مرايا – بعد أسبوعين من الذكرى التاسعة للإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، أطاح به الموت مجددًا ظهر الثلاثاء، ليعتزل هذه المرة الحياة، مخلفًا وراءه حالة من الجدل بين مؤيديه ومعارضه.
فالرئيس الأسبق الذي حكم مصر طوال ثلاثين عاما قضاها، ظل خلال السنوات التسعة الماضية ذكرى للمصريين بصفته القائد العسكري الأبرز في نصر أكتوبر ضد إسرائيل عام 1973، وكان محط تأييد ورفض لم يسبق له مثيل منذ 2011.
فارق الفريق مبارك، الحياة بعد معاناة صحية عن عمر يناهز 92 عاما، تولى خلالها رئاسة البلاد طوال ثلاثة عقود، خلفا للرئيس السابق محمد أنور السادات، حتى أطاحت به ثورة 2011.
برز اسم مبارك في حرب أكتوبر 1973، بصفته قائد للقوات الجوية صاحبة ما يعرف بـ”الضربة الجوية الأولى”، التي استهدفت النقاط الحيوية للقوات الإسرائيلية المحتلة في سيناء، ما سهل عملية عبور المانع “المستحيل” وتحقيق الانتصار الأبرز عربيا ضد تل أبيب.
وكان مشهد مبارك وهو يشرح أمام التلفاز خطة تكبيد العدو خسائر، يقدمه دائما في ذاكرة المصريين كبطل قومي، أتيح له حياة عسكرية حافلة بالتكريم عادة، غير أنه لم يكن يعرف آنذاك ما يعده له القدر بعد نحو عامين، إذ اختاره السادات نائبا له في 1974.
وهنا بدأت رحلة النهاية غير المتوقعة، وإن وضعته الظروف في أعلى المناصب، إذ جلس على كرسى الحكم فجأة في 14 أكتوبر/تشرين أول 1981 عقب اغتيال السادات.
وزادت شعبيته مع رفع العلم المصري على شبه جزيرة سيناء في إبريل/نيسان 1982، بعد أن استكمل مفاوضات السلام التي بدأها السادات مع إسرائيل ثم استرجع ما تبقى من الأراضي المصرية، وهي منطقة طابا، عبر التحكيم الدولي عام 1989.
وعمل على إعادة العلاقات العربية المصرية بعد كانت تفرقت بسبب خلافات بين معظم الدول العربية وبين السادات إثر توقيعه اتفاقية السلام مع إسرائيل، وأعاد مقر جامعة الدول العربية إلى القاهرة عام 1990 بعد 11 عامًا من نقله إلى تونس.
وعمّق مبارك وجوده الخليجي والدولي مع دفع مصر عام 1990-1991 بقوة عسكرية (تضم 40 ألف جندي) في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
ومع كبر سن مبارك الأب، برز دور نجله جمال، كرجل دولة، يتصدر مشهد السياسة ويقترب من السلطة مع بدء الألفية الثالثة وسط قلق في دوائر الحكم مع بدء طرح الصحافة مصطلح “التوريث”، في ظل انتقادات طالت الانتخابات والأوضاع الاقتصادية، وهو ما برز مع وقفات احتجاجات غير معتادة.
وفي 2008، كان مشهد دهس صورة مبارك بالأقدام خلال إضراب عمال المحلة الكبرى عام 2008، بمثابة لحظة سقوط مبارك المؤجل، الذي لم يكتمل إلا بعد عامين، مع غضب متصاعد من تعديلات دستورية كانت تمهد لوصول نجله جمال، وفق ما نقلته دوائر السياسة والإعلام آنذاك.
ولم يلبث أن خرج الشعب التونسي في انتقاضة غير مسبوقة أواخر 2010، حتى تكرر النموذج بشكل غير متوقع، في مصر باحتجاجات يوم 25 يناير/ كانون ثان 2011، التي ما لبثت أن تدحرجت كرتها الساخنة دون أن تستطيع خطابات مبارك ومؤيدوه إيقافها أو تبريدها.
وبات شعار “يسقط يسقط حسني مبارك”، أيقونة ترتفع حتى استسلم في 11 فبراير/ شباط 2011 للرحيل طواعيةً، في مشهد يعتبره البعض “موقفا وطنيا لحماية البلاد من الفوضى”، استجابةً لغضب المصريين.
وهناك انتقل مبارك من كرسى الحكم إلى كرسي المطارد بالاتهامات والهتافات الشعبية، ولم يشفع له سنه في منع نقله إلى السجن تحت ضغط تظاهرات واحتجاجات، لينكسر مبارك وأسرته بطريقة غير متوقعة.
ويخرج مبارك أمام الملايين خلف قفص حديدي يحاكم على تهم بقتل متظاهرين، قبل أن يتم تبرئته من تلك التهم وغيرها، ويخرج إلى بيته بعد سنوات من حبسه، ليجد من يترحم على أيامه بصورة غير مسبوقة.
غير أن المعاناة الصحية مع كبر سنه لم ترحمه، وإن رحمته أحكام البراءة وقرارات إخلاء السبيل، فعاد إلى المستشفي أكثر من مرة حتى أصدر الموت حكما نهائيا لا معقب به بأن يوارى مبارك التراب.
لكن اسمه سيبقي في ذاكرة المصريين قائدا عسكريا، لقواته الفضل الكبير في تحقيق الانتصار الوحيد لمصر على إسرائيل عام 1973، ورئيسا سابقا يكيل له البعض التهم وآخرون يترحمون عليه.