عجز الموازنات يحول دون إعطاء أولوية لمواجهة أمراض طفولية
لم يكن من السهل على القائمين في وزارة الصحة منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن بناء البرنامج الوطني للمطاعيم حتى تحول الى أفضل البرامج في المنطقة بشهادة منظمات عالمية، غير أن تعاقب الوزراء وأجنداتهم المختلفة للقضايا الصحية، وجوائح عالمية كانت آخرها جائحة “كورونا” جعلت هذا البرنامج يتأرجح على سلم البيروقراطية في إدراج بعض المطاعيم.
هذه الاهتزازات التي تعرض لها البرنامج على مدار السنوات الماضية، لم تقتصر فقط على كيفية مواجهة امراض طفولية زحفت مع اللاجئين السوريين، بل إن المشكلة تكمن في عجز الموازنات الذي قد يحول دون إعطاء اولوية لطرح بعض أنواع من المطاعيم والمماطلة احيانا في تنفيذ اتفاقيات مبرمة بين الأردن ومنظمات عالمية.
“كورونا هي السبب بخلط الأوراق” هي الشماعة التي يعلق عليها اغلب المسؤولين في وزارة الصحة واعضاء لجان استشارية للمطاعيم إجابتهم عن استفسارات جريدة”الغد” حول قضايا مصيرية تتعلق بإدراج مطاعيم جديدة متفق عليها بخاصة مطاعيم الأطفال قبل دخولهم المدارس وبعدها.
هذه الشماعة هي بمثابة “جرس إنذار وتحذير مبكر من مغبة فشل برنامج التطعيم الوطني حتى لا يعود الأردن الى المربع الاول في الجهود الوطنية المضنية التي يبذلها للوقاية من الامراض السارية التي قطع شوطا طويلا على طريق التخلص منها” بحسب خبراء في القطاع الصحي.
ورغم ان منظمة الصحة العالمية أصدرت بيانها امس للتأكيد على شعارها الجديد في الأسبوع العالمي للتمنيع لهذا العام الذي بدأت فعالياته امس وتستمر لغاية بداية أيار (مايو) المقبل بأن “اللقاحات تقرِّبنا أكثر”، غير ان هذا الشعار يبدو أنه لم يطرق أبواب وزارة الصحة، فمنذ استقالة رئيس اللجنة الاستشارية (الفنية) للمطاعيم الشهر الماضي ما يزال هذا المنصب شاغرا حتى الآن.
ومثال على ذلك، عندما اجتمعت هذه اللجنة قبل 10 أيام وضعت على جدولها من سيرأس اللجنة؟ بالإضافة الى عدة موضوعات مهمة من ضمنها مناقشة المشاكل الفنية والمالية التي ستواجه مطعوم المكورات الرئوية الذي يحمي أطفالنا دون الخامسة وكبار السن أيضا من امراض عديدة، غير ان اللجنة لم تناقش اتفاقية المطعوم وتأجل الى أجل غير معلوم، بحسب احد أعضاء اللجنة الذي فضل عدم ذكر اسمه.
وقال المصدر ذاته ، “نعم كانت أولوية اللجنة لقاحات كورونا، وقضايا أخرى، ومضى الوقت دون ان نستعرض المطاعيم الطفولية رغم اهميتها”، موضحا “ان التوصية السابقة لمطعوم المكورات الرئوية بـ”إعطاء اللقاح المقترن ذي السلالات 13 افضل من النوع الذي تم طرحه سابقا وهو السلالة 10″، غير انه استدرك قائلا “حتى هذه السلالة جيدة وآمنة وفعالة وتقي الأطفال من أمراض التهابات الرئة والسحايا والاذن والوسطى وتجرثم الدم وقد تتناسب والإمكانيات المالية للوزارة، فالمفروض ان لا نضيعها سيما ان بكتيريا المكورات الرئوية هي القاتل الأول للاطفال”
ووسط عدم وضوح الرؤية حول المواصفات الفنية والمالية ومصدر المطعوم الذي لا يعرف إن كان مرشحا من الهند، او من دول اوروبية، “لم يتم طرح العطاء الحكومي للمطعوم منذ توقيع الاتفاقية العام 2019 بسبب جائحة كورونا، كما ان العطاءات الحكومية تحكمها ميزانية محددة”، بحسب ما يؤكد مدير برنامج المطاعيم بوزارة الصحة كامل أبو سل الذي قال، “نحن نطرح العطاءات المتعلقة بالمطاعيم والموازنة تحكمنا”.
أما السفارة الاميركية، وفق المتحدث الرسمي لها دان مانجس فإن “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لم تدع لاختيار لقاح بعينه، لكنها أوصت بدلاً من ذلك بأن تتبنى وزارة الصحة خيار المنتج الآمن والأكثر فعالية من حيث التكلفة والذي يتمّ تحديده من خلال طرح عطاء مستقل كامل ومفتوح”.
وأضاف مانجس في رده على تقرير صحفي للتعرف على أسباب عدم تنفيذ اتفاقية ابرمت مع الوزارة من اجل تحصين حوالي 230 الف طفل من حديثي الولادة مجانا ضمن المرحلة الأولى، ان “الوكالة الأميركية ما تزال بانتظار ردّ رسمي من وزارة الصحة بشأن خططها لاختيار وتمويل لقاح ناجح يوازن بين التكلفة والفعالية التقنية والاستدامة، لاسيما في وقت تفرض فيه جائحة كورونا ضغطاً مالياً هائلاً على القطاع الصحي”.
يشار الى أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وقعت في آذار (مايو) 2019، اتفاقية مع وزارة الصحة لتقديم لقاح المكورات الرئوية بشكل مستدام. وبالتعاون مع البرنامج الوطني الأردني للمطاعيم، تم وضع خطة الشراء والتنفيذ.
واعرب وزير الصحة الأسبق الدكتور غازي الزبن عن اسفه لما تؤول اليه الاوضاع الصحية في البلد تحت وطأة انتشار “كورونا” وحالة التردد والتخبط السائدة والتراجع عن العديد من الاجراءات التي اتخذتها الوزارة للنهوض بالواقع الصحي.
وأبدى الزبن استهجانه من عدم إدخال مطعوم المكورات الرئوية ضمن البرنامج الوطني للتطعيم لغاية اليوم، والجهود التي بذلت للحصول على الدعم بمنحة “سخية ولسنوات طويلة.
فيما ذهب الناطق الرسمي السابق لوزارة الصحة حاتم الأزرعي الى أن المشكلة تكمن في ضياع بوصلة مهام وزير الصحة، قائلا “مأساة حقيقية ان ينشغل وزراؤها بقضايا يومية روتينية هي من مهام رؤساء الأقسام والشعب، ويتناسون ان مهامهم وضع الاستراتيجيات ورسم السياسات الصحية”.
وأضاف، إن المعركة الدائرة رحاها بضراوة اليوم مع فيروس كرورنا “ينبغي ألا تنسي وزارة الصحة ان لدى الأردن برنامج تطعيم استراتيجيا اهم بكثير من التطعيم للوقاية من كورونا وان تراجع هذا البرنامج ينذر بعواقب صحية سيئة”.
غير أن أبو سل يشير الى أن الوزارة “تحرص على مواكبة التطورات العالمية في الوقاية من الأمراض المعدية عبر إدخال مطاعيم جديدة إلى برنامج التطعيم الوطني وبما يتماشى مع توصيات منظمة الصحة العالمية واللجنة الوطنية الفنية الاستشارية للتطعيم التي اوصت بإدراج مطعوم المكورات الرئوية والروتافيروس، منذ العام 2015”.
أما مطعوم التهاب الكبد نوع (أ) فقد تطلب إدراجه في البرنامج حوالي 5 سنوات (ادرج العام الماضي في ظل جائحة كورونا).
جاء ذلك في سياق المحافظة على الصحة العامة، وبخاصة للمواليد الجدد الذين تقدّر أعدادهم بنحو ربع مليون سنويا، ويحصلون على لقاح من جرعتين، توفّرها الوزارة مجانا بمعدل يقدر بنصف مليون لقاح سنويا وبكلفة ثلاثة ملايين دينار.
ولم يقتصر الأمر عدم وضوح الحقائق حول مطعوم المكورات الرئوية بل تحول الى قرارات “متخبطة” ارتكبها البرنامج الوطني واللجنة الاستشارية للمطاعيم وبعض المسؤولين في الوزارة حول مطاعيم المدارس للصف الأول الابتدائي والصف العاشر، وارتباطه بظروف التعليم عن بعد واستراتيجية تحصين الطلبة من الفئات المستهدفة، عدا عن خلط الأهالي بين لقاحات كورونا وعزوف اغلبهم من تحصين أطفالهم من الثلاثي (الدفتيريا والكزاز، الشلل الفموي).
وزير الصحة الأسبق، الدكتور محمود الشياب اعتبر في حديثه ، أن أهم أولويات وزارة الصحة، “تقوية مناعة الأطفال في الصف الأول ضد 3 أمراض معدية، وهو ما يعتبر من أهم استراتيجيات البرنامج الوطني للتطعيم”، مشيرا الى أن هذا البرنامج، الذي تأسس في تسعينيات القرن الماضي، أصبح من أهم البرامج في منطقة الشرق الأوسط، ويجب المحافظة عليه.
وقال الشياب، وهو أخصائي أطفال، لا بد من رفع المستوى التوعوي بينهم الناس حول أهمية المطاعيم، محذرًا من الأخطار الصحية على الأفراد والمجتمع في حال انتشار الدفتيريا وشلل الأطفال والحصبة، وتزداد آثارها السلبية في حال تم فقدان السيطرة عليها.
ويؤكد مدير منظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط الدكتور أحمد المنظري في بيان صحفي أمس، أن “اللقاحات كانت وما تزال، أحد أنجع تدخلات الصحة العامة وأكثرها فعاليةً في إنقاذ حياة الملايين على مر السنين. وتتجلى أهمية التطعيم هذا العام أكثر من أي وقت مضى. وتستطيع اللقاحات المأمونة والفعَّالة أن تُحدِث ثورة، وأن تُغيِّر مشهد الاستجابة العالمية لجائحة كورونا”.
وبحسب المنظمة التي أقرت ان إقليم شرق المتوسط ما يزال يواجه تحديات خطيرة تقف عقبة أمام التطعيم، مثل ضعف النظم الصحية، والنزاعات، والحواجز المادية الاجتماعية، والتردد في أخذ اللقاحات، فإن “اللقاحات لا تحمي الأطفال فقط، بل تحمي الناس على اختلاف أعمارهم. وبفضل التقدم العلمي والتكنولوجي، نشهد اليوم زيادة في إنتاج اللقاحات التي تحمي أعدادًا أكبر من الناس من أمراض أكثر”.