مرايا – في ذكرى معركة الكرامة تنتشي النفوس، وتلبس الأرض ثوب البهاء في موعد متجدد مع الحياة، فهي النموذج الأردني الأصيل في التضحية والصمود والتكافل والعزيمة التي تفوقت على كل الظروف، وخلقت واقعاً جميلاً، أعادت التذكير فيه بحضارة هذه الأمة، وبنت قواعد صلبة تنطلق عبرها إلى مستقبلها متسلحة بالمبادئ العظيمة التي أوصلتها إلى الريادة، فظلّت خير أمة بأخلاقها، وتسامحها، ومعارفها، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر.
الكرامة في حياتنا ثقافة وحياة، لأنها التاريخ والإرادة والوفاء، وهي المستقبل الذي انبجس فجره في أحلك الأوقات، فظلّت هوية الأردنيين التي تبرهن على عزيمتهم وتلاحمهم مع قيادتهم، ووفائهم لدماء الشهداء ولتاريخ الأمة وإرثها العظيم.
في هذا اليوم تتجسد كل القيم والمعاني السامية، الصبر والنصر والشهادة، واحد وخمسون عاماً مضت وذكراها تبعث فينا الأمل وتزيدنا عزاً وفخراً، شهداؤنا وأبطال الكرامة الذين لبّوا نداء الحق حين هتف لهم فزرعوا في أرض الكرامة نصراً ورفعوا رايات المجد عالياً، جباه سمر جادت وبذلت الروح وحملت لواء المجد وعرين التضحية وهتفت أن الجنان جزاء الشهداء.
أنعم بشهدائنا الذين قاتلوا فلقوا وجه ربهم كراماً، من بذلوا لأجلنا أرواحهم، في القلب مسكنهم وفي وجدان العروبة والتاريخ باقون، صرحهم يحدثنا أجيالاً تلو أجيال عن معاني البطولة والتضحية والإيثار والقوة والعزيمة التي لا تلين وأن الحق قوة لا يدانيها ولا تعلو عليها قوة، وأن المبدأ لا يمكن المساومة عليه مهما كانت التحديات.
لذكرى الكرامة في أنفسنا خلود، ولبوح مسك الشهادة في قلوبنا وفاء وعهود تتجدد، ومعان وقيم لا تفنى، ستظل خالدة فينا، نكبر بها ونسمو فوق السحاب، وسيظل أشاوس الجيش العربي جيش العروبة ووارث رسالة الثورة العربية الكبرى، قادرين على تحويل الصعاب والتحديات إلى طاقاتٍ لا تعرف اليأس والكلل، منطلقين من إيمانهم بربهم ورسالتهم يقدمون الشهيد تلو الشهيد، يبذلون دماءهم في سبيل الدفاع عن الوطن والأمة فهم الأسود والصقور تعلموا من مدرسة الهاشميين أن يكونوا مقبلين لا مدبرين وأن تكون أجسادهم هي الدرع القوي للذود عن الحمى ورد الأعداء والمتربصين.
ستبقى معركة الكرامة جزءاً من تاريخنا العسكري الذي نفتخر ونعتز به في ظل قائد المسيرة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الذي نتعلم منه كيفية الدفاع عن دين وتاريخ ومجد أمتنا العربية والإسلامية، وستظل ذكرى الراحل العظيم صانع النصر في يوم الكرامة المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحسين في قلوب ووجدان الأردنيين الأحرار، الولاء والانتماء عنواننا لكل ذرة تراب من وطننا، وستبقى راياتنا خفاقة وهامتنا لا تنحني إلا لله عز وجل الواحد الأحد.
سلام على الشرفاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، سلام على من أعادوا هيبة الأمة وكرامتها ونسجوا بالبطولة خيوط النصر في يوم الكرامة، سلام على الأرواح التي قضت فوق أرض الكرامة وفي معركة الكرامة وروت أرضها بنجيع دم الشهداء الطاهر.
معركة الكرامة تاريخ مشرق ونصر وشهادة، الكرامة يوم خالد في تاريخ أُمتنا، ولها في نفوس أبناء الأسرة الأردنية الواحدة أعظم الذكرى والاعتزاز والفخار، ففي الحادي والعشرين من آذار وقبل 51 عاماً، سطّر أبطال جيشنا العربي بدمائهم الزكية أروع ملحمة بطولية، وسجلوا أنصع نصر تاريخي على الجيش الإسرائيلي المتغطرس، فحطموا أسطورته وغروره، ونقشت الكرامة الخالدة بطولة جنود الجيش العربي على صفحات التاريخ وعانقت أمجاد أجدادنا في حطين واليرموك وعين جالوت، وظلَّ الجيش العربي عبر تاريخه المجيد المثل للتضحية والبطولة، تفخر به الأمة وتتباهى، فاستحق منّا التبجيل والمهابة وأن نحيي صنائعه البيض، ومواقفه الكبيرة في الذود عن حياض الوطن وشرف الأمة.
معركة الكرامة سجل المجد وكتاب الخالدين، سطّر خلالها نشامى الجيش العربي أنصع البطولات وأجمل الانتصارات على ثرى الأردن الطهور، وظلت أرواح الشهداء تحوم في فضاء الأردن فوق سهوله وهضابه وغوره وجباله، وتسلّم على المرابطين فوق ثراه الطهور، ويتفتح دحنون غور الكرامة على نجيع دمهم الزكي، وتسري في العروق رعشة الفرح بالنصر ونشوة الافتخار بهذا الجيش العربي الهاشمي.
هدفت إسرائيل من غزوها للأرض الأردنية إلى تحطيم القدرات العسكرية للقوات الأردنية وزعزعة الثقة بنفسها بعد حرب حزيران، حيث بقيت قواتنا ثابتة بحيويتها ونشاطها وتصميمها على الكفاح من أجل إزالة آثار العدوان، وكانت القيادة الإسرائيلية تعتقد أن الجيش الأردني تشتت بعد حرب حزيران، فأخطأت التقدير لأن القيادة الأردنية عملت على إعادة التنظيم وبسرعة فائقة، واحتلت مواقع دفاعية جديدة على الضفة الشرقية لنهر الأردن لتبقى روح القتال والتصميم في أعلى درجاتها.
ومع أن إسرائيل أعلنت قيامها بالهجوم لتدمير قوة المقاومين العرب في بلدة الكرامة، إلا أن الهدف من هذا العدوان كان مغايراً تماماً لهذا الإعلان، فالهدف كان احتلال المرتفعات الغربية من المملكة “البلقاء”، والاقتراب من العاصمة عمان للضغط على القيادة الأردنية لقبول شروط الاستسلام التي تفرضها إسرائيل، والعمل على توسيع حدودها بضم أجزاء جديدة من الأردن إليها.
كما هدفت اسرائيل إلى محاولة احتلال أراضٍ أردنية شرقي النهر والتشبث بها بقصد المساومة عليها نظراً للأهمية الاستراتيجية لهذه المرتفعات الأردنية ولزيادة العمق الاستراتيجي الإسرائيلي، وضمان الأمن والهدوء على طول خط وقف إطلاق النار مع الأردن، وتوجيه ضربات مؤثرة وقوية للقوات الأردنية التي كانت توفر الحماية والدعم والمساندة للمقاومين العرب، وزعزعة المعنوية لدى الأردنيين القاطنين في منطقة الأغوار ودفعهم إلى النزوح من أراضيهم ومزارعهم ليشكلوا أعباء جديدة على الدولة، وحرمان المقاومة العربية من وجود أي قواعد لها بين السكان.
إسرائيل أيضاً أرادت المحافظة على الروح المعنوية لجيشها وشعبها بسبب عدم التجانس بين الغالبية العظمى منهم في التركيبة السكانية التي جاءت على شكل هجرات صهيونية إلى أرض فلسطين، والتخوف من إحاطة العرب بهم، فأراد العدو أن يقوم بهذه العملية لإزالة حالة الرعب السائدة بين قطاعات الجيش والشعب اليهودي، وطمعها بالمرتفعات الشرقية من الناحية العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية، فمناطق الأغوار غنية بالمصادر المائية والزراعية وتشكل مصدراً اقتصادياً استراتيجياً مهماً بالنسبة للأردن.
وصف مكان المعركة: لموقع معركة الكرامة أهميةٌ من الناحية الدينية، فهي تمثل أرض الرباط في سبيل الله ضمن منطقة بلاد الشام، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)، بالإضافة لوجود العديد من المساجد وأضرحة الصحابة رضوان الله عليهم في منطقة الأغوار، مثل أبي عبيدة عامر بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ومعاذ بن جبل.
أما أهمية هذه المنطقة الجغرافية والاستراتيجية، فإنها تشكل نقطة المركز في قلب الوطن العربي، فهي أشبه ببوابة تعبر منها الجيوش الذاهبة إلى فلسطين، سواء أكانت هذه الجيوش قادمة من الشرق أم من الغرب، من الشمال أم الجنوب، وقد كانت مسرحاً لمعارك فاصلة في التاريخ الإسلامي، وبوابة للانتصارات التي حققت للأمة هيبتها وكرامتها ومكانتها ونشر رسالة الحق والعدل والإنسانية كمعركة اليرموك وحطين وعين جالوت.
ومنطقة غور الأردن منطقة منخفضة تقع بين سلسلتين جبليتين متناسقتين، هما سلسلة الجبال الغربية وسلسلة الجبال الشرقية، وهي غنية بالمصادر الزراعية والمائية والأشجار، فتنتج الخضراوات والفواكه وهي مناطق رعوية جيدة، أما مصادرها المائية فتتمثل في نهر الأردن، بحيرة طبريا، البحر الميت وقناة الغور الشرقية إضافة إلى العديد من العيون المائية والبرك والآبار.
ويشكل الغور عصب الحياة الزراعية والاقتصادية بالنسبة للأردن، ويقع في الغور طريق عرضاني يمتد من الحمة الأردنية وحتى العقبة، أما الطرق الواصلة بين المرتفعات الشرقية والغربية فهي جسر الملك حسين، والملك عبدالله، والأمير محمد، وتتميز المنطقة بشقيها الشرقي والغربي بصعوبة المواصلات ووعورة المسالك والارتفاعات الشاهقة ووجود الأشجار والمقاطع الصخرية المنحدرة، وهي منطقة استراتيجية حيث مكامن الأفراد ضد الآليات وإعاقة حركتها في حال أي تقدم من قوات العدو كما حدث في معركة الكرامة.
الكرامة حطمت آمال العدو وأسطورة الجيش الذي لا يقهر. ونتيجة للمعلومات التي توفرت من مصادر الاستخبارات ومشاهدة أرض المعركة، فقد كانت القوات الإسرائيلية تقدر بفرقة مدرعة (+) مع أسلحتها المساندة إضافة إلى سلاح الجو وكما يلي: اللواء المدرع 7، اللواء المدرع 60 لواء المشاة الآلي 80، كتيبة مظليين من لواء المظليين 35، خمس كتائب مدفعية ميدان ومدفعية ثقيلة، أربعة أسراب طائرات مقاتلة ميراج، مستير، عدد من طائرات الهيلوكبتر القادرة على نقل كتيبتين دفعة واحدة، وكتيبة هندسة مدرعة.
وتكونت القوات الأردنية من فرقة المشاة الأولى، تدافع عن المنطقة الوسطى والجنوبية ابتداء من سيل الزرقاء شمالاً وحتى العقبة جنوباً وكانت موزعة على النحو التالي: لواء حطين يحتل مواقع دفاعية على مقترب ناعور، لواء الأميرة عالية يحتل مواقع دفاعية على مقترب وادي شعيب، لواء القادسية يحتل مواقع دفاعية على مقترب العارضة، ويساند لواء الأمير الحسن بن طلال المدرع 60 فرقة المشاة الأولى وكانت إحدى كتائبه موزعة على الألوية وكتيبة بدور الاحتياط للجيش في منطقة طبربور، وتساند الفرقة ثلاث كتائب مدفعية ميدان وسرية مدفعية ثقيلة، وكتيبة هندسة ميدان. (التوجية المعنوي)