أكد رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري أن هناك تقصير من الدولة والحكومات تجاه قضايا كثيرة، تبدأ بالسياسي ولا تنتهي بالاقتصادي والاجتماعي ومعيشةِ الناس.
وقال خلال كلمته بالمؤتمر الدولي ” الملك المؤسس الشخصية والقيادة والتاريخ” في جامعة الحسين بن طلال الثلاثاء، إن تقصير الدولة أو عجزها أو فشلها، أو ترهّل إداراتها، لا يعني بأي حال من الأحوال أن المصلحةَ تكون بأن نرتدَّ على الدولة، من خلال السماح بطغيان أو إعلاء قيمة أية عصبية فرعية أو جهوية، فالدولةُ ومؤسساتُها هي ملاذُ المجتمعاتِ والأفرادِ في أزمانِ اليوم ولا ملاذَ غيرها.
وأضاف أن من غير المعقول، ومن غير المنطق، وبعد مئة عام من عمر الدولة في بلادنا، ومهما كانت الأسباب والذرائع، أن نجد أنفسنا نرتدّ إلى علاقات اجتماعية وسياسية بينية كانت سائدة ما قبل الدولة في مجتمعنا.
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد بن عبد الله، النبي العربي الهاشمي الأمين
وإذ أحييكم في هذا اليوم الممتع في معان، قلعة الوطنية والقومية وعنوان الوفاء، نستذكر فيها شخصية الشهيد الملك عبد الله بن الحسين، مؤسس هذه الدولة التي نحتفي بانقضاء مئوية تأسيسها الأولى في هذا العام.
وأحيي كافة القائمين على الجامعة: رئيس مجلس الأمناء، والاستاذ رئيس الجامعة الدكتور عاطف الخرابشة والأساتذة الأكارم ،،
أحييكم جميعاً على جهودكم وعلى إقامة هذا المؤتمر وأشكر الحضور الكرام على تواجدهم معنا اليوم.
السادة الحضور الكرام..
ونحن نحتفي بقيمة ومعنى مرور مئة عام على تأسيس دولتنا الأردنية الحديثة، لعلّ من نافلة الكلام ” التأكيد على أننا نعي وندرك أن البلاد الأردنية قبل نشوء الدولة ” كانت عامرة بأهلها الطيبين أبد الدهر.. فتاريخ نشوء الدولة الحديثة في بلادنا شيءٌ، وحضور أهلها وعمرانهم لها في بواديهم وأريافهم وحواضرهم شيء آخر تماماً وهو أمر لا شك ولا لُبس فيه.. أقول هذا ونحن الملدوغون في هذه المنطقة من العالم بأدبيات المشروع الصهيوني التي ما تزال تسعى بوصم هذه المنطقة بأنها كانت خالية من السكان..!
ولا يغيبُ عن بالي وأنا أقفُ في معانَ الأبيّةَ اليوم أن أذكر وأؤكّدَ على الرمزية العميقة التي سَطرَها ابنُ معانَ الشهيد المقدم منصور كريشان دفاعاً عن قضية الأمة المركزية في القدس وفلسطين. وها هُم اليومَ وأهلُ معانَ ما زالوا يحملون رمزيتَهُ من بعدهِ في ضميرهم ووجدانِهم وهِمَمِهم دفاعاً عن الأمةِ وكرامتِها.
السادة الحضور الكرام..
بالتأكيد إنّ هناك قيمةً بالغةً ومعنىً عميقاً لمؤتمركم هذا؛ معنىً وقيمةٌ يمتدان عميقاً في دلالات الزمان والمكان؛ التي وصل الأمير المؤسس إليها في تشرين الثاني من العام 1920، بينما كانت مناطق وأقاليم البلاد الأردنية تديرها حكومات محلية منفصلة أنشأها الانتداب البريطاني في فلسطين، في محاولة يحذو فيها حذوَ الانتدابِ الفرنسي في سورية، الذي أسقط لتوّه في معركة ميسلون الحكومةَ العربية فيها، محاولاً إدارة البلاد العربية السورية بحكومات مجزّأة، ومنها بلادنا الأردنية، التي عاشت آنذاك فترة مؤقتة من الفراغ السياسي والأمني والتجزئة؛ تلك التجزئة التي انتهت بالتوافق الذي حدث في مؤتمر القاهرة، ومن ثمّ القدس، بين الأمير عبد الله وبين تشرتشل بإنشاء أول حكومة عربية شرق أردنية مركزية، قامت بتوحيد البلاد الأردنية آنذاك؛ لتقود الوقائع الإقليمية والعربية، بعدها بخمسة أعوام، إلى توافقات ونتائج أخرى، جعلت من منطقتي معان والعقبة جزءاً أصيلاً من البلاد الأردنية التي هي الآن (المملكة الأردنية الهاشمية)؛ ونحن اليوم أيضاً في معان الزمان الأردني الذي ارتبطت بها انعطافةُ التاريخِ الديمقراطي الأردني الجديدة، التي باركها الراحل الحسين في ميثاق العام 1990؛ ونحن اليوم أيضاً في جامعة الحسين بن طلال، في معان، التي لم تتمكّن الدولة من إنشائها هنا إلا في عهد الجيل الرابع من عهد المؤسس؛ إلى عهدُ حفيده الملك عبد الله الثاني ابن الحسين ؛ فكلُّ بقعة ومنشأة ومؤسسة في بلادنا عامرة وزاخرة بالدلالات والقيمة والمعنى لما عاناه وكابده أهل هذه البلاد في بناء مرافق دولتهم على امتداد مئة عام مضت؛ فطوبى للعاملين والمكافحين والمصابرين إنجازهم وما راكموه من مفاخر وصروح علمٍ حُقَّ لهم أن يُباهوا بها.
السادة الحضور الكرام..
كثيرٌ هو ما يمكن أن يقال عن شخصية الملك المؤسس، وأظن أن الإخوة المشاركين في هذا المؤتمر سيُغنونَ هذه الشخصية الكبيرة حقها في البحث والتحليل وإنتاج المعارف بتفاصيلها. وسأترك لهم الولوج في هذه الدراسات العميقة.
الإخوة الأعزاء..
إنّ آباءنا وأجدادنا صنعوا في هذه البلاد وطناً عربياً أردنياً عظيماً، خلال المئة عام الماضية، أساسه الدولة الوطنية التوّاقة إلى دولة عربية واحدة، وطموحاتٌ منطلقةٌ من فكرةِ وآمال الثورة العربية الكبرى التي أجهضت القوى العظمى آنذاك إمكانية تحقيقها كواقع على الأرض.
إذ لا جماعة مميّزة أو مفضّلة في هذا الوطن النبيل، بل مواطنون أفراد متساوون أمام القانون والدستور. ولا فضلَ لمُواطنٍ على آخرَ إلا بمقدار تقديمه للمصلحة العامة في حياته ومواقفه.
تعرفون أيها الإخوة ما عانته البلاد الأردنية في العهد العثماني، وخصوصاً غياب الأمن والإدارة فيها إلى ما قبل انهيار السلطنة العثمانية بعقود قليلة؛ ولهذا، كان من الطبيعي أن تكون العشيرة والقبيلة هي السلطة التي تحمي الناس وتوفر لهم الأمن وإدارة شؤونهم اليومية؛ كان هذا هو حال معظم المناطق الأردنية قبل نشوء الدولة فيها. مع ما كان يرافق ذلك من غزو واقتتال على المصالح بين القبائل المجاورة في الإقليم، وما يراكمه ذلك الاقتتال من خصومات ونزاعات تجرّ بعضها. وكما تعرفون، فقد أخذ هذا الأمر جهوداً عظيمة من عمر الدولة استمر لعقود طويلة منذ نشأتها؛ فقد تولى الجيش العربي في عقود العشرينيات والثلاثينيات تنظيم مؤتمرات ومصالحات أمنية وعشائرية مع قبائل ودول الإقليم من أجل إنهاء ذيول خصومات سابقة لإنشاء الدولة؛ وكان ذلك واحداً من مهمات الدولة الكبرى في بناء نفسها ومجتمعها في هذه البلاد، والذي تلته جهود أكبر في توطين واستقرار العشائر المترحلة. كل ذلك يُحسب للدولة ولأهلها ولمجتمعها، وهو من مداميك البناء الرئيسية في صناعة النسيج الاجتماعي الوطني لمجتمع الدولة المدني.
وعليه، فقد كانت هذه الدولة الوليدة نموذجاً لدولة التفاهم والقانون، وسبقت الكثير من دول الجوار في مجالات البناء الأساسية، في التربية والسلام والتعليم والأمان وفي تطوير مستوى الحياة الاجتماعية والمفاهيم الحضارية.
الإخوة الكرام..
من غير المعقول، ومن غير المنطق، وبعد مئة عام من عمر الدولة في بلادنا، ومهما كانت الأسباب والذرائع، أن نجد أنفسنا نرتدّ إلى علاقات اجتماعية وسياسية بينية كانت سائدة ما قبل الدولة في مجتمعنا.
صحيح أننا نفتخر جميعاً بانتماآتنا العشائرية والقبلية، ونعتزّ بالقيم والأخلاق الحميدة التي أنتجتها أصولُنا البدوية والعربية، وتحكم تعاملاتنا اليومية في الصفح والتسامح والكرم والاحترام. غير أن إعلاءَ أيةِ هويةٍ فرعيةٍ في مجتمع اليوم أمامَ هوية المواطنة الواحدة هو برأيي سلوكٌ وأداءٌ سَلبيٌّ وضد فكرة وجود الدولة الحديثة من أساسها.
فبالتأكيد هناك تقصير من الدولة والحكومات تجاه قضايا كثيرة، تبدأ بالسياسي ولا تنتهي بالاقتصادي والاجتماعي ومعيشةِ الناس. غير أن تقصير الدولة أو عجزها أو فشلها، أو ترهّل إداراتها، لا يعني بأي حال من الأحوال أن المصلحةَ تكون بأن نرتدَّ على الدولة، من خلال السماح بطغيان أو إعلاء قيمة أية عصبية فرعية أو جهوية، فالدولةُ ومؤسساتُها هي ملاذُ المجتمعاتِ والأفرادِ في أزمانِ اليوم ولا ملاذَ غيرها.
وبالتأكيد أيضاً، أن الدولة والحكومات قصرت كثيرا في مئويتها الأولى في الالتفات إلى كثير من التحديات التي تنفجر في وجوهنا اليوم؛ وأننا لن نستطيع العبور بالحد الأدنى من الأمان إلى مئوية الدولة الثانية من دون مراجعات صارمة وحازمة لكلّ ما قصرنا في إنجازه.
ولقد حذّرت ونبّهت مراراً وتكراراً، كما فعل غيري العشرات من أبناء هذا الوطن، إلى أهمية وضرورة بناء هوية وطنية جامعة، وإلا فإنّ البديل هو تعاظمُ شأنِ هوياتٍ فرعيةٍ، قد تصبحُ متناحرةً، بما يعنيه ذلك من نتائجَ فادحةٍ على المجتمعِ والدولةِ في آنٍ معاً.
الإخوةُ الأعزّاء..
في ظروفٍ اجتماعيةٍ بالغةِ القسوةِ على الناس، فإنّ الدولةَ، ولا أقولُ الحكومات، ينبغي أن يكون لها عقلٌ وقلبٌ.
عقلٌ يستوعبُ، ويعقِلُ عُمقَ التحوّلات الإقليمية الكبرى؛
وقلبٌ رَحيمٌ يُدركُ شِدّةَ ضغوطِ الحياةِ وقسوتِها على الشرائح الاجتماعية الأوسع؛
وبين مهمّات العقل ومهمّات القلب، على الدولةِ، وحدها، تقع مسؤوليةُ العبورِ الرحيمِ بالناس إلى بَرّ الأمان، وبأقلّ الخسائر الممكنة. هَكذا تعوّد الأردنيون عُبورَ مِحَنهم التاريخية الصَعبة، وهَكذا أحسَبُ أنّهم يرجون للحظتهم الراهنة أن تكون؛ عُبورٌ حكيمٌ، بعقلٍ راشدٍ وقلبٍ رَحيم.
وإذا صَحّ أنّ ثمّةَ أبواباً كثيرةً للحوار والإصلاح الجذريّ، ويعرفها غالبية الأردنيين، بفطرتهم وغريزتهم وتجاربهم العملية، وما راكمته تلك التجارب من راسبٍ عميق، في يقينهم ووُجدانهم، فإنّ ثمّة باباً آخر، واحداً ووحيداً، للتطرّف والتجاوز والفوضى، لم يُشكّل يوماً خياراً في حياة الأردنيين السياسية والاجتماعية، وأحسبه لن يكون..؟
في يقين مُعظمِ الأردنيين، هناكَ ثقةٌ مطلقة بوجودهم، وطناً ودولةً ونظاماً سياسياً هاشمياً. وهوَ يقينٌ وثقةٌ، عند الأردنيين، بوطنهم وهويتهم وأمّتهم، لم تُزَعزِعُهما عواصفُ عابرةٍ أو عاتيةٍ، تستندان إلى إرثٍ ماديّ متراكمٍ ومحسوس، في عُمر الوطن والدولة والهوية والنظام. إرثٌ، من اليقين السياسيّ والثقة المؤمنة، وصلَ لِتوّه عمرَ المئة عام. ولم يعودوا بحاجة لإثبات ذلك فقد مارسوه مراراً وتكراراً.
إنّ تعظيمَ الإيجابياتِ والجوامعِ، في مشهدنا الوطني العام، هو أمرٌ مطلوبٌ ومحمودٌ، وهو ما نتمسّك به، وندعو الجميعَ إليه، أفراداً ومؤسسات، رسميين ومعارضين، تأكيداً ليقين الأردنيين التاريخي، في وطنهم ودولتهم ونظامهم، وطرداً لكلّ أشكال الهواجس، الطارئة والعابرة، سواء كان أصحابها مغرضين أو أصحاب تقديرات خاطئة.
أبوابٌ كثيرةٌ للإصلاحِ الحقيقيّ.. وبابٌ ضيّقٌ للتطرّف. وعلى الدولة، وحدها، أن تجترحَ كلّ الوسائل لإغلاق ذلك الباب الضيّق للتطرّف، وأن تبتكر وسائلَ خلّاقة وحقيقيّة لذلك الإصلاح الحقيقيّ المنشود. وأوّلُ الإصلاحِ هو المصارحةُ والصدقُ والمكاشفةُ.. وهو ما أكّدت عليه في كلّ دعواتي خلالَ الأعوام القريبة الماضية. الشعبُ يريدُ إصلاحاً حقيقياً مستداماً لا يتم بالقطعة ولا يكون هدفه كسب الوقت ، فالعالم يتغير جذرياً وبسرعة ودول الإقليم تراجع حساباتها وسياساتها وتتعامل مع مصالحها.
الإخوة الكرام..
تتزايد الضغوط على الدولة الأردنية باضطراد، داخليا وخارجيا، وعلى النظام السياسي أيضاً، مع وصول معظم القوى المؤثرة في هذا العالم إلى يقين بضرورة إنهاء القضية الفلسطينية وحلها؛ وهي قضيةٌ تشكّلُ ومآلاتُها النهائية صَميمَ ومصيرَ ومستقبلَ المصلحةِ والوطنِ الأردني، مع تزايد الطامعين والطامحين بأدوار لهم في نهاياتها. ولن نستطيع أن نكون مؤثرين وقادرين على حماية مصالحنا إلا بإعادة إدراك دورنا الحقيقي في المنطقة، وقيمة وجودنا الجيوسياسي. وإذا كان صحيحاً أن إصلاح مؤسسات الدولة مطلوباً، بما في ذلك إصلاح وتطوير كامل مناخ العمل السياسي في البلاد، فيبدو أنّ ما هو أصح هو، في اللحظة الراهنة، هو تحصين الدولة ومؤسساتها، والاصطفاف خلف قيادتها، واجتراح أُطرٍ مبتكرة للإصلاحات الجادة والحقيقية.
وقد ذكرت سابقاً، وأكرره هنا اليوم (أنّ مئوية الأردن الثانية، ومنذ بدايتها، لن تشبه سابقتها. وأنّ العبورَ إليها بالحدّ الأدنى من الأمان يتطلّب أن نعيد التعرّف على ذاتنا استراتيجيا من جديد، وأوّل إعادة التعرّف على الذات وممكانتها هو التقييم الاستراتيجي لموقعنا الجيوسياسي المكتسب، وقيمته لنا وللآخرين، وماذا نملك منه ومن عناصر التحكّم به، بل وماذا نمتلك من عناصر الإرادة السياسية الذاتية للمفاوضة استناداً إليه. وفي رأيي، أنّ ذلك الإدراك، وإعادة التقييم، ربما تكون أوّل مداميك مصلحتنا في المئوية الثانية، بعد أن استهلكتنا وقائع المئوية الأولى وحرائقُها الإقليمية في الوقوف لحظة تقييم وتأمل استراتيجي، من أجل معرفة ما لنا وما علينا، وهو أبرز ما تقوم به الشعوب والأمم، وخصوصاً عند الوقوف في محطّاتها الكبرى، كي تتمكّن من البقاء في دوائر الفعل السياسي، قبل أن يطردها الطامحون والطامعون إلى أرصفة تلك المحطات، وخارج دوائرها).
أختم بمقولة إبن خلدون والتي تقول ( إنّ الرخاءَ والازدهارَ والأمنَ تساهمُ في الحدِّ من العصبيةِ، بينما الحروبُ والخوفُ والفقرُ تعزّزُ من العصبية).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته