مرايا – أكد رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي أن الحوار المتحضر من تبادل للآراء والمعلومات لمجابهة التحديات واتخاذ المواقف الجماعية، شكل جزءا من بنية الأردنيين ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، واستندوا إليه تاريخيا في الوصولِ إلى رؤى وتوافقات تثري المسيرة وتمنع الصّدام.
وقال إن هذا الحوار انتقل خلال العقد الأخير من أشكاله التقليدية التي راعت الأدبيات، وأسهمت في ارتقاء المجتمع وخدمة مسيرة الدولة وبناء المؤسسات؛ إلى الشكلِ الجديد غير التقليديّ، عبرَ وسائلِ التواصل الاجتماعيّ، وفي فضاءات العالم الافتراضيّ، حتى أصبح الحوار نفسه افتراضياً في كثير من الأحوال، وخرج في بعض الحالات عن الأطر والأخلاقيات التي توافق عليها الأردنيون.
جاء ذلك في ندوة حوارية استضافته فيها جماعة عمان لحوارات المستقبل بالتعاون مع عمادة شؤون الطلبة في الجامعة الأردنية بعنوان (الحوار: ثقافته وأخلاقياته)، وذلك ضمن احتفالات الجامعة بعيد ميلاد جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم.
وأوضح الرفاعي أن الدولة الأردنية، لم تتفاجأ بثورة الاتصال التكنولوجي، وإنّما سعت لنشر التكنولوجيا الحديثة، وتمكين الشباب والشابات من أدواتها؛ حتى أصبح شباب الأردن في مقدّمة شباب الوطن العربي ومن المميّزين عالمياً في مجالات تكنولوجيا الاتصال.
وكشف الرفاعي عن أن هذه النّهضة، أنتجت نقلة كبيرة وغير تقليديّة في شكل الحوار، فحوّلته من اتصال مباشر بين أطراف معلومة، إلى حوار واسع، مباشر وغير مباشر، لافتا إلى أنه بالرغم من إيجابيات تلك النقلة، إلا أنها لم تخل من السلبيات.
وعرض الرفاعي لأبرز الإيجابيات التي تجلت في الشكل غير التقليدي لهذا الحوار وهي إتاحة منابر إضافية للحوار، واستكشاف المزيد من الطاقات والأفكار، ووضعها على محك النقاش المفتوح الواسع، ومنحت للكثير من الشباب أداة لإيصال صوتهم، ضمن إطار من الحوار الواعي والمهذب، كماعزّزت النقد البناء الذي يلفت نظر المسؤول في أحيان كثيرة إلى مسائل قد تكون بحاجة إلى المزيد من الاهتمام، ما يخدم مسيرة البناء، ويزيد من التنوّع ويغني الحوار وحرية التعبير.
أما السلبيات، فقال الرفاعي:” إنها أيضاً عديدة، أبرزها الاعتماد على حوارات العالم الافتراضي والاستنكاف في المقابل عن المشاركة الفعليّة والواقعيّة؛ سواء في المنتديات والهيئات الثقافية، أو حتى في الأحزاب السياسية “.
وأبدى الرفاعي أسفه لما آلت إليه بعض الحالات الآخذة بالازدياد التي أضحى من خلالها التنمر نهجاً جماعياً منسقاً، فامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بحملات تستهدف كل رأي مخالف، أو كل شخص يحاول أن يطرح رأياً لا ترضى عنه عصب المتنمرين، لتنهال عليه الشتائم حتى يصمت ويستنكف؛ فيخسُر الوطنُ تنوعه، والمجتمع تسامحه، والحوار روحه، والأخطر من ذلك كله، ضياع الحقيقة وسط سيول التنمر تلك التي تجعل الباطل حقاً.
وشدد الرفاعي على ضرورة الاحتكام للعقل والمنطق والحوار الواعي والمنتج، الذي يشكل تعريف المصطلحات، والابتعاد عن التعميم، أحد أهم أركانه؛ مشيرا إلى أن من أهم القضايا التي تحتاج في وقتنا هذا إلى المزيد من الحوار، في ظلّ واقع أمتنا، هو تقييم تجربة الأنظمة والخطابات السياسية العربية، خلال القرن العشرين، وقراءة مآلات المشاريع، والطموحات القومية، وأسلوبنا السابق في التعامل مع التحديات الصعبة.
وتابع قائلا:” عندما نناقش اليوم، حصيلةَ قرنٍ كامل من العمل والتضحيات، نكتشفُ أن الإنجاز الرئيس، الذي تحقق كان بناءَ الدولة والمؤسسات، وقد خسرنا أغلبها، مع انطلاق ما يسمى بـ”الربيع العربي”، لما شهدته بعض الدول العربية، من دمار شامل، طال مؤسساتها وشبابها ومواردها، واستنزفها في حروب وانقسامات، بلغت ذُروتها بظهور تنظيمات متطرفة، عاثت في الأرض قتلا وتدميرا تحت اسم الإسلام، والإسلام منها براء”.
وتساءل الرفاعي حول الآلية التي ستتعامل فيها الأمة العربية، مع صفقة القرن، في ظل ما سبق، مقترحا في رده إنهاء الانقسامات والاختلافات العربية – العربية، والفلسطينية – الفلسطينية، والتعامل بشكل منهجي علمي مع التحدّي، والاستفادة من تجارب من حولنا من الدول.
وأوجب الرفاعي الإشارة إلى الموقف الأردني الثابت من صفقة القرن، منذ بدء تلميحات الإدارةِ الأمريكية حولها، وكيف اتخذت الدولة الأردنية، وعلى رأسها جلالة الملك موقفاً واضحاً وصلباً، وهو الموقف الذي أبرز وحدةَ الأردنيين وقوّتهم والتفافهم الواثق حول قيادتهم ومؤسساتهم؛ وهو الموقف الجدير كذلك، بدعمٍ عربي إسلامي، موحّد وقوي.
في حين ، أوضح رئيس الجامعة الأردنية الدكتور عبد الكريم القضاة في كلمته مدى حاجتنا اليوم إلى تعزيز قيم الحوار القائمة على التعددية والمشاركة، وتمكين المواطن؛ الغيريّة والخيرية، ونبذ العنف والكراهية والعمل ضمن إطار الأسرة العالمية والشرعية الدولية، مؤكدا سعي الجامعة الأردنية إلى نشر ثقافة الكلمة الصادقة والفكر النبيل بما يعكس الواقع.
وقال إن التعاطي بإيجابية مع التحديات التي تواجهنا اليوم يتطلب إعطاء مساحة للحوار ونشر رسائل السلام، والتضامن الإنساني، مشيرا إلى أهمية إعداد الفرد لهذه المهمة من خلال تفعيل المواطنة ودعم المجتمع المدني وتعزيز المشاركة.
وتطرق القضاة في حديثه حول الإصلاح السياسي الذي تبنته الدولة الأردنية كنهج حكم منذ تأسيسها، ومتابعتها لمسيرته منذ بدء ما يسمى بالربيع العربي، للتعاطي مع الحراكات السياسية والشعبية، معرجا على الأوراق النقاشية الملكية السبعة التي تمحورت حول أسس بناء الديمقراطية، وتطوير نظامه الديمقراطي، والمواطنة الفاعلة وسيادة القانون، وما يرتبط به من تفعيل لآلية الحوار القائم على احترام وجهات النظر وتحديد الأولويات.
رئيس جماعة عمان لحوارات المستقبل بلال حسن التل أكد في مداخلته أن مجتمعنا استسلم للانطباع المبني على الإشاعة والكيد والنظرة السوداوية التي فتكت بالكثير من الحقائق لتاريخ رجالات الوطن، وبتاريخ الوطن وشعبه، مستعرضا لحالات عاشها بلدنا وغابت بها الحقيقة لغياب الحوار ومن ثم قاعدة فتبينوا التي تجعلنا ننصاع للحق وإن خالف هوانا.
وقال التل لقد نسي المجتمع القرار الذي اتخذه الجد سمير الرفاعي بتعريب الجيش عندما كان رئيسا لمجلس الوزراء، تنفيذا لتوجيهات الملك الحسين طيب الله ثراه، وما تحلى به من حكمة وحنكة وسرعة في اتخاذ الإجراءات في لحظة حاسمة من تاريخ الأردن ألا وهي لحظة استشهاد الملك المؤسس، عندما كان الرفاعي رئيسا للوزراء، مشيرا إلى أن ما طبقه الرفاعي من إجراءات ونقل للسلطات الدستورية بسلاسة وهدوء بحسب أقوال الدارسين، حمت البلاد من فوضى عارمة كان مخطط ا أن تقع فيها.
واضاف التل أن زيد الرفاعي ساهم بفاعلية أثناء ترؤسه لمجلس الأمة في نقل السلطات الدستورية من الحسين الباني إلى الملك عبد الله الثاني، كما أنه صمد مع الملك الحسين ووصفي التل وحابس المجالي وأحمد الطراونة في محنة أيلول، مبينا أن المجتمع نسي ذلك كله، وتذكر أن الحفيد والجد ترأسا الحكومة دون تمحيص في الأسباب، ومعتبرا على حد قوله أنه لو كان الأمر أمر وراثة، لما رأينا الكثيرين على كرسي رئاسة الوزراء من أبناء الحراثين والحصادين بل والمعدمين.
إلى ذلك قال عميد شؤون الطلبة الدكتور محمد صايل الزيود إن ما يعيشه الأردن اليوم كدولة راسخة وثابتة تنعم بالأمن والاستقرار والمؤسسية في إدارة شأنها، تأتى من النهج القائم على ثقافة الحوار وأخلاقياته وتقبل الرأي الآخر والتسامح الذي أرست دعائمه مؤسسة العرش الهاشمي منذ بدايات تأسيس الدولة وحتى يومنا هذا.
وأضاف أن ثقافة الحوار التي اعتدنا عليها في حقبة زمنية ليست بعيدة، في ظل مسيرة وطنية ناهضة ترتقي يوما بعد يوم نحو مزيد من التميز في كافة المجالات، بحاجة إلى إعادة إطلاق بما يتناسب وطبيعة المرحلة التي يمر بها الأردن والتي غلب عليها سيطرة آلة الإعلام والمصالح والمنافع وغياب الخصوصية.
وتاليا النص الكامل لمحاضرة رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي التي عقدت أمس الثلاثاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على النبي العربي الهاشمي الأمين، وعلى آل بيته وأصحابه أجمعين
أصحاب المعالي والعطوفة والسعادة،
الأخوات والإخوة الطلاب،
الجمع الكريم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
يشرفني أن أكون اليوم، مع هذه النخبة من أهل العلم والفكر، وبينهم شابات وشباب الوطن، بدعوة كريمة من الجامعة الأردنية، وجماعة عمان لحوارات المستقبل، في هذا الصرح التنويري العريق.
لقد قامت الجامعة الأردنية، منذ تأسيسها، بدور متقدم في رعاية الحوار، والارتقاء به. وكان هذا المدرج منذ تأسيسه، أحد حواضن الفكر والحوار؛ وتعلم تحت سقفه الكثيرون أبجديات الحوار، وآدابه وأخلاقياته.
وعندما نتحدث عن الحوار؛ فإننا نقصد ذلك الشكل المتحضر الراقي من تبادل الآراء والمعلومات، لمجابهة التحديات واتخاذ المواقف الجماعية، بالتوافق والشراكة، على أساس من احترام التنوع، وحق الاختلاف. وقد استند الأردنيون تاريخيا، إلى هذا الإطار المحترم، في الوصول إلى رؤى وتوافقات تثري المسيرة وتمنع الصدام.
فمنذ تشكل المجتمع الأردني، كانت مضافات الأردنيين ودواوينهم، حواضن للحوار والشورى. وهذه سمة أساسية في الثقافة الأردنية؛ ما يجعلني أقول إن الحوار هو جزء من بنية الأردني ثقافيا وسياسيا واجتماعيا.
ومع تأسيس الدولة الأردنية، بدأت مأسسة الحوار، ابتداء من مجالس الملك المؤسس طيب الله ثراه، الذي كان أحد أعلام الفكر والثقافة، بالإضافة إلى كونه قائدا محنـكا، وسياسيا فذا، وثائرا شجاعا.
ثم تعززت منابر الحوار بظهور الصحافة الوطنية، مع مطلع القرن العشرين، ابتداء بصحيفة “الحق يعلو”، التي أطلقها المغفور له الملك المؤسس عند وصوله إلى معان، ليؤكد أن الكلمة الحرة، هي أساس الدولة الأردنية الحديثة، بما تعنيه الكلمة من فكر ورأي وموقف.
ومع بدء الحياة البرلمانية، أصبحت قبة البرلمان، حاضنة للحوار والديمقراطية والتشارك. ثم ظهرت الحياة الحزبية، وانتشرت المعاهد العلمية والمنتديات والهيئات المتعددة، وقد ارتقت كـلها بثقافة الحوار، وأسهمت في توفير البيئة الملائمة له وتعزيز منابره، وعلى رأسها هذه الجامعة الأم، التي تعد خير مثال على ذلك من عهد الملك الحسين الباني، طيب الله ثراه.
وفي عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، حفظه الله؛ شهدت ثقافة الحوار دعما ملكيا كبيرا، ونقلة نوعية، حيث رعى جلالته المنتديات والفعاليات الموجهة لرفع سوية الحوار ومشاركة الشباب فيه، كما سعى جلالته لتوسيع الحوار الوطني، الذي يساهم به أبناء المحافظات ويعزز من مشاركة الشباب والشابات.
أما الدفعة الأكبر التي قدمها جلالته، فتمثلت بالأوراق النقاشية الملكية. وربما كانت هذه ظاهرة فريدة في التاريخ، يقوم عبرها قائد دولة، بتقديم أفكاره ورؤاه بوضوح، وعلى شكل مجالات محددة، ويطرحها للنقاش العام، ويشجع الاشتباك الإيجابي معها.
الحضور الكريم،
خلال العقد الأخير، على نحو خاص، شهدنا الانتقال من الأشكال التقليدية للحوار، والتي راعت الأدبيات، وحددت الأدوات والمفاهيم، وأسهمت في ارتقاء المجتمع وخدمة مسيرة الدولة وبناء المؤسسات؛ إلى الشكل الجديد غير التقليدي للحوار، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي فضاءات العالم الافتراضي، بحيث أصبح الحوار نفسه افتراضيا في كثير من الأحوال، وخرج في بعض الحالات عن الأطر والأخلاقيات التي توافق عليها الأردنيون، والتي تقوم على احترام الرأي الآخر، وصون التنوع، واحترام الرموز وعدم الاحتماء أو الاستقواء بالخارج. وبالطبع، عدم استسهال التشهير والتشكيك وقذف الأعراض والكرامات، وهو ما بات يحدث في كل يوم، بكل أسف.
وهنا، لا بـد من التذكير، بأن الدولة الأردنية، لم تتفاجأ بثورة الاتصال التكنولوجي، وإنما سعت بإرادة وعزيمة جلالة الملك، لنشر التكنولوجيا الحديثة، وتمكين الشباب والشابات من أدواتها؛ حتى أصبح شباب الأردن في مقدمة شباب الوطن العربي ومن المميزين عالميا في مجالات تكنولوجيا الاتصال.
هذه النهضة، أنتجت نقلة كبيرة وغير تقليدية في شكل الحوار، فحولته من اتصال مباشر بين أطراف معلومة، إلى حوار واسع، مباشر وغير مباشر، وأطرافه معلومة أحيانا، وفي أحيان عديدة، غير معلومة.
وبقدر ما لهذه النقلة من إيجابيات، لكنها لم تخل من السلبيات.
فمن إيجابياتها؛ إتاحة منابر إضافية للحوار، أسهمت في توسيعه؛ واستكشاف المزيد من الطاقات والأفكار، ووضعها على محك النقاش المفتوح الواسع، كما أنها منحت للكثير من الشباب أداة لإيصال صوتهم، والتعبير عن آرائهم، ضمن إطار من الحوار الواعي والمهذب، وعززت النقد البناء الذي يلفت نظر المسؤول في أحيان كثيرة إلى مسائل قد تكون بحاجة إلى المزيد من الاهتمام، ما يخدم مسيرة البناء، ويزيد من التنوع ويثري الحوار وحرية التعبير.
أما السلبيات، فهي أيضا عديدة، أبرزها الاعتماد على حوارات العالم الافتراضي والاستنكاف في المقابل عن المشاركة الفعلية والواقعية، سواء في المنتديات والهيئات الثقافية، أو حتى في الأحزاب السياسية؛ فوسائل التواصل الاجتماعي ليست بديلا عن المؤسسات والهيئات وعن العمل الجماعي.
لذا، فإن الدور الذي تقوم به منتديات الحوار، أساسي، ويغطي مساحة مهمة، لا يجوز أن تكون فارغة. وأنوه على وجه الخصوص، بجماعة عمان لحوارات المستقبل، ومستوى حضورها وتفاعلها مع القضايا الرئيسة، وقدرتها على التنسيق وبناء الشراكات، لإقامة حوار مثمر وبناء.
كما ألفت إلى تجارب أخرى عديدة وناجحة لمنتديات وهيئات ثقافية، اعتمدت نهج الحوار والتواصل، وبالذات في المحافظات. وكان لي شرف لقاء نخب من شباب وشابات ومثقفي الوطن، في كافة المحافظات، ولمست مستوى العمق والمسؤولية في طرح القضايا العامة للنقاش، وهو ما يبشر دائما، بالقدرة على تجديد وتوسيع النخب الأردنية، وتجديد شباب دولتنا، وهي على أبواب مئويتها الثانية.
كما أشير، بكل الاعتزاز، إلى الدور الكبير للجامعة الأردنية في خدمة الحوار الوطني، ودمج أبنائنا وبناتنا الطلبة في حوارات متنوعة، بإشراف الأساتذة الأجلاء، وعلى قاعدة من احترام الرأي الآخر، وحماية التنوع وحق الاختلاف.
المسألة السلبية الأخرى لهذا الشكل غير التقليدي من الحوار، هي استخدامه كقناة للحديث أحادي الجانب، والتنظير لا الحوار، فتجد كثيرا من مستخدمي مواقع التواصل، يرسل ولا يستقبل، كما يستخدم الكثير من هؤلاء اللغة الحادة، والتي لا تخلو من خشونة أحيانا، وتصل إلى الشتم والقدح وقذف الأعراض والمحرمات لدى البعض؛ ما أنتج نمورا من ورق، تجد أحدهم يتنمر ويتبجح من وراء الشاشات والحسابات الوهمية أو الحقيقية، ويتمادى في كيل الاتهامات دون حجة أو برهان، لكن يظل النقد البناء الواقعي والصادق مطلوبا وضروريا.
وفي حالات عديدة، آخذة بالازدياد بكل أسف، يصير التنمر نهجا جماعيا منسقا، فترى وسائل التواصل الاجتماعي تمتلئ بحملات تستهدف كل رأي مخالف، أو كل شخص يحاول أن يطرح رأيا لا ترضى عنه عصب المتنمرين، فتنهال عليه الشتائم وعبارات السخرية والتجريح، حتى يصمت ويستنكف؛ فيخسر الوطن تنوعه، ويخسر المجتمع تسامحه، والحوار روحه، والأخطر من ذلك كله، أن الحقيقة تضيع وسط سيول من حملات التنمر والتـشويه وإدارة الاعتقاد، التي تجعل الباطل حقا.
وهي أمور وأساليب تخالف ثقافتنا وعاداتنا. فالأردنيون اعتادوا أن يتخاطبوا ويختلفوا بأدب وتهذيب، دون تجريح ولا إساءات. والأصل في ذلك من ديننا الحنيف، فمن قوله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة * وجادلهم بالتي هي أحسن))؛ وكذلك قوله عز من قائل: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)) هذا هو الأصل، الحكمة والإحسان والتهذيب، حتى مع الأعداء، فكيف مع الأهل وأبناء البلد الواحد والأمة الواحدة، لذا علينا في الحوار والنقاش، أن نلتزم القول اللين، من غير تغليظ أو تعنيف.
ومع شعوري بأننا نمر بمرحلة انتقالية بين نمطين من التواصل، التقليدي وغير التقليدي، وهي مرحلة لها مشكلاتها وأخطاؤها، لكننا سنتجاوزها مع استقرار ثقافة الحوار الجديدة.
لذا لا بد من الاحتكام للعقل والمنطق والحوار الواعي، خاصة أن لدينا في الأردن سياسيين ومثقفين ومؤرخين مستقلين كبارا، من خلفيات واتجاهات متنوعة، وكلهم معروفون باتزانهم، وقادرون على تقديم القراءات والتحليل، ويمكننا أن نحاورهم، وأن نتفق معهم أو نختلف، على قاعدة من الاحترام، مع الثقة بسلامة نواياهم.
وعلى هامش ما سبق، فإن من أهم أركان الحوار الواعي والمنتج، هو تحديد وتعريف المصطلحات، والابتعاد عن التعميم، والتي بغيرها يصبح أي نقاش أقرب إلى “حوار الطرشان”، وقد وقعنا في فخ التنميط والتعميم وغياب الاستخدام الدقيق للمصطلح مرارا، فظلمنا أنفسنا والوطن. ومن ذلك ما درج على تسميته بالمعارضة السياسية، لمجرد الاختلاف في الرأي، أو الاعتراض حول بعض القرارات والسياسات الرسمية، سواء على صعيد الأفراد، أو مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، فالناقد ليس معارضا، بل لديه أفكار وطروحات مختلفة، ومن ذلك اختلافها عن أفكار وطروحات الحكومة أحيانا، وهذا أمر صحي، ولا يضع صاحبه في خانة المعارضة، لمجرد أنه يحمل رأيا مختلفا.
ولكن، لتكون المعارضة السياسية حالة ناضجة، فيجب تأطيرها في أحزاب برامجية، تمتلك رؤى شمولية تعمل من خلالها لتصل إلى تشكيل الحكومات، عبر الآلية البرلمانية الدستورية؛ حيث تظهر المعارضة في صورة أحزاب تمتلك برامج ورؤى شمولية مختلفة، تراقب عمل هذه الحكومات، وتعارضه، وفق برنامجها الذي تراه الأفضل والأصلح؛ تحت مظلة الملك والدستور، وهما الضامنان للديمقراطية والحياة السياسية.
وفي الأردن، وبحمد الله، فإن الغالبية العظمى من الأفراد والأحزاب، يختلفون من أجل الوطن، لكننا أبدا لا نختلف مع الوطن. وسوى ذلك، مما نراه من وجود بعض أشخاص وجهات تمتهن رفض أي وكل شيء، فهو ضرب من العدمية التي لا تنتج نفعا ولا تخدم وطنا، وهذا لا يمثل “معارضة” بالمعنى السياسي للكلمة، بمقدار ما يعبر عن حالات فردية أو انفعالية غير بناءة. لذا فعندما نذكر المعارضة الوطنية، نعني من يعارض من أجل خدمة وطنه، لا من أجل الدوافع أو المكاسب الشخصية، والمناصب والكراسي.
الحضور الكريم،
من القضايا التي تحتاج اليوم إلى المزيد من الحوار، في ظل واقع أمتنا، وما تواجهه من تحديات؛ هو تقييم تجربة الأنظمة والخطابات السياسية العربية، خلال القرن العشرين، وقراءة مآلات المشاريع، والطموحات القومية، وأسلوبنا السابق في التعامل مع التحديات الصعبة. وكذلك، أن نناقش العناوين الرئيسة التي هيمنت على الشعوب العربية، بعد انتهاء الحقبة العثمانية، وامتداد التيارات الفكرية والسياسية المختلفة في منطقتنا، مثل: القومية والاشتراكية والإسلام السياسي وغيرها، ومدى قدرتها على التحقق و تقديم الأفضل لخدمة شعوب منطقتنا.
وكما نعلم، فإن أبرز عناوين تلك الحقبة، كانت: الوحدة، الاستقلال، الاشتراكية، والتحرير.
وعندما نناقش اليوم، حصيلة قرن كامل من العمل والتضحيات، والثروات المكتسبة أو المهدورة، نكتشف أن الإنجاز الرئيس، الذي تحقق في العالم العربي خلال القرن العشرين، كان بناء الدولة والمؤسسات والبنى التحتية.
وهذا للأسف، خسرنا أغلبه، مع انطلاق ما يسمى بـ”الربيع العربي”، حيث شهدت دول عربية، دمارا شاملا، طال مؤسساتها وشبابها ومواردها، واستنزفها في حروب وانقسامات، بلغت ذروتها بظهور تنظيمات متطرفة، عاثت في الأرض قتلا وتدميرا تحت اسم الإسلام، والإسلام منها براء.
وفي ظل ما سبق، وما نعلمه من تشرذم وضعف وتـرد في الواقع العربي، وفي ضوء استخلاص الدروس من تجاربنا في إدارة الصراع، خلال المئة سنة الماضية، يجب أن نطرح السؤال المهم: كيف ستتعامل الأمة العربية، مع صفقة القرن، بما يتجاوز البيانات الرنانة التي سئمتها شعوبنا؟
إن ذلك لن يأتي بالشعارات، وإنما، حكما، بإنهاء الانقسامات والاختلافات العربية – العربية، والفلسطينية – الفلسطينية، وأن نتعامل بشكل منهجي علمي مع التحدي، وأن نستفيد من تجارب العالم حولنا، وأقربها إلينا جيراننا في الاتحاد الأوروبي الذين لا يربط معظمهم تاريخ مشترك، أو لغة، أو عرق، بل أن بينهم، في حالات عديدة، تاريخا من الدماء والاقتتال، لكنهم انتجوا اتحادا أوروبيا متكاتفا متلاحما الكل فيه للواحد، والواحد للكل.
وإذا نظرنا إلى التاريخ القريب، وتذكرنا خطة مارشال التي وضعتها وأشرفت عليها الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدة دول أوروبية على التعافي من الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، ثم قارناها بالشطر الاقتصادي من صفقة القرن التي وضعتها الولايات المتحدة أيضا، لا يسعنى إلا التساؤل: هل العالم العربي عاجز عن تأمين 50 أو حتى 500 مليار دولار، أو أكثر لإعادة إعمار دوله التي تضررت وشارفت على الانهيار في العقد الأخير دون الاعتماد على مساعدات ووعود أجنبية؟.. إن لم نعتمد على أنفسنا فلن تقوم لنا قائمة، ولن نستطيع أن نتصدى لهذه الخطة أو سواها من تحديات، وهي كثيرة.
وهنا تجب الإشارة إلى الموقف الأردني الثابت من صفقة القرن، منذ بدء تلميحات الإدارة الأمريكية حولها، وكيف اتخذت الدولة الأردنية، وعلى رأسها جلالة الملك موقفا واضحا وصلبا، وهو الموقف الذي أبرز وحدة الأردنيين وقوتهم والتفافهم الواثق حول قيادتهم ومؤسساتهم؛ وهو الموقف الجدير كذلك، بدعم عربي إسلامي، موحد وقوي.
وبالأساس، علينا، الآن، وأكثر من أي وقت مضى، أن نؤجل كل خلافاتنا الداخلية والجانبية، التي لن تخدم الموقف الوطني ولا القضية الفلسطينية.
ومع إدراكي أن الغضب هو الشعور الطبيعي تجاه هذا الطرح الأمريكي المخالف للأعراف والقوانين الدولية، لكن يجب توجيه هذه المشاعر، وتوظيفها لرص الصفوف، وتعزيز الـلـحمة الوطنية، والعمل لبناء اقتصاد وطني مستقل، يعتمد على مواردنا الوطنية، خدمة للأردن وفلسطين، وحفاظا على المنجزات الوطنية التي حققها الوطن بقيادته الهاشمية الحكيمة، والتفاف الشعب وتوحده حولها.
الإخوة والأخوات؛
إن هذا البلد المحاط بالأزمات منذ نشأ، والفقير بموارده والصغير بمساحته وعدد مواطنيه؛ استطاع أن يكون ركنا رئيسيا في الإقليم، وواحة للأمن والاستقرار، وأن يصمد ويبني مؤسساته، ويحقق التنمية، وأن يدافع عن قضايا أمته بشجاعة، وأن يفتح أبوابه لأشقائه، ويحمي حدوده وأمنه بقوة، وأيضا، أن يحقق قدرا كبيرا من الديموقراطية والمشاركة. وإن تلاحم الشعب والقيادة وسط هذه الظروف، وإصرار القيادة على الحفاظ على دستور حي ومتطور، يمنع تغول السلطات بعضها على بعض، مع التشجيع على تنمية الحياة الحزبية والبرلمانية وتطوير نموذجنا الديموقراطي، والمحافظة على الهوية الوطنية والعروبية، أمر يستحق الوقفة والدراسة.
وهذه الصورة ليست من قبيل المبالغة. بل هي صورة واقعية، يتحدث عنها البعيد قبل القريب. وهي تمثل النصف الممتلئ من الكأس. وهناك طبعا، صورة أخرى واقعية وموجودة، من فقر وبطالة وحالات من سوء الإدارة الحكومية والواسطة والمحسوبية والفساد المالي والإداري، وواقع اقتصادي صعب، إضافة إلى ضعف الإقبال على الأحزاب، وغير ذلك. ولكن بالمحصلة، فإن الإنجاز أكبر بكثير من الإخفاقات، وبالمزيد من الشراكة والتفاعل، والروح الإيجابية والحوار البناء، نستطيع أن نعالج نقاط الضعف ونبرز عوامل قوتنا.
أكرر الشكر للإخوة القائمين على هذا اللقاء، وللحضور الكريم، وأترك المجال للحوار، والمزيد من النقاش.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته