كنت على ثقة منذ البدايات التحضيرية لمسلسل «الحنين إلى الرمال»، أنه سيشكل علامة فارقة، على الأقل في السنوات الأخيرة من عمر الدراما الأردنية، في مجمل عناصره الفنية والدرامية، وذلك بسبب التكاملية في الإعداد والتنفيذ، والعمل بروح الفريق المثابر، الذي يشكل دوائر متداخلة، كدوائر الماء تبدأ صغيرة ثم تكبر نحو الحلم.

وفي المجمل، يعود نجاح هذا العمل الذي يعرض في شهر رمضان الكريم على شاشة التلفزيون الأردني، إلى العديد من العوامل، لعل من أبرزها التصاعدية الدرامية المدروسة التي تثير فضولا ما وشوقا للمضي قدما لفتح مغاليق الحكاية، وكشف بنيات الصراع الدرامي بين الشخوص.

ومن هذه العوامل أيضا: الفرجة البصرية. ولعل ما عمق الصورة وأعطاها أبعادا دلالية هو المكان، إذ ظهر بطلا إلى جانب أبطال العمل، وهناك ثلاثية مكانية تكاملت معا في تنوعها البيئي والجيولوجي لتضفي سحرا جغرافيا على العمل برمته، وهي: المدوّرة، ورم، ومنطقة البيضا في البترا، وهي أمكنة محشوة بالنبض، تفوح منها رائحة الأصالة والتاريخ، في كل زاوية منها حكاية بشرية، شكلت معا فسيفساء التاريخ الوطني، وأجاد المخرج في التقاطاته لنبض المكان، ليؤثث صورة بصرية أخاذة في أذهان المشاهدين ووجدانهم.

ومن عوامل نجاح هذا العمل ضخامة الإنتاج من مختلف الجوانب، سواء أكان ذلك في حجم الكادر التمثيلي الكبير، إذ شارك فيه نخبة من أبرز الممثلين الأردنيين، أم في تنوع التقنيات المستخدمة وثرائها من ورش السيناريو ومواقع التصوير والإضاءة والمونتاج الحديث والموسيقى التصويرية، والإكسسوارات والملابس بتنوعها البدوي والقروي والحجازي.

لقد أعاد هذا العمل الثقة بالإنتاج الرسمي الأردني، واعاد الزمن الجميل في إنتاج المسلسلات البدوية التي كانت لها حضورها الكبير على الشاشات العربية وبخاصة الخليجية، فقد رُصدت ميزانية كبيرة لإنجاحه، وهو من إنتاج التلفزيون الأردني وليس من إنتاج القطاع الخاص الذي تراجع في الآونة الأخيرة في بعض الأعمال بسبب غلبة الطابع التجاري عليه، دونما الالتفاف للمضمون والثيم، والرصد الحقيقي لتطور المجتمع الأردني.

وما يُحسب للتلفزيون الأردني في الإنتاج الدرامي هو السياق الرقابي على هذه الأعمال بداية من النص وتقييمه، مرورا بكل محطات الإنتاج ضمن معايير تراعي الجودة والقيمة الفكرية والفنية واحترام ذائقة المشاهد.

ومما يتسم به هذا المسلسل من عوامل نجاح، البراعةُ في السيناريو والتنوع في رسم المشاهد، واستثمار الحكاية التاريخية بطريقة موفقة، إذ إن المسلسل في هيكله العظمي يعالج سلسلة من الأحداث استنادا إلى قصة حقيقية حدثت في أواخر القرن الثامن عشر، قصة الصراع بين قيم الخير والشر في المتن الحكائي، وتتصاعد مشاهد المسلسل بشكل مشوق يتكئ على التنوع البصري؛ التراجيدي والكوميدي، وهناك فضاءات ريفية وقروية تنقل السياق الحكائي إلى التنوع الدلالي والمكاني لتعميق عقدة الصراع والحل.

كما يعمل المسلسل على الترويج السياحي للأردن داخليا وخارجيا، خاصة أنه يعكس البيئة الجميلة في المثلث الذهبي للسياحة الأردنية، ومن هنا فهو نافذة تتيح للعالم النظر إلى المكان الأردني من خلاله.

ومن اللافت أن هناك متابعة كبيرة لهذا المسلسل، سواء تلفزيونيا، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يلاحَظ أن أعداد المشاهدين بعد بث مجموعة من حلقاته وصلت إلى عشرات الآلاف وهي في تزايد وتصاعد، وبخاصة التفاعل الشعبي الكبير من دول الخليج العربي والعراق.

إن ثراء الحكاية الأصلية والإضافات الفنية في السيناريو والحوار، أضاف بعدا جديدا أسهم في تكوين منحى ملحمي للعمل، وقد أرست مجموعة من العناصر هذا البعد، لعل منها: التوتر والقلق، والتراجيديا العالية وكوميديا الموقف، وفضاءات المكان المتعدد، وكوادر الكاميرا، والتشابكات البشرية الهائلة ضمن بؤر الصراع، وتنوع اللهجات والتنوع البيئي، وترسيخ قيم الحق والعدالة، والقتال من أجل نصاعة الحلم، وعدم التخلي عنه.

ويظل هذا العمل في الذاكرة الجمعية، كواحد من الأعمال الأردنية المهمة، يمزج بين البيئتين البدوية والقروية، ويستثمر قصة صراع حقيقي، وهو ملحمي الطابع، صُوّر بأحدث التقنيات بنسخ مختلفة بجميع الصيغ المطلوبة، وربما يعمل هذا المسلسل على التنفيس الانفعالي للمشاهد على حد تعبير سقراط، لأن الفن في الأساس سيكودراما تزودنا بالمسرات، وتحيل القش إلى غابات.مخلد بركات (كاتب أردني)