، فهل نقبل ( للنبوءات ) ان تحكم مصير ابناءنا وأحفادنا.

ما هي طبيعة ضوابط العلاقات الدولية الان؟

هل نكون رهينة لفرضية فوكوياما حول حتمية الصراع مع الاسلام بعد انهيار المنظومة الشيوعية ؟ .

هل تضعف وتتلاشى قواعد وضوابط القانون الدولي التي ارادت لمنظمة الامم المتحده ان ترعى العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية والتمهيد لتكون العلاقات الدولية غير مبنية على مبدأ القوة العسكرية وانما القبول بالشرعية الدولية والمشاركة الإيجابية في الحضارة الانسانية.؟

هل اثبتت حروب ما بعد نشوء منظمة الامم المتحدة ان جينات العداء في الانسان أقوى من جينات حب السلام والتعايش والاقتناع بان للجميع مكان يمكن ان يكون رائعاً فوق كرتنا الارضيه

اذا كان اغلب العرب في ارذل العمر ( وتتكالب )عليهم بعض الامم في العراق وليبيا واليمن وفلسطين وسوريا… فهل لنا جميعاً أن نتذكرأن للديموغرافيا ( سيف عدلٍ ) لا يمكن تجاهله.

وبالمحصلة؛ هل يريد الناخب الاسرائيلي ان تنتج ارادته قراراً سياسياً يقرب نبوءة الصراع الدموي، وفي جغرافيا وديموغرافيا لا ينفع فيها خيار شمشون !!؟

وأخيراً ، من الضروري ان يتذكر الجميع أن سياسة الجسور المفتوحة التي انتهجها الاردن بعد عام ١٩٦٧ لرعاية الاحتياجات الانسانية للشقيق الفلسطيني ، لن يقبل _ وبرغم معاهدة السلام التي تنتهكها اسرائيل وفق صفقة القرن المقترحة كما تنتهك اتفاقها مع الفلسطينيين – . لن يقبل لهذه الجسور ولكامل ال ٦٨٠كم الفاصل بيننا وبين ( دولتي فلسطين وإسرائيل ) ان تصبح قنواتٍ لتنفيذ تهجير قسري جديد للشعب الفلسطيني.