مرايا – كتب : نائب رئيس الوزراء الاسبق الدكتور رجائي المعشر

كان تغيير طريقة وزارة المالية في احتساب المديونية العامة للدولة الأردنية بنسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي على أساس معيار الحكومة العامة مقابل معيار الحكومة المركزية خطوة ضرورية لمعرفة حقيقة التزامات الدولة الأردنية وموجوداتها. وهذه المعلومات أساسية للتخطيط الاقتصادي والمالي السليم. كما تساعد على الحصول على قروض بأسعار فائدة أفضل مما تحصل عليه الاردن الآن.

فالأرقام والأسس المحاسبية هي مؤشرات وأدوات تستخدم لوضع سياسات اقتصادية ومالية واجتماعية تهدف الى تحقيق التنمية المستدامة ورفع مستوى معيشة المواطنين وتحسين نوعية حياتهم وأعتقد أن هذا هو هدف الحكومة من إعادة احتساب هذه المؤشرات والأرقام. فلم يعد سراً خافياً على أحد أن الاردن لم يعد في وضع مالي قادر على الاقتراض إلا لغايات اطفاء الدين القائم وتمويل المشاريع الانمائية التي تعود بفوائد مالية واجتماعية مباشرة على الوطن

والمواطن.

وهنا يستدعي الامر التزام الحكومة معايير ثابتة للاهداف الكلية لهيكل المديونية العامة من خلال الالتزام ليس فقط بتحديد نسب الدين من الناتج المحلي الاجمالي فقط، وانما بتحديد نسب وقيمة العجز الكلي للموازنة.

كما أن خدمة الدين العام وصلت الى مستويات عالية بالنسبة لمجمل الموازنة العامة وتشكل بند رئيس وثقيل من النفقات الجارية لأن استمرار نمو هذا البند في الموازنة لا يمكن تجاهله بل أصبحت معالجته ضرورة حتمية من خلال وضع استراتيجية علاج فعالة.

يواجه الأردن في المرحلة الحالية التي سميت مرحلة التعافي من جائحة كورونا مجموعة من الصعاب سيكون لها آثارها على الاقتصاد الوطني بشكل عام وأهم هذه الصعاب هي:

1- تراجع نسبة نمو الناتج المحلي الاجمالي.

2- ارتفاع نسبة البطالة.

3- تغيرات في ميزان المدفوعات بعضها ايجابية بسبب تراجع المستوردات وقيمها وأخرى سلبية من حيث تراجع الدخل والصادرات.

4- تراجع كبير في الدخل السياحي وما له من آثار على قطاع النقل والفنادق والمطاعم.

5- تراجع النشاط التجاري.

6- تراجع في القطاع الصناعي والزراعي.

كما ستواجه المالية العامة تحديات كبيرة أهمها: –

1- تراجع الايرادات المحلية.

2- زيادة عجز الموازنة.

3- انعكاس تراجع الناتج المحلي الاجمالي على المؤشرات المالية المتعلقة بالعجز والمديونية.

4- زيادة النفقات الجارية لمواجهة متطلبات حالة الطوارئ.

مواجهة هذه الصعاب والتحديات ليست سهلة أبدا وتحتاج إلى اتخاذ قرارات صعبة ولكن ضرورية سيكون لهذه القرارات آثارها على حياة المواطنين ومعيشتهم. وأجزم أن السبب الرئيسي لمشكلة المالية العامة في الاردن على مدى السنين يعود الى عدم اتخاذ القرار اللازم في التوقيت اللازم. حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم إذ لم نعد نملك ترف الوقت وأي تأجيل في اتخاذ القرارات اللازمة والصعبة سيزيد من عمق الأزمة وتعقيدها.

دعونا نحدد العوامل التي أوصلتنا الى الحلقة المفرغة التي عشناها لسنوات طوال والتي يمكن وصفها بتراجع الايرادات المحلية عن المقدر لها في الموازنة وبالتالي زيادة العجز ومن ثم الاقتراض لتغطية العجز مضافاً إليها التوسع في الانفاق غير المبرر وتراجع كفاءة الإنفاق، ولمعالجة هذه المشاكل لجأت الحكومات الى زيادة ضريبة المبيعات ورفع الأسعار والاقتراض مجددا لتغطية العجز فارتفعت المديونية وأصبح العبء الضريبي ثقيلاً على كاهل المواطنين.

ولعل أهم القرارات التي أثرت سلباً على المالية العامة هي: –

1- وقف العمل بسياسة تعويم أسعار المحروقات في بدايات الربيع العربي.

2- تجميد تعرفة الكهرباء بالرغم من ارتفاع تكاليف الانتاج بسبب ارتفاع أسعار المحروقات.

3- وقف العمل بتعويم سعر الطحين والذي أدى الى زيادة الدعم وفي الوقت ذاته الاستمرار بالدعم النقدي المباشر للمتضررين من تعويم أسعار الخبز.

4- ارتفاع بند المعالجات الطبية بسبب الاختلالات في التأمين الصحي.

5- دعم الجامعات الحكومية المستمر دون وضع ضوابط للإنفاق مما أدى إلى عجز مزمن لدى العديد من الجامعات الرسمية.

6- التهرب الضريبي وتعدد المناطق الجمركية والضريبية بنسب مختلفة بين المنطقة والأخرى مما يساعد على التهريب.

7- الإعفاءات المبالغ بها لتحفيز الاستثمار وسوء استعمال هذه الإعفاءات والحوافز.

8- الهدر في المال العام خاصة في مجال الأوامر التغييرية وعدم كفاءة الإنفاق في قطاعات الصحة والتربية والتعليم.

إن معالجة هذه الاختلالات أصبحت ضرورة ملحة وتأجيل القرار حولها أصبح مكلفاً على المالية العامة وعلى الاقتصاد الوطني الكلي لذلك فإني ادعو أصحاب الاختصاص ومؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة والمهتمين الى حوار هادف وصولاً الى وضع خطة اقتصادية اجتماعية عابرة للحكومات تهدف الى معالجة هذه الاختلالات في المالية العامة وفي الوقت ذاته تعالج التحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني.

ولمعالجة مشكلة الدعم على سبيل المثال وليس الحصر فإن الحوار يمكن أن يصل إلى إقرار مبادئ معتمدة لتقديم الدعم للمواطنين كجزء من مظلة الأمان الاجتماعي. على أن تُعتمد لهذه الغاية المبادئ التالية: –

1- توجيه الدعم الى المستحقين وليس للسلعة.

2- تعريف المستحقين للدعم.

3- آلية وصول الدعم للمستحقين.

فإذا افترضنا جدلاً أن عدد السكان الاردنيين على أرض المملكة الأردنية الهاشمية يصل إلى سبعة ملايين نسمة، أي مليون وأربعمئة ألف أسرة وأن هناك على أقل تقدير (200) ألف أسرة ليست بحاجة الى الدعم فإن عدد الأسر المستحقة للدعم يصل الى مليون ومئتي ألف منها:

650 ألف أسرة – هي فئة الموظفين العامين ومنتسبي القوات المسلحة والمتقاعدين من الفئتين

130 ألف أسرة – مستفيدة من صندوق المعونة الوطنية

420 ألف أسرة – هم العاملون في القطاع الخاص والفنيون وأصحاب المؤسسات الفردية وغيرهم.

إن الدعم المقدم من الحكومة في المجالات المختلفة يصل الى حوالي (700) مليون دينار يقدم الى (10) ملايين نسمة عدد المقيمين على الأرض الأردنية من أردنيين وغيرهم. وعلى افتراض ان 60% من هؤلاء أي ستة ملايين نسمة هم المستحقون للدعم فإن حصتهم من الدعم تصل الى 420 مليون دينار يتم توزيعها نقداً كعلاوة بدل الدعم مما يعني توفير حوالي 380 مليون دينار من هذا البند وأهمية مثل هذا الإجراء تكمن في إزالة التشوهات في دعم السلع والاستخدام الرشيد للمواد المدعومة. بالإضافة الى تخفيض عجز الموازنة وبالتالي تخفيض حاجة الحكومة للاقتر?ض.

إننا عبر الحوار الوطني الهادف سنكون قادرين على معالجة جميع الاختلالات المالية التي وردت سابقاً بذات الأسلوب مما يعني وضع حد لاستنزاف ايرادات الخزينة بسبب سياسات مالية واقتصادية أثبتت عدم جدواها خلال السنين الماضية وأوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن.

وأسوق المثال الثاني كوسيلة لإزالة التشوهات في النظام الضريبي مما يحفز الاقتصاد ويبسط الاجراءات ويحد من التهرب والتهريب.

إن النظام الضريبي والجمركي الاردني يفتح المجال امام تعقيدات بيروقراطية نحن في اشد الحاجة لإزالتها. ففي الاردن مناطق تنموية واقتصادية وتنموية خاصة وحرة لكل منها نظام ضريبي ونسب ضرائب وتعرفة جمركية تختلف عن الأخرى. وقد فتح هذا التشوه المجال أمام التهرب الضريبي والتهريب بشكل كبير واعتقد أن هذه المناطق الضريبية والجمركية المختلفة لم تحقق مزيداً من الاستثمار او تشجع على التوسع في الاستثمارات القائمة.

وهنا أطرح مجموعة أسئلة نستطيع من خلال الإجابة عليها أن نعالج هذه التشوهات:

1- لماذا لا يتم توحيد الرسوم الجمركية على جميع البضائع الواردة الى المملكة الأردنية؟

2- هل يمكن اعتماد نظام رديات ضريبية للسلع التي يتم استهلاكها في المناطق الذي ترغب الحكومة بتشجيع الاستثمار فيها؟

3- هل يمكن توحيد ضريبتي المبيعات والدخل على جميع مناطق المملكة واعتماد نظام رديات ضريبية لاستهلاك المناطق التي نرغب بتشجيع الاستثمار فيها؟

4- هل يمكن تقنين ضريبة المبيعات بثلاث فئات مثلاً هي صفر للمواد الغذائية الرئيسية و4% للمواد الغذائية الأخرى والأدوية، ونسبة 16% لباقي المواد؟

5- هل نستطيع البدء بتخفيض ضريبة المبيعات تدريجياً خلال سنوات الخطة؟

6- هل هناك ضرورة لمراجعة الضريبة والجمارك على السجائر والمشروبات الكحولية للحد من التهريب وتشجيع قطاع الخدمات السياحية؟

7- هل هناك ما يمنع من اعتماد (3) فئات للتعرفة الجمركية بدلاً من البنود المتعددة التي تعمل من خلالها الآن؟

إن معالجة هذا البند المهم من الايرادت المحلية بأسلوب الحوار الهادف الذي يجيب على هذه الاسئلة هو السبيل الوحيد للوصول إلى توافق وطني حولها.

أما المثال الثالث للحوار الوطني فهو في مجال تخفيض كلف الانتاج وزيادة تنافسية الاقتصاد الوطني. ويتفق جميع المحللين الاقتصاديين على أن أهم أسباب ضعف تنافسية الاقتصاد الوطني تعود إلى ارتفاع كلفة الإنتاجية وارتفاع كلف الطاقة والنقل والتمويل.

ففي مجال الطاقة وللتذكير فإن استراتيجية الطاقة اعتمدت تقسيم القطاع الى توليد ونقل وتوزيع واعطت التوليد والتوزيع للقطاع الخاص مع ضمان نسبة ربح لهذه الشركات واحتفظت الحكومة بنقل الطاقة. وأدت هذه الاستراتيجية بالإضافة الى ارتفاع تكلفة الوقود وانقطاع الغاز المصري لفترة من الوقت الى تحمل شركة الكهرباء الوطنية المختصة بنقل الطاقة الى خسائر وصلت لأكثر من (7) مليارات دولار. يضاف إلى هذا أن التعاقد على شراء الكهرباء من شركات التوليد كان بأسعار مرتفعة كما هو الحال بالنسبة لسعر الكهرباء من مشروع الصخر الزيتي بالعطارا? والالتزام بشراء انتاج شركات التوليد الذي يزيد عن استهلاك المملكة من الكهرباء.

كما استمرت الحكومة باعتماد تعرفة كهرباء فيها الكثير من التشوهات مما جعل كلفة الطاقة على الاقتصاد الوطني مرتفعة مقارنة مع الدول الاخرى وبالتالي زادت من ضعف تنافسية الاقتصاد الوطني.

لمعالجة هذه المشكلة اقترح إنشاء صندوق استثماري رأسماله ألف مليون دينار يساهم به صندوق استثمار اموال الضمان بنسبة 50% والبنوك التجارية بنسبة 25% وتطرح باقي الأسهم للاكتتاب العام شريطة أن تكفل الحكومة ربحا للصندوق بنسبة 6% كحد أدنى سنوياً.

يقوم الصندوق بعقد الاتفاقيات مع شركات التوليد واعادة هيكلة هذه الشركات مالياً وتخفيض سعر شراء الكهرباء منها شريطة ان يحقق سعر الشراء ارباحاً سنويه بنسبة لا تقل عن 6% سنوياً. وهذا سيمكن من إعادة هيكلة تعرفة الكهرباء بشكل علمي مستند على مبادئ واضحة تراعي استرداد التكلفة وتشجيع ترشيد الاستهلاك وتحويل دعم الكهرباء الى دعم نقدي يدفع للفئات المستهدفة أصحاب الاستهلاك المنزلي الصغير والزراعة الفردية وغيرها حسب ما يتم التوافق عليه.

ولا بد أيضا من حوار موضوعي هادف حول تكلفة العمالة وأثرها على تنافسية الاقتصاد الوطني. فإذا كان أحد أسباب ارتفاع هذه التكلفة يعود الى ارتفاع اقتطاعات الضمان الاجتماعي والتي تشكل حوالي 22% من مجمل الرواتب والاجور والعلاوات مثلاً بالإضافة إلى الآثار الناجمة عن سحب (600) مليون دينار سنوياً تذهب الى صندوق استثمار الضمان الذي يقوم بدوره باستثمارها في السندات الحكومية والودائع لدى البنوك مما يخفض الدخل المتاح للاستهلاك وبالتالي يحد من النشاط الاقتصادي بشكل عام فقد أصبح من الضرورة بمكان اعادة النظر بقانون الضمان ا?اجتماعي بحيث يحافظ المشتركون الحاليون على امتيازاتهم ويتم طرح برامج تأمينية جديدة بتكلفة لا تتجاوز 12% (8% من صاحب العمل و4% من العامل) للمشتركين الجدد وإلغاء التقاعد المبكر وتحديد سبل الانتقال من هذا البرنامج الى البرنامج القديم للراغبين في ذلك.

نتفق جميعاً على أننا قمنا بتشخيص المشكلات التي تواجه المالية العامة والاقتصاد الوطني مرات ومرات. ونتفق أيضاً على ماهية المشاكل والصعاب وأسبابها: الهدر في المال العام، التقاعس عن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، الفساد، ترحيل المشاكل بدلاً من معالجتها وغيرها. وهنا قد نختلف حول مدى تأثير هذه الأسباب على عمق المشاكل وحجمها.

نحن مقبلون على انتخابات نيابية جديدة وقد مل الناس طرح الشعارات الرنانة التي تدغدغ العواطف ولا تحقق نتائج. ولعلنا أحوج ما نكون إلى طروحات واضحة من المرشحين لمعالجة قضايانا الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تشكل الهم الأكبر لدى المواطن فهل سنرتقي في حواراتنا وطروحاتنا الى مستوى عقل المواطن ووعيه أم سنبقى في نطاق الشعارات والمصطلحات الجميلة التي لا تحتوي على مضمون مقنع للناخب.

دعانا جلالة الملك حفظه الله الى القيام بدورنا – دور المواطنة الفاعلة التي تشارك في الحوار وفي صنع القرار ومتابعة عمل النائب وتقييمه ليكون صوت الحق والمصلحة الوطنية العليا في مجلس النواب، كما وضح جلالته أن مجلس النواب هو ركن أساسي في العملية الديمقراطية فهل سنلبي مرشحين وناخبين دعوة جلالة الملك فنكون عند حسن ظن القائد والمواطن.