مرايا – نحن في سوق يقع في شرق العاصمة عمان، قد لا يعرفه كثيرون من غير زبائنه. فعلى جانب جسر المحطة الشهير، وعلى يمين القادم من عمان المتجه شرقاً، أقيم منذ حوالي 45 عاماً مبنى من طابق واحد، منخفض السقف بشكل ملحوظ (لا يتعد مترين ونصف)، بلا نوافذ، على شكل مستطيل أبعاده حوالي (50 مترا في 20 مترا).
داخل هذا المبنى يوجد سوق كبير مكون من حوالي 150 محلاً صغيرا بمساحات متساوية تبلغ ستة أمتار مربعة لكل محل، متخصص بالملابس المستعملة (البالة)، وقد وضعت على مدخله لوحة تقول “سوق بالة المحطة”.
لهذا السوق قصة تستحق الرواية لأنها ما تزال تلقي بظلالها على أصحابه وعلى زبائنه. فلغاية مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كان مئات من أصحاب بسطات الملابس المستعملة يتخذون من ساحة تقع في أقصى شرق وسط عمان، أي في آخر “سقف السيل” تسمى “الجورة”، موقعاً رئيسيا لبيع بضائعهم من البالة الأدنى جودة. وقد سميت الساحة “الجورة” بسبب انخفاضها عن سطح الشارع المجاور، وتعود ملكيتها إلى وزارة الأوقاف.
وقد حصل أن قررت الوزارة إخلائها في ذلك الحين (مطلع الثمانينيات) تمهيداً لإقامة مشروع، فطلب من باعة البسطات إفراغها، وبعد جدال طويل، انتقل الباعة إلى ساحة فارغة في المحطة، ثم اتفقت أمانة عمان مع الباعة على تنظيم سوقهم الجديد في نُمر متجاورة، ثم سمحت بإقامة جدران وسقف مؤقت (زينكو) وتوزعت المحلات على الباعة بأسمائهم مقابل رسم شهري قيمته خمسة دنانير.
قد يكون مفيدا الإشارة إلى أن “الجورة” بقيت فارغة بعد ذلك، ولم يقم فيها المشروع الموعود، إلا مطلع هذا العام 2018 حيث بوشر بإنشاء مجمع تجاري، وخلال تلك العقود ظلت الساحة تشكل واحدا من اهم مواقع نشاط القطاع غير الرسمي وإعادة التدوير وخاصة في مجال الأثاث، وقد سبق أن نشرنا عنها تقريرا خاصا في هذه الزاوية (قراءات تنموية).
السوق كمجتمع
غير أن تجربة سوق المحطة الجديدة سرعان ما ظهر انها ناجحة، وقد التحق الزبائن القدامى بالسوق الجديد، وانضم إليهم زبائن من المجتمع المحيط بالمكان الجديد، وأغلبهم من الأوساط الشعبية والفقيرة (سكان مخيم المحطة والهاشمي وماركا والنصر).
لقد تحولت البسطة القديمة المقامة في العراء إلى محل صغير، وقد وزعت المحلات ونظمت في أربعة صفوف بينها ممرات صغيرة كافية لحركة المتسوقين.
سرعان ما تحول السوق إلى مجتمع صغير. لقد بنى العاملون مجتمعهم المتكامل. لقد أصبح للسوق “كِباره”، أي قادته على مستوى إدارة حياته اليومية الجماعية، مثل أمور الحراسة والنظافة ومتابعة أي مشكلة قد تحصل وحلها بحيث تبقى داخل السوق، فالمهم عندهم أن لا تصل المشكلات إلى خارج السوق حفاظاً على سمعته.
العاملون في السوق يعرفون بعضهم بعضاً، ويقيمون قدرا من التضامن، فإذا مرض أحدهم أو تغيب عن عمله فسيجد من يسأل عنه، وإذا احتاج لمساعدة فإنه سيجد من يقف إلى جانبه ويقدم المساعدة المطلوبة، ويديرون احتياجاتهم المالية الطارئة عن طريق “اللمة” أي جمع المال ممن يرغب ويستطيع.
يتعامل الباعة هنا مع بعضهم بمستوى عال من الأمانة. إن المتجول في السوق كثيرا ما يرى محلاً وقد غادره صاحبه ولكنه يبقى مفتوحاً ويكفي أن يوصي جاره عليه، بل إن الجار مخول بأن يبيع للزبائن من متجر جاره، وفي بعض الحالات يكفي أن يضع صاحب المحل كرسيا أو مجرد عصا صغيرة على الباب، فذلك يكفي للإشارة إلى أن صاحب المحل غائب لفترة مؤقتة، وقد اعتاد الزبائن على ذلك.
التخصص
في السوق درجة ملحوظة من التخصص، فهناك محلات لملابس الأطفال، وبعضها للأطفال الرضع، وهناك محلات للأحذية والحقائب، وزوايا مخصصة للجوارب، ويخدم السوق عدة محلات لغسيل الملابس وكيها عند الطلب.
يتقن الباعة تصنيف بضائعهم، لأن موردي البضاعة أي تجار الجملة خارج السوق يكونون قد صنفوها وفق تقليد أصبح جزءا من سر الصنعة، فبضاعة البالة تصنف إلى خمسة مستويات بحسب جودتها كالتالي:
الصنف الأول الأدنى ويحمل الاسم “طَبِش”، يليه صنف أعلى قليلا يسمونه “نخب ثاني” ثم يليه صنف متوسط يسمونه “راجِعْ”، ويعلوه “النخب أول” وعلى القمة يأتي الصنف الخامس واسمه “كريما” وهو يضم البضائع الأعلى جودة، ويشمل عادة القطع غير المستخدمة من ماركات معروفة. غير أن سوق المحطة لا يضم إلا الأصناف المتدنية وفق قدرات زبائنه، فأنت اليوم تجد قطع ملابس بأسعار قد تبدأ بعشرة قروش للقطعة! وتجد بسطات جوارب “العشرة بدينار.. وخذ 12).
للسوق مسجد صغير يتوسط المبنى، وهو عبارة عن أربع نمر مفتوحة على بعضها. وهناك أكثر من كافتيريا تقدم الخدمات للزبائن.
السوق داقر
حافظ السوق على قدر كبير من الاستقرار في أول ربع قرن أو أكثر بقليل من عمره. وقد تعرض بعدها لتأثيرات الإجراءات الإدارية والعمرانية المحيطة. ففي العام 2006 انتقل مجمع رغدان للنقل العام إلى موقعه الجديد في المحطة على بعد عدة مئات من الأمتار إلى الغرب من سوق بالة المحطة، وأجريت بعض عمليات الإزالة والهدم في المساحة بين الموقعين، في سياق التمخططات الوهمية لتحديث وسط عمان، ولكن بدلا من التحديث، سرعان ما نشأ سوق جديد ضم مئات العاملين في الخردة يرتاده إلى جانب العاملين في “المستعمل” وزبائنهم، عدد كبير من العاملين في “نبش الحاويات” الذين يعيدون تصنيف ما يجمعونه ويعرضونه لزبائنهم. وربما يكون هذا الموقع الآن هو الأكبر في هذا القطاع النامي في عمان.
في هذه الأثناء حصل تداخل كبير بين سوق بالة المحطة وبين الأسواق الجديدة المحيطة، فبينما كانت المدخل الشرقي للسوق هو الرئيسي، اضطر السوق إلى اعتماد المدخل الغربي المفتوح كمدخل جديد أكثر أهمية، كما تمكن السوق من مد بسطات الملابس إلى الساحة الخارجية، وبالمقابل دخلت بضائع جديدة إلى سوق البالة غير الملابس، تحت تأثير نوع البضاعة الجديدة الذي أدخله العاملون في الخردة والمستعمل. وقد يعتقد الناظر من بعد إلى السوق أنه يعيش حياة مستقلة عن حالة الاقتصاد في المدينة وفي البلد ككل. غير ان السوق يشهد ركودا استثنائيا متناميا منذ عدة سنوات. واليوم يكاد السوق يكون خاليا من الزبائن، وحركة البيع انخفضت إلى درجة غير مسبوقة، وهذا واضح على مجمل العناصر البشرية والمادية في الموقع.
في هذه الأثناء، يحاول الباعة التكيف مع ظروف ضعف الحركة التجارية. محدثنا قال إنه كان يملك عدة محلات اضطر لتضمينها لآخرين، وهو يفكر بالبيع في حالة استمر الحال السيئ.الغد