مرايا – خوفاً من السجن وهرباً من الشرطة التي حضرت لمنزلها بغية إخلائه لعدم سداد الأجور المستحقة، أصيبت امرأة لديها أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 10-16 عاماً بكسور بعد أن قفزت من الطابق الثاني رغم معاناتها من مرض السرطان، إلا أنها وبكل أسف توفيت يوم أمس (40 عاماً) متأثرة بإصابتها، وفقاً لما ذكرته جارتها المحامية زينات الجريري.
وتعرب جمعية معهد تضامن النساء الأردني “تضامن” عن حزنها وأسفها الشديدين لوفاة “أم العبد” التي عانت من فقر ومرض وخوف دائم من الحبس بسبب تراكم أجرة المنزل، ودفعت حياتها ثمناً لديون قد لا تتجاوز مئات الدنانير بعد صدور حكم بإخلائها. وتجد “تضامن” بأنه كان بالإمكان لا بل من الواجب حمايتها ووقايتها من الموت لتبقى الى جانب أبنائها وأسرتها، لو أن الجهات ذات العلاقة إتخذت الإجراءات والتدابير العاجلة لحل مشكلتها بشكل خاص، ووضعت الحلول المناسبة لقضية الغارمات والغارمين بشكل عام.
حبس الغارمات يهدد الأمن المجتمعي ويؤثر سلباً على أطفالهن وأسرهن
هذا وقد إرتفعت مديونية الأفراد في الأردن لدى البنوك والمؤسسات المالية غير المصرفية من 10.4 مليار دينار عام 2017 الى 10.8 مليار دينار في نهاية عام 2018 وبنسبة 3.7%. وتجاوزت هذه المديونية لدى المؤسسات المالية غير المصرفية لأول مرة حاجز المليار دينار حيث بلغت في نهاية عام 2018 بحدود 1.018 مليار دينار . وتشكل النساء 71% من مقترضي هذه المؤسسات وبعدد 330 ألف مقترضة .
وتقدم مؤسسات التمويل الأصغر القروض للفقراء من أجل البدء بمشاريعهم الخاصة وإنتشالهم من دائرة الفقر، كما تعمل بشكل خاص على التمكين الاقتصادي للنساء مع التركيز على المحافظات خارج محافظة العاصمة، إلا أن هذا الهدف قد إنحرف عن مساره في حالات عديدة فلم تعد القروض مقتصرة على المشاريع الإنتاجية لا بل أصبحت المشاريع الاستهلاكية أكثر رواجاً من قبل مؤسسات التمويل الأصغر والمقترضين والمقترضات على حد سواء .
وتعتبر مؤسسات التمويل الأصغر الحبس المدني للمدين أهم آداة قانونية لضمان تحصيل القروض إستناداً الى نصوص المواد 22-25 من قانون التنفيذ رقم 25 لعام 2007 وتعديلاته، فيما يجد المدينون والمدينات (الغارمون والغارمات ) الى جانب عدد من خبراء القانون والنواب ومؤسسات المجتمع المدني بأن حبس المدين مخالف لنص المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، والذي صادق عليه الأردن ونشره في الجريدة الرسمية عام 2006.
وتتأثر النساء بشكل غير متناسب من هذه الإجراءات القضائية مقارنة مع الرجال، بسبب إفتقارهن للمعرفة بحقوقهن القانونية وضعف قدراتهن في الإدارة المالية تحديداً، أو بسبب ظروف أخرى تفرضها أوجه التمييز وعدم المساواة بين الجنسين في المجالين الخاص والعام.
إن تعرضهن للحبس يهدد الأمن المجتمعي ، وينعكس سلباً عليهن وعلى أطفالهن وأسرهن وقد يؤدي الى التفكك الأسري، ويهدد زواجهن ويوصمن اجتماعياً، ومن جهة أخرى فقد يجبرن على أخذ قروض لصالح أزواجهن أو أحد أفراد الأسرة وبالتالي يقعن ضحية للعنف الاقتصادي الممارس ضدهن ويصبحن مهددات بالسجن أو أنهن يسجن فعلاُ، نتيجة حصولهن أو إجبارهن على الإقتراض من شركات التمويل الأصغر دون وجود ضمانات كافية .
لقد برزت قضية الغارمات بشكل كبير خلال السنوات الماضية مع إرتفاع أعداد النساء المسجونات بسبب عدم القدرة على سداد ديون مؤسسات التمويل الأصغر، وشركات البيع الآجل، أو بسبب ديون تتعلق بفواتير كهرباء أو ماء أو أجرة منزل أو أي دين آخر، الى جانب الآف منهن مطلوبات لدوائر التنفيذ القضائي ، وأخريات غادرن الأردن هرباً من الحبس، أو أنهن حبيسات منازلهن يعشن في خوف وترقب دائميين .
دفعت هذه القضية جلالة الملك عبدالله الثاني وبمناسبة عيد الأم الى إطلاق مبادرة لدعم الغارمات، ولاقت تجاوباً ملفتاً من قبل المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والأفراد وبشكل خاص مؤسسات التمويل الأصغر، الى جانب مبادرات سابقة لهيئة الهلال الأحمر الإماراتي وصندوق الزكاة الأردني اللذان خصصا مبالغ مالية لسداد قروض الغارمات وأخرجا أعداد منهن من مراكز الإصلاح والتأهيل، إلا أن الأهم في مبادرة جلالته دعوته للحكومة والبنك المركزي الأردني ومؤسسات الإقراض للتنسيق فيما بينها لوضع حد لموضوع الغارمات، كون سداد ديونهن يصب في إطار معالجة الآثار والنتائج المترتبة على تعثرهن ولا تعالج المشكلة من جذورها، حيث عادت طلبات التنفيذ القضائي لحبس الغارمات الى الإرتفاع مجدداً .
إضافة الى ذلك، فإن سداد ديون الغارمات قد يشجع النساء على الإقتراض أو قد يجبرن على ذلك بإعتبار أن تعثرهن أو عجزهن عن الدفع لن يقودهن الى السجن، وأن هنالك من سيدفع عنهن وعلى وجه الخصوص بعد إعلان الحكومة عن تخصيص مبالغ مالية كبيرة في الموازنة العامة لما يعرف بسهم الغارمات، خاصة وأن أغلب النساء الغارمات فقيرات ويزداد فقرهن وتتواصل معاناتهن تبعاً لذلك.
إن “حبس المدين” قضية قانونية شائكة، تتداخل فيها مصالح الدائنين والمدينيين، وترهق النظام القضائي والجهات التنفيذية مما يزيد من الأعباء والتكاليف المالية، فهنالك ثغرات في التشريعات والسياسات والممارسات على أرض الواقع لا بد من معالجتها إستناداً الى المعايير الدولية وأفضل الممارسات، لوضع حلول قانونية ترضي جميع الأطراف.
إن الحلول القانونية هي حلول دائمة قد تضمن تطبيقاتها وممارساتها بالشكل الصحيح بالتعاون والتنسيق بين مختلف الجهات ذات العلاقة، عدم تكرار قضية الغارمين والغارمات، وتتوافق هذه الحلول مع أهداف التنمية المستدامة التي تحمل شعار “أن لا ندع أحداً خلفنا”، خاصة الهدف الخامس (المساواة بين الجنسين وتمين كل النساء والفتيات)، والهدف 16 (السلام والعدل والمؤسسات القوية) .
أصل النص على “حبس المدين” يعود لقانون الإجراء العثماني المؤقت لعام 1914 بشرط إستخدامة بمنتهى الحكمة والروية.
نص قانون الأجراء العثماني المؤقت لسنة 1914 الذي كان ساري المفعول في الأردن حتى تم إلغاءه عام 1952 بموجب قانون الإجراء الأردني رقم 31 لسنة 1952، على حبس المدين، وهو القانون الذي إستند في معظم أحكامه على مذهب الإمام أبو حنيفة وتأثرت به العديد من الدول العربية. ومن أهم ما ورد في القانون أسبابه الموجبة التي إنحازت الى جانب المدين.
وعالجت مواد القانون (131-142) حبس المدين في الإلتزامات المدنية والجزائية، حيث يحبس المدين الممتنع عن تنفيذ حكم مالي أو تنفيذ حكم يقضي بتسليم شيء ما أو الإمتناع عن دفع النفقات اللازمة لتنفيذ حكم ما. وتطبق أحكام الحبس على المدين المماطل ولا يطبق على المدين المعسر والمدين حسن النية، فيما يحبس المدين سيء النية بشرط عدم التعجل في الحبس وحتى لا يظلم المدين.
وجاء في الأسباب الموجبة لقانون الإجراء العثماني المؤقت لسنة 1914 بأن :”حبس المدين لا يجدي نفعاً من حيث إستيفاء الحق إذا كان في الحقيقة عاجزاً عن آداء دينه، إلا أن التضييق في الحبس بقصد الحصول على أموال كافية لآداء الدين ضرورة طبيعية كما انه يحول دون تمرد المدين وتساهله في إيفاء دينه، ولذلك أستنسب إتباع هذه القاعدة (الحبس) لأنها قوة قانونية قوية لآداء الدين، بشرط أن تستعمل بمنتهى الحكمة والروية، لأن الأحكام القانونية إنما بنيت على أساس صيانة المدين من الحبس طالما تحقق حسن نيته من آداء الدين والتضييق عليه إذا ساءت نيته”.