مرايا -صدر عن دار الشروق في عمان ورام الله، رواية بعنوان “أسرى وحكايات-من فن السيرة في السجون”، وهي أول عمل أدبي للأسير الفلسطيني أيمن ربحي الشرباتي (المواطن)”، وقد كتبها في سجن نفحة الصحراوي، يتناول فيه الشرباتي جزء من سيرته وسيرة من معه في المعتقل، وما يرافق رحلة الأسر من معاناة وقصص وما يتولد عن التجربة من حكايات إنسانية.
على غلاف الرواية كتب المحامي حسن عبادي يقول “إن الكتابة خلف القضبان متنفس الأسير، يرسم الوطن وقوس قزح يتكور في أعالي السماء ليعانق شمس الحرية؛ قصة اسرانا لم تحك بعد؛ بقيت مهمشة، منسية مغيبة لكل منهم حكاية وقصة، وهناك ضرورة ملحة لتوثيقها، كل أسير وحكايته، وروايتها تشكل فسيفساء لأسطورة نضالية يشهد لها التاريخ، تلك اللوحة لم تكتمل بعد؛ لأن معظمهم لم يحكوها و/أو لم يكتبوها ولكل ظروفه وأسبابه، وها هو الأسير ايمن الشرباتي يصدر بعضا مما دونه من فن السيرة في السجون ليضع لبنة ويبني مدماكا في طريق شاق وطويل نحو الحرية المنشودة؛ لعلها تسهم في الفكاك المرجو من تلك المحنة التي تلازمه منذ أقفلت خلفه بوابة الزنزانة؛ وما زالت الأقفال تنتظر مفاتيحها، والقيود ترنو إلى من يحطمها”.
بعنوان “سيرة المواطن أيمن الشّرباتي ورفاقه”، كتب القاص الفلسطيني محمود شقير يقول إن أيمن الشّرباتي يكتب أجزاء من سيرته وسيرة رفاقه في السّجون الصهيونية بلغة حافلة بوفرة من المجازات والاستعارات. يكتب أيمن المحكوم بالسّجن المؤبّد عن معاناته في السّجن وعن معاناة رفاقه، ولا تخلو كتابته من فكاهة عَذْبه ردًّا على تجهّم الزّنازين وجدران السّجون.
ويرى شقير انه يمكن أن نتلمّس المعاناة في كتاب أيمن حين يموت شقيقه ذياب، فيأتيه الخبر فجأة وهو يمارس الرّياضة الصّباحيّة، ينقله إليه أحد رفاق السّجن بعد تردّد وحرج، فتصبح الحال مع أيمن غير الحال، يحلّ الحزن ويخيّم ألم الفراق الذي تُخفّف منه مشاعرُ المواساة التي يبديها الزّملاء تجاه زميلهم المنكوب، وحين يحاول أحدهم تصيّد الإذاعة المحليّة في الخليل التي تبثّ خبر الجنازة بثًّا حيًّا، فإنّ الأمر لا يتحقّق بالسّهولة المتوخّاة؛ هنا تتبدّى براعة الوصف وردّ فعل السّجين على صعوبة التّواصل الفعليّ مع الخارج، لكنّه يستحضر هذا الخارج عبر الكتابة ويجسده في فضاء الزّنزانة خير تجسيد، حين يصف الحيّ والبيوت والمقبرة، وحين يصف شقيقه المتوفّى وأيامه معه، ثمّ يطيل الوصف والسّرد إلى أن يظفر زميله بالعثور على بثّ الإذاعة التي تابع أيمن بثّها وتحقّق له نوع من التّواصل بينه وبين الأهل هناك، وتلك إشارة إلى قوّة الإرادة في مواجهة السّجن والسّجّان”.
يصف الشرباتي في هذا العمل، وفق شقير: حياة الأسرى في السّجن، وعلاقات التّكاتف التي تجمعهم وتوحّدهم ولبعض الخلافات فيما بينهم، وفيه تأمّلات عن السّجن والسّجّان بلغة وصفيّة رصينة مطعّمة بسجع غير متكلّف، وبإشارات لغويّة إلى الخارج مستمدّة من التّلفاز ومتابعة مباريات كرة القدم وبرامج الغناء.
ولا تلبث السّيرة أن تذهب إلى الماضي القريب لتظهر لنا فرقة كشّافة من الخليل خيّمت فوق جبل، وراحت تمارس حياتها بكلّ التّفاصيل والأخلاقيّات والقيم التي تتطلّبها مفاهيم الحركة الكشفيّة، لتُفاجأ الفرقة بمداهمة قوّات الاحتلال لها، لكنّها تصمد في مكانها، وتشاء الصّدف أن تنقلب إحدى سيّارات المحتلّين وتنزلق نحو الوادي أسفل الجبل. هنا تنقسم فرقة الكشّافة بين مؤيّد لإسعاف الجنود الجرحى وبين رافض لذلك، ويمتدّ الصّراع والمجادلات ثمّ ينتصر الفريق الدّاعي إلى مدّ يد العون كاشفًا عن النّزعة الأخلاقيّة العالية التي يتحلّى بها هؤلاء الفتية المؤمنون بعدالة قضيّتهم الوطنيّة وبما تشتمل عليه من قيم نبيلة تحسب لصالح النّضال الوطنيّ الفلسطينيّ.
بعد ذلك؛ تعود السّيرة إلى الدّاخل، فيرسم أيمن الشّرباتي لوحة مفصّلة للسّجن وللزّنازين التي يعيش فيها أيمن ورفاقه، وللإرادة الصُّلبة له ولرفاقه الذين يتحدّون تجهّم الزّنازين وقسوة العيش فيها على امتداد السّنين، وكيف أنّ الانتقال القسريّ إلى زنزانة أخرى في طابق علويّ يتحوّل إلى فرصة لمشاهدة الخارج من نافذة الزّنزانة، وإلى نقلة إيجابيّة يحوّلها الأسير بوعيه وإرادته إلى أمر إيجابيّ يشحذ الهمم برغم ظلام الزّنازين وسوء معاملة السّجّانين.
وينوه شقير الى ما يلفت الانتباه في هذه السّيرة هو حسّ الفكاهة التي تظهر بين الحين والآخر في ثنايا النّصّ، وهي التي أطلق عليها الكاتب صفة “الكوميديا الاعتقاليّة” التي تعني خلق الظّروف التي تقهر الرّوتين المتكرّر في السّجن، وتفيد من كلّ الظّواهر المستمدّة من عالم السّياسة وصفقات تبادل الأسرى ومن عالم الرّياضة والمسلسلات التّلفزيونيّة ووسائل الاتّصال الحديثة لتحوّلها إلى مادة فكاهيّة عذبة؛ أو لسخرية مرّة من بعض المؤسّسات المفترض فيها متابعة شؤون الأسرى. وهذه كلّها؛ مضافًا إليها تلك اللّطائف اللّغوية والإشارات الذّكيّة، تدلّل على ثقافة أيمن الشّرباتي المتنوّعة، وعلى متابعته لأدقّ التّفاصيل التي تحدث داخل السّجن وخارجه سواء بسواء.
وتستمرّ المناكفات المرحة بين الأسرى، ومن بينها تلك التي تقع بين “أبو كنعان” الأسير المزمن في السّجن والأسير الشّاب إياد لنخرج باستنتاج يبسّطه الكاتب في نصّه إذ يقول: “فالضّحك يبقى السّلاح الأخير الذي يمتلكه الأسرى لمصارعة جبروت الجدران وسطوة السّجّان والقضبان التي يفرضها واقع السّجن على أيامنا وأحلامنا الأسيرة”.
ويؤكد شقير على انه برغم صمود الأسرى في السّجون وتحدّيهم الشّجاع للسّجن وللسّجان إلا أنّ الأمل بالخروج من هذا الظّلام إلى فضاء الوطن وإلى أحضان الأهل يأخذ مساحة واسعة من وقت الأسرى، فتظلّ عقولهم ومشاعرهم مشدودة إلى أيّ خبر عن صفقة تبادل الأسرى بوساطة ألمانيّة أو مصريّة، وخصوصًا الأسرى القدامى الذين أمضوا سنوات طويلة في السّجون.
ويخلص شقير الى ان هذا الكتاب فيه تعبير وافٍ عن تلك التّطلّعات المشروعة، وعن تلك المشاعر الحرّى التي لا تتحقّق في كثير من الأحيان جرّاء تشدّد المحتلّين وعنصريّتهم، وجرّاء الانقسام بين فتح وحماس الذي يسقط بعض الأسماء من قائمة التّبادل ما يُدخل مرارة إلى النّفوس، وما يدفع إلى ضرورة التّعجيل بإنهاء هذا الانقسام. وتلك واحدة من الرّسائل الوطنيّة العديدة التي يحفل بها هذا الكتاب.