مرايا – كتب : الدكتور سليم النابلسي- من نافلة القول إن مؤسسات القطاع العام هي مؤسسات خدمية، غير ربحية، ولكن هنالك مؤسسات مالية حكومية مثل مؤسسة الإقراض الزراعي، وصندوق التنمية والتشغيل، وهي مؤسسات وإن كانت غير ربحية لكنها تقوم ببعض الممارسة ذات الطابع التجاري مثل التمويل بالصيغ الإسلامية والاقراض بالفائدة التجارية فهل يمكن قياس أداء هذه المؤسسة ومقارنتها بالنوك والمؤسسات المصرفية؟
تقع مؤسسات التمويل الحكومية في المنزلة بين المنزليتين ما بين البنوك التجارية والمؤسسات الاجتماعية؛ فمؤسسة مثل مؤسسة الإقراض الزراعي لا يمكن قياس أدائها المالي ومقارنته بأي من البنوك التجارية من حيث نسب السيولة، ونسبة الربحية كمعدلات العائد على الاستثمار، والعائد على الأصول، والعائد على حقوق الملكية، وغيرها من النسب المالية، وهي بذات الوقت ليست من المؤسسات الاجتماعية التي تقوم بتقديم الدعم، وتوزيع الأموال، والمساعدات والتدخلات الإنسانية.
فمؤسسة الإقراض الزراعي مؤسسة مالية، تمويلية لكنها في ذات الوقت هي مؤسسة تمتلكها الحكومة وتسعى من خلالها إلى تطوير وتنمية الزراعة، وليس تحقيق الأرباح أي أن المؤسسة تصنف كمؤسسة غير ربحية وإن كان المطلوب إدارتها وفق أسس ربحية بهدف تغطية تكاليفها التشغيلية بعيداً عن الموازنة العامة للحكومة، وضمن هذا الفهم فعلى المؤسسة أن تقوم بدور البنوك في التمويل لكن في ذات الوقت غير مطلوب منها أن تحقق هوامش ربحية عالية، ولا يمكن لأي باحث أو محلل فرداً كان أو هيئة من مقارنة نسب الأداء المالي للمؤسسة مع نسب الأداء المالي للبنوك والحكم على الأداء المالي لهذه المؤسسة بناءً على نتائج الأداء المالي للبنوك التجارية، وفي ذات الوقت ليس من المنطق أن نقوم بتقييم أداء مؤسسة الإقراض الزراعي بمؤسسات وجمعيات ومنظمات اجتماعية، أو خيرية.
إذاً السؤال المطروح للنقاش كيف نقيس أداء مؤسسات التمويل المتخصصة؟ وكيف نكيف المؤشرات والنسب المالية، وكذلك المؤشرات الاجتماعية لمثل هذ المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة الإقراض الزراعي؟
الإجابة تختصر بضرورة التوافق والموازنة ما بين الأهداف المالية والأهداف الاجتماعية للمؤسسة؛ حيث يمكننا الاستفادة في هذا المجال من التجارب العالمية، والممارسات الفضلى لمؤسسات التمويل الأصغر، والتي أصبحت تعرف بالمؤسسات ثنائية الهدف أي أنها مؤسسات لها هدف مالي وهو الاستدامة المالية، وهدف اجتماعي يتمثل في الوصول للفقراء.
أما في حالة مؤسسة الإقراض الزراعي فدعوني اسميها بالمؤسسة ثلاثية الأهداف، بمعنى أن يكون للمؤسسة ثلاث أهداف الأول الهدف المالي، والثاني الهدف الاجتماعي، أما الثالث فالهدف البيئي.
الهدف الأول وهو الهدف المالي يتمثل في سعي المؤسسة إلى تحقيق الاستدامة والحيوية المالية؛ بحيث تحقق المؤسسة من عملياتها التشغيلية إيرادات تشغيلية وهامش ربح سنوي يغطي تكاليفها المالية، ويمكنها من الاستجابة للطلب على التمويلات الزراعية، والريفية، مع هامش مخاطر يمكن هذه المؤسسة الوطنية من مقابلة أي مخاطر غير متوقعة، ومن المعلوم أن السعي لتحقيق هامش ربح مقبول يضمن الاستدامة المالية لمؤسسة لا يتعارض إطلاقاً مع مصالح العملاء على المدى الطويل.
أما الهدف الثاني فهو الهدف الاجتماعي والمتمثل في الوصول إلى صغار المزارعين والفقراء ويمكن قياسه بعدة مؤشرات مثل: عدد الوظائف التي ولدتها المشروعات الممولة من المؤسسة، مستوى فقر الزبائن، حجم الحيازة الزراعية، حجم القروض، تكاليف المعاملات التي يتحملها الفقراء مقارنة مع تكاليف المعاملات العادية، عدد المستفيدين، عدد المقترضات، وقياس أثر هذه التمويلات على تحسن مستويات الفقر، وتحسن مستوى الأمن الغذائي للأسر الممولة، وغيرها من المؤشرات الاجتماعية، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن معايير الأداء الاجتماعي لمؤسسات التمويل الأصغر تشمل التعامل مع الموظفين بطريقة مسؤولة بحيث تتضمن خلق بيئة داعمة للموظفين، وتدريبهم، وتمكينهم، والحرص على معدلات مرتفعة لمؤشر رضا الموظفين.
أما الهدف الثالث والذي تتميز به مؤسسة الإقراض الزراعي عن غيرها من المؤسسات المالية، والهيئات الاجتماعية فهو الهدف الزراعي والبيئي، ويمكن قياس الأداء البيئي والزراعي للمؤسسة من خلال التعبير الكمي الزراعي للتمويلات وليس التعبير الكمي النقدي لأنشطة المؤسسة مثل: مساحات الأراضي المستصلحة، عدد الأشجار المزروعة، عدد رؤوس الماشية التي تم تمويل شرائها، مساحة شبكات الري المنفذة، مساحة الزراعات المحمية التي تم تمويل تنفيذها، أنواع وأعداد الأجهزة والآليات الزراعية التي تم تمويل شرائها بما فيها تقنيات الري والتسميد، كميات الإنتاج الزراعي والغذائي للمشروعات الممولة من المؤسسة، وأما على المستوى البيئي فمكن للمؤسسة قياس أدائها البيئي بمؤشرات مثل: كمية الكهرباء المنتجة من المشروعات التي تم تمويل تحولها من الطاقة الاحفورية إلى الطاقة الشمسية بالكيلو واط، مساحة شبكات الري بالتنقيط أو أي أسلوب أخر موفر لاستهلاك المياه، مجموع سعة أبار الجمع التي تم تمويل حفرها وغيرها من المؤشرات التي تظهر الأثر البيئي للمؤسسة.
إن الوصول إلى مجموعة من المؤشرات الثلاثية لأداء المؤسسة يتطلب في خطوته الأولى تحديد ومتابعة الأهداف المالية، والاجتماعية، والزراعية البيئية من خلال استراتيجية تعد بالشراكة مع عملاء المؤسسة تحدد هذه الأهداف، وطريقة تحقيقها، وقياسها، ومتابعتها، وبناء قاعدة بيانات، وتقديم التقارير.