مرايا – تحضر العشرينية روان نفسها لمعايدة الاقارب والاصدقاء، ليس بتحضير الكعك وشراء الملابس وصنع القهوة، فحسب، على حتمية ذلك، بل بارسال بطاقات المعايدة من كلمات وصور ومقاطع فيديو لكل المضافين لديها على تطبيق ‘الواتساب’ وغيرها من التطبيقات الحديثة، اضافة الى اطلاق معايدة لاصدقائها على صفحة ‘الفيسبوك’، لتتقبل على اثرها التهاني وتتبادل التبريكات دون انتقالها جسديا لاي بيت من اقربائها، الامر الذي يستلزمها ساعات طوال تقضيها في تقديم واجب التهاني من غرفتها وعيونها شاخصة امام شاشات ذكية ترى منها العالم، لكنها حقيقة لا ترى احدا على ارض الواقع.
تقول روان وهي طالبة جامعية انها من جيل هذه التقنيات الحديثة التي سهلت حياة الافراد الى حد بعيد، فما المانع اذن من اختصار المسافات عبرها بدلا من الانتقال جسديا من بيت الى اخر لتقديم واجب التهاني بالعيد وتكبد تكاليف التنقل، تتساءل روان.
فيما تعارضها الفكرة الاربعينية رائدة وهي ربة بيت، بقولها: ننتظر لقاء الاقارب والاصدقاء من العيد الى العيد، فكيف نستبدل هذه الفرحة بتخاطب مع الواح صامتة، وتقصد بها كل ادوات التواصل من هاتف نقال الى (آيباد) و(لاب توب) وغيرها، معلقة: لا معنى للعيد بدون رؤية الاهل والاصدقاء بشكل مباشر.
وفي السنوات الاخيرة، وفي جولة سريعة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي،يلحظ المتابع ان انماط معايدة الناس ببعضها بعضا تحولت الى شكل جديد، فباتت تكتفي ببضع كلمات ترسل عبر اثير تطبيقات التواصل الحديثة. واللافت بدء تقبل البعض لهذا النوع من المعايدات دون عتب من غياب المعايدات الواقعية المتعارف عليها، في وقت يحذر فيه متخصصون من مغبة اندثار عادات لها ارتباط وثيق بصلة الرحم والتواصل الاجتماعي الحقيقي والتعاضد والتكافل.
ويؤكدون لوكالة الانباء الاردنية (بترا) اهمية العودة الى الجذور واعادة احياء قيم الاعياد كما توارثتها الاجيال؛ اذ ان في ذلك تماسا مباشرا بين الاقرباء يعزز اللحمة ويقرب وجهات النظر ويطور ادوات الحوار، فيما يؤشر اعتماد الناس على (السوشيال ميديا) في المعايدات وحتى تقديم بقية الواجبات من تعاز وتهان، الى خلل سيحيل العلاقات الى نوع جديد محكوم عليه بالجمود وبرود المشاعر.
وفي السياق، يقول حارث الحشوش وهو عضو مجلس في بلدية الاغوار الجنوبية: ان الاصل في المعايدة ان تكون بشكل مباشر، الا ان سيطرة ‘السوشيال ميديا’ على حياة الناس، قادتهم لوسيلة اخرى للتواصل البيني، واصفا اياها بانها طريقة ‘تقصر المسافات بين الناس ومثالية’، ويؤيده في ذلك عطا الشرفات، مدرس، حين يقول: يطلق على وسائل التواصل الحديثة صفة ‘الاجتماعية’ اذن هي تفي بالغرض للمعايدة والسؤال عن الناس واحوالهم.
بدوره يعتقد تامر المجالي، طالب جامعي، ان تلك الوسائل ابعدتنا عن اللحمة العائلية والجمعة التي ننتظرها من العيد للعيد. ويتابع: انا ورغم صغر سني، اصر وعائلتي على التواجد مع الاهل والاقرباء في الاعياد وبشكل مباشر، وعدم الاعتماد على وسائل التواصل، فيما يخالفه في جزئية من حديثه عماد الصمادي، وهو مدير انتاج في احدى الشركات، ذاهبا الى ان الوسائل الحديثة للتواصل جيدة لانها تسهم في حل الكثير من اشكاليات البعد الجغرافي لمن هم اقرباء من درجة بعيدة، لكنه يستدرك بانه من الواجب زيارة اقرباء الدرجة الاولى وعدم الاكتفاء بالرسائل التي يراها غير منطقية ولا تفي بالغرض، بل وتضعه في احراج اجتماعي هو في غنى عنه.
من جهته يعتقد محمد عريقات، مهندس مدني، انه من ‘المعيب اجتماعيا’ معايدة الاهل بالوسائل الحديثة، فيما يبررها، على مضض، لمن هم ابعد مكانيا وعائليا.
اما اريج رحال، متعطلة عن العمل، فتقول: ان المعايدة الالكترونية لا تحل مطلقا محل الزيارة الواقعية، لكنها تبقى افضل من العدم. اما الزميل نضال شديفات فيرى ان معايدة التطبيقات باتت مزعجة، مترحما على ايام كانت فيها طرق المعايدة اسهل وايسر واكثر لحمة، فيما يخالفه الزميل عماد نصير بقوله: علينا تقدير ظروف الناس بصفة عامة، وان يكون طريقة رد المعايدة بالمثل.
ويعلق حسن الكردي، اعمال حرة، ساخرا ‘معايدات الواتساب افضل، لان فيها توفير بنزين’، أما الناشط على وسائل التواصل الاجتماعي فادي كليب، فيعقب بقوله: ان المحافظة على التراث والمعايدة بالطريقة التقليدية هي جزء من الامتداد التاريخي للعائلات الذي من المفترض ان نفخر به.
ورغم توق الناس الى المعايدة المباشرة، الا ان تسارع التوجه لكل ما هو تقني، قاد رشا حمدان، وهي صاحبة مشروع ‘يسلمو’ الى ابتكار بطاقات معايدة الكترونية يكتب عليها عبارات باللغة العربية، وتلاقي رواجا مطلوبا لكل من يرغب بفرادة البطاقة المبتكرة.
‘وسائل الاتصال الحديثة اصبحت جزءا لا يتجزأ واساسي، وضرورة حياتية للناس من مختلف الجوانب. وبطبيعة الحال هي نتاج لتطور الحياة واستحداث انماط جديدة تحاكي حاجات الناس الاستهلاكية، هذا ما يبدأ به حديثه لــ (بترا) الاستاذ المشارك في علم الاجتماع في جامعة البلقاء التطبيقية الدكتور يوسف خطايبة.
ويزيد، ان اعتماد البعض على المعايدات الالكترونية يفسر بجنوحهم نحو توفير الوقت والجهد وربما المال الذي تتطلبه اي تبادل للزيارات من تحضير مسبق للهدايا والملابس وغيرها من مستلزمات العيد، اذ يختفي البعض وخاصة من غير القادرين ماديا وراء ستار المعايدة الالكترونية من جهة، وابطال فعل المسافات من جهة اخرى في محاولة لتذكر الاخر ولو عن طريق الرسائل النصية او تلك المتعلقة بالتطبيقات الحديثة. لكنه يرى ان تلك الاساليب الجديدة قد تلقى قبولا اجتماعيا لدى بعض الفئات على اعتبار انها الوسيلة الانسب حاليا، فيما ترفضها فئات اخرى، على اعتبار أنها لرفع العتب ليس الا، لافتا الى انه وللاسف كلما ابتعدنا مكانيا عن الاشخاص وخاصة المقربين منا كلما زادت العزلة وسيطرت مشاعر الوحدة والعزلة.
ويتحدث الدكتور الخطايبة عن ناحية قد تكون مفيدة في المعايدة الالكترونية باعتبارها وسائل تعبير اكثر دقة، مفسرا: اذ انه ليس بمقدور الجميع ان يعبروا لغويا ويرسلوا لكل شخص رسالة منفردة، فيجدون بالقوالب الجاهزة من بطاقات موجودة عبر الشبكة العنكبوتية ضالتهم، ليرسلوها للجميع بكبسة زر واحدة ودون عناء الى اكبر عدد ممكن من الاصدقاء والمقربين، حتى ان البعض بات يفتقد الاخر اذا لم يرسل له بطاقة معايدة على هذا النحو الذي يتميز بالجاذبية وجمالية الصور والالوان ومقتطفات من اقوال مأثورة او اشعار او كلمات معبرة .
غير انه يعود ليؤكد على اهمية وواجب المعايدة المباشرة بين الاقارب من الدرجة الاولى والتي غالبا ما تقرن بهدايا مادية وعينية في تعبير عن الالتزام القيمي بين افراد العائلة الواحدة، مضيفا انه وحتى المغتربين يستطيعون القيام بواجبهم تجاه اسرهم بالاعياد ليس فقط بالاكتفاء برسائل نصية او صوتية او غيرها بل بتحويل مبالغ نقدية تؤطر معاني التواصل والشعور مع الاخر ماديا ومعنويا ايضا، حتى من محافظة لاخرى، وليس حصرا بين البلدان المختلفة، لافتا الى ان قيم المعايدات المباشرة لا زالت طاغية في القرى والارياف بشكل امثل .
وعلى صعيد متصل يقول ان المعايدة الالكترونية الجامدة التي تتعلق بالتواصل فقط ايام العيد فيما تنقطع خلال بقية السنة تشي بخلوها من المشاعر الصداقة ومن مضمونها العاطفي وروحية اصل العلاقات، متسائلا: كيف اقتنع انني مميز لدى احدهم يرسل الرسالة ذاتها لمئة او مئتي شخص، فيما اصبح البعض يميز بين الرسالة التي تصله بشكل فردي، وتلك التي اتته لمجرد انه على قائمة الهواتف.
ولا يحبذ الدكتور الخطايبة العدمية في الطرح منوها الى ان الحياة ‘جيلية’ بمعنى ان لكل جيل هواه ووسائله وطرقه بالتعبير، فاذا وجدنا ان الاجيال القديمة تمقت اساليب المعايدات الحديثة، نجد في الوقت عينه جيلا جديدا يرحب بكل ما هو عملي وسهل وسريع، بينما نلحظ ان من عاش بين فترتين او جيلين ضمن مرحلة انتقالية شهدت تطورا هائلا بالتقنيات الحديثة يجد حرجا واشكالية بالنمط الذي عليه اتباعه وسط هذه الهاله من التغيير المتسارع، وهو عمليا ضائع بين زمنين، فتجده يساير المحيط وفق ما يتناسب واسلوب حياته، وبالتالي يواجه تحديات وصعوبات حول هويته الاجتماعية التي يشعر ربما انها اضحت هلامية وحائرة.
من هنا يعرج الدكتور الخطايبة على مسألة مضي الجيل باتجاه التغير الشكلي والتقليدي لمظاهر الحياة الاجتماعية وللقوالب الجديدة، في وقت يتعرض به المجتمع برمته لتغييرات من مختلف الجوانب، سمتها الانفتاح على العالم والانعتاق من كل ما هو قديم، مشيرا الى انه والحالة هذه فان ما كان مستغربا قيميا اصبح مقبولا لدى بعض الفئات وسيأخذ مع الوقت صفة العرف، وفق ونظرية التبني، وهي نظرية اتصالية تتعلق باي جديد يأتي تدريجيا، قد يواجه الاستنكار بداية، وقد يواجه القبول او البحث والتحري، وربما الرغبة في التجريب، ثم الاعتياد والتماهي مع العادة او الفكرة او القيمة.
‘وسائل التواصل الاجتماعي اصبحت طريقة غير مناسبة للتواصل، فهي هروب اجتماعي وتكلف وبالتالي لا تحمل معاني المؤازرة او الفرحة والمشاركة التي يدخرها الانسان لنفسه من وحي قيم العيد’ هذا ما يراه استشاري الطب النفسي الدكتور زهير الدباع الذي يضيف ان اسلوب هذا التواصل الذي يصفه ب’ اللاتواصل الجديد’ يبعث برسائل للاخر يزيد من شعوره بالنقص والانطواء والحزن والكآبة، فيما تنعكس تلك المشاعر السلبية في العيد على هيئة عنف نفسي غير ملحوظ لساعته وفرحة ناقصة واحباط لاشخاص بعينهم ينتظرون ذلك العيد فقط لرؤية الناس والتحدث معهم وتبادل الخبرات والمعارف اجتماعيا.
بدوره يقول الاستاذ في كلية الشريعة بالجامعة الاردنية الدكتور محمد الخطيب ان صلة الرحم هي من القيم التي ضبطت بعرش الرحمن سبحانه وتعالى ولذلك فان كل الاحاديث النبوية الشريفة تحث دائما عليها ومن تلك الاحاديث : ‘من وصل رحمه وصله الله’. مؤكدا ان الاعياد التي اقرها الدين الاسلامي الحنيف، هما عيدان فقط، وبالتالي فان صلة الرحم فيهما هي من اعظم الاعمال التي يقوم بها المسلم، لانه بحاجة وهو في ظل هذه الحياة المليئة بالعمل والبعد عن الاقارب والارحام، ان يكون له في هذين العيدين منفذا للقيام بالود مع ارحامه .
لكل هذا نجد ان عيد الاضحى يشكل مناسبة مهمة جدا لتلاقي الاسر فيما بينها كما يتابع الدكتور الخطيب باعتبار ان هذا عيد الاضحية التي تعني فيما تعنيه ان تضحي من اجل ان تجمع شمل العائلة على وليمة تزيل الشحناء والبغضاء, فالقصد ليس الطعام والشراب بقدر ما هي فرصة للتلاقي الاسري و تعزيز الروابط، أملا بهذه المناسبة التي تحمل معاني دفيئة ان تكون العلاقات اكثر قربا من المفاهيم الاصيلة لصلة الرحم.
ويعود سبب عزوف الشباب عن التواصل المباشر مع الاقارب بحسب الدكتور الخطيب للتربية الاجتماعية داخل الاسرة الواحدة، وللعزلة البيتية التي فرضتها وسائل التواصل لحديثة حتى بات الاخ بخاطب اخوته من غرفة لجوارها الكترونيا مشددا على دور خطب العيد والجمعة في التوعية من مخاطر العزلة الاجتماعية ودورها لاحقا في رواج افكار التشدد وربما التطرف الذي يقود لمجاهل لا يحمد عقباها. (بترا- اخلاص القاضي)