مرايا – كتبت : سمر الحمارنة – لقد كان الخروج إلى العالم أحد هواجسي، أحببت الطبيعة، البحر، الغابة، البراري، الحياء، الأزقة الخلفية، الحكايات، الأمثال، العيش مع الناس، الاختلاط بالبحارة والعمال والفلاحين، الإصغاء إلى ما يقولون، التحديق فيما يفعلون، التعرف إلى قاع المدينة، إلى حقول الريف، قضاء الليالي وأنا أستمع، بشوق بالغ، إلى قصص والدي، هذا القاص على الفطرة، القادر أن يصنع من خبر حادثا، ومن حادث حكاية، تمتلك كل عناصر التشويق، بحيث أصبحت، في كبري، وفي فني، أعيش على فتات مائدته القصصية، الغنية بأطباق لا مثيل لنكهتها وعذوبتها
إنني مدين لهذا الأب، الذي علمني، وبغير مواعظ، أن أعيش في الدنيا كأنها بيتي، وأن أحب السفر والمغامرة وملاحظة سلوكيات الناس، والدوافع الخفية لتصرفاتهم، وما فيها من دلالات اجتماعية، وأن أردد، قبل الحكم عليهم، ما قاله السيد المسيح بحق الزانية: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.
ولد حنا مينة سنة 1924 في اللاذقية من عائلة فقيرة جدا، وكان أبواه قد هاجرا من “مرسين” سنة 1922، وبعد ولادته مرض أبوه مرضا شديدا فغادرت العائلة اللاذقية إلى بلدة “السويدية” في لواء اسكندرون، ثم هاجرت بعد ثلاث سنوات إلى اسكندرونة، ومنها إلى قرية “الأكبر” إحدى نواحيها حيث مكثت ثلاث سنوات في الريف، ثم عادت إلى المدينة حيث دخل حنا المدرسة الابتدائية. وقعت الهجرة من اللواء عام 1939، فهاجرت العائلة إلى اللاذقية.
بداية دخولي فضاء عالم حنا مينة الواسع حياتيا عام 1999 حين حضرت معرض “تحية إلى حنا مينة” قامت به مجموعة من الفنانين الشباب في مدينة دمشق. فوجئت بالحضور الجماهيري الكبير (الذي لسنا معتادين على مشاهدته لحدث ثقافي).
لفت نظري تنوّع الشرائح الثقافية، من ربة المنزل القارئة إلى الأستاذ الجامعي، فأيقنت أنه إبداع أن يكون المرء روائيا للنخبة، ولكن الإبداع المتميز أن يكون روائيا لكل الناس وللنخبة في الوقت ذاته.. عدت إلى رواياته أبحث عن سبب هذا الحب وتنوع ناسه وقرائه، بعيون ذلك الحضور الكبير.. فشدتني لغته البسيطة السهلة (السهل الممتنع، الصعبة جدا على التقليد).
قدرته المتميزة على التوليف بين العامية والفصحى خصوصا في رواياته الأولى التي تعكس مرحلة ما قبل الغربة وهي التي جسدته روائيا متميزا تربع على هرم نصبه عليه النقاد والجمهور، وبرأيي أنها تحتمل أن تصنف من كلاسيكيات الأدب العربي.. رغم كل ما قيل ويقال عنه من أنه حاول تقليد غيره من الأدباء بالفكرة (أنا لست مع هذا الرأي) فهي تحمل بصماته الخاصة.
وكان كتابي “هكذا قرأت حنا مينه”، فأنا لست ناقدة أدبية بالمعنى المهني للكلمة، ولا أريد أن أكون.. أنا قارئة محترفة، أخضع لمقاييس ثقافية اكتسبتها مع الزمن من بيئتي ومطالعاتي ولقاءاتي بالشرائح الثقافية المتنوعة.. أريد أن أحافظ على حريتي الفكرية.
عرفت حنا مينه عن قرب من خلال علاقة عائلية، تعرفت على حنا الإنسان. تعرفت على الزوجة الحنونة الصابرة. كتب حنا واصفا زوجته: “لقد تزوجت مريم دميان سمعان، أصلها من بلدة السويدية، مصب نهر العاصي قرب أنطاكية، وكانت مقيمة في اللاذقية عندما التقيتها وتعارفنا بعد هجرة العائلة من اللواء العربي السليب، إنها إنسانة طيبة، شعبية، لم تتجاوز دراستها الابتدائية، أي أنها مثلي من ناحية التحصيل العلمي، تفهمت ظروفي كمناضل سياسي ضد الانتداب الفرنسي قبل الزواج، كما تفهمت ظروفي بعد الزواج ككاتب. وإني مدين لها بنجاحي. رزقنا خمسة أولاد، بينهم صبيان، هما، سليم توفي في الخمسينات، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد، وهو أصغر أولادي وهو ممثل. لدينا ثلاث بنات: سلوى طبيبة، سوسن مخدرة وتحمل شهادة الأدب الفرنسي، وأمل مهندسة مدنية”.
على امتداد صفحات رواياته الثلاثين (التي قرأت)، تبدو أخلاقياته ومبادئه وعشقه كلها صريحة وواضحة حد الصدمة أحيانا! واسع الطيف الديني، شخوصه متنوعو الطوائف يجمعها الحب والفقر والألم، كلهم يخافون إلها مشتركا بمفاهيم متعددة. الله عند حنا مينه محبة وجمال. كتب: “لم تكن صورة الله لتختلف في ذهني عن صورة الأم الطيبة، كان طيبا مثلها، رقيقا، شفافيا، نورانيا”.
من خلال عالمه الروائي نشعر بأننا نمتلك وطننا، أرضا وسماء وبحرا. حب الوطن همه الأكبر وقضاياه شغله الشاغل، مغموسا مع فقرائه بالوحل، بحثه متواصل عن العدالة الاجتماعية في وطن متحرر.. (هذا حنا مينه الذي عرفت).
الإنسان دائما هدف حنا مينه، يحبه كثيرا، يحترمه ولا يسمح بتدميره فهو قادر أبدا على فعل المستحيل وتجاوز كل العقبات، وهو دائما فارس نبيل كريم. هناك جوانب مضيئة في نفوس أعتى المجرمين، شيطانه جميل، لديه مسحة إنسانية وهو يحبه. طريقته في رواية الأسطورة تعيد الإنسان، مهما بلغ من العمر، إلى أحضان جدته ودفئها، ولكن، بلغة أدبية مميزة، ودائما لديه أفكار يبثها حول تميز إنسانه، ورفضه المستحيل واليأس والحزن.
كان البحر، بالنسبة إليه قوة جبارة، يحترمها في أعماقه ويباركها، وكانت المرأة، صنو البحر وشريكه في هذا الاحترام.
عالم المرأة عند حنا مينه غني ويفهمه بكل تفاصيله الحياتية. تعاطف معها بكافة مهامها البيولوجية والاجتماعية (الأم، الشقيقة، الابنة، الزوجة، الصديقة، والعشيقة)، واستطاع أن يعطيها حقها الإنساني.
كتب حنا: “الشيء الأساسي، في الرؤية الروائية للمرأة لدي أن هذا الكائن لم تستطع القرون الطويلة من القهر أن تدمر روحه، أو تشوه إنسانيته، أو تقتل نزعة التحرر في ذاته، وهو مارد مسجون في قمقم، يخرج عملاقا حيثما تسنى له ذلك، ويسهم، إلى حد كبير في صنع تقدمنا الاجتماعي، رغم الرجل أحيانا، أو معه في أحيان قليلة. المرأة، في رواياتي، جديرة بلعب دورها المستقبلي”.
وتابع: “بودي أن أكتب قصة أهديها إلى أول “سيئة” في دمشق، لأنها في سوئها صنعت تقدما اجتماعيا لم يقو عليه الرجل بشرفه المزيف. إن أول امرأة دخلت المقهى أو المطعم، وأول امرأة رقصت، وغنت، وسافرت، وعادت، وكسرت طوق القهر الاجتماعي، تماما كالمرأة التي تعلمت وعملت. مباركة المرأة في كل حالاتها”.
في رواياته لم يقحم مفاهيمه إقحاما، ولم يمارس دكتاتورية، ترك شخصياته تتصرف من وحي الظروف الاجتماعية والظرف الزماني والمكاني. والكثير من المفاهيم الاجتماعية والأيديولوجية تطورت مع الزمن الحياتي للكاتب فانعكست على علاقته بنساء رواياته في المرحلة المتأخرة.
الدفء، الحنان، واحترام إنسانية المرأة متميز ونبيل في أدبه. والمرأة، في كافة مواقعها، حين تقرأ رواياته، تشعر باحترام داخلي حتى ولو كان بينها وبين ذاتها.
علاقة الذكر بالأنثى عند حنا مينه عالمان: عالم المنفى والغربة (من 1959 إلى 1960 في لبنان – من 1960 إلى 1965 في الصين – من عام 1965 إلى عام 1967 في المجر. وخلال هذه السنوات في أوروبا تردد على بلغاريا)، وهو موقف مبدئي عقلاني، ويخضع للمحاكمة الحضارية. فقد انعكست برودة الغربة القسرية على علاقته بالحب (أخلاقياته على الصعيد الإنساني، مبادئه، حبه الإنساني الكبير لم يتغير).
على الصعيد الأدبي ازدادت أيديولوجيته بشكل منهجي تأثيرا وتدخلا في رواياته. وعلى الصعيد الروحاني الذاتي الضيق أصبح كثير الشكوى والملل. المرأة أصبحت متعة، (رغم احترامه لها الذي لم يتغير على الصعيد الفكري والإنساني)، لا يستغنى عنها.
انتفى العشق من حياته وبقيت كاترينته الحلوة قابعة في الوطن. وكل كتاب يقرأ لحنا مينه في هذه المرحلة يكسب الإنسان معرفة جغرافية واجتماعية وسياسية وثقافية عن البلاد التي زارها.
لقد استطاع أن ينقل أساطير الشعوب بنسيج لغوي متميز. كتب حنا: “المدن كالنساء، فكما لكل امرأة جمالها، ملاحتها، عذوبتها، نكهتها، المدينة والمرأة بفرادة عجيبة. أنت لا تستطيع أن تأخذ كل امرأة بطلة في قصتك، روايتك، مسرحيتك، وكذلك لا تستطيع أن تأخذ كل مدينة كمكان رئيسي، كمهاد لعملك الفني.. صفة أخرى مشتركة: هذه المرأة موحية، ملهمة، باعثة على الحب، والعشق والإثارة.. وتلك المرأة جامدة، خامدة، قطعة من بياض ثلجي، بعيون زرق لا جمال فيها. هكذا تكون بعض المدن أيضا: كبيرة، ضخمة، عامرة، صاخبة، لكنها لا توحي للكتاب والشعراء والفنانين بأي شيء، ومن هنا إن بعض المدن، كبعض النساء، خلدها الأدب والفن، وبعضها مر بها مرورا عابرا، وذكرها بشكل مجزوء مبشر. فقد تعيش في مدينة كبيرة أعواما طوالا ولا تلهمك”.
كتب حنا: “عالم الوطن والشباب: عاطفي متوهج دافئ، هو منغمس فيه، نساؤه تحت الجلد، أبطاله أجمل وأرقى من عشق، لم يشك الملل أبدا. عالم الوطن والشباب، عاطفي متوهج دافئ، هو منغمس فيه، نساؤه تحت الجلد، أبطاله أجمل وأرقى من عشق، لم يشك الملل أبدا. هو جزء من المكان، ذرة تراب في أرضه”.
عرفت حنا مينه عن قرب سمعت منه مواقفه السياسية، والإنسانية.. الكاتب ما يبقى منه كلماته التي تخلده: “فقراء، ولكن شجعان، مرضى، ولكن غير مستسلمين للموت. سجناء لكنهم يتطلعون إلى الحرية. مضطهدين لكنهم غير مذلين ولا مهانين، وهم يعرفون، ولو بالحس والطموح، أن هناك ظلما نازلا بهم، وبؤسا كثيرا في حياتهم.. وأن هذا كله ينبغي أن يتبدل، وأنهم، في قلب أوجاعهم ومآسيهم وسوء الأوضاع من حولهم، قادرون على الابتسام، وعلى الأمل، وعلى السخرية، واختراع النكتة والضحك من.. القياصرة”.
وهل أجمل من هذه الكلمات أهديها لسورية التي انتفضت وخرجت لأجل غد أفضل.
الرحمة لروحك أيها الإنسان الأديب السوري حنا مينه وأنت القائل: “أيها الناس، أحبوا الحياة، عيشوها بكل ذرات كيانكم، أحبوها مهما يكن لون الشقاء فيها، وحاولوا، في كل خطوة، ومهما يكن النير الذي تحملون، أن ترفعوا إلى أعلى، وأن تتطلعوا إلى الغد، إلى يوم الحرية والعدالة الآتي، لا ريب فيه”.
“ليس لدينا مادة لليأس، بل لدينا مادة للاحتجاج”. جملته التي كان دائما يرددها بل كانت شعاره في الحياة.