مرايا – كتب – د. مهند العزة : كنت قد كتبت هذه المقالة عقب انقلاب أحدهم على عمليّة مراجعة وتحديث منظومة الحياة السياسيّة، لكنني آثرت وقتها عدم نشرها إيماناً منّي بأنّها قد تساهم ولو بالنذر اليسير في تحقيق مأربه الواضح للعيان في تسويق نفسه بطلاً هماماً وثائراً لا يشقّ له غبار، وهو من وجهة نظري أبعد ما يكون عن ذلك للأسباب التي سنوردها لاحقا، إلى أن استرعى انتباهي بضع أقلام انبرت ترسم للرجل لوحةً ليس فيها شيء من ملامحه، إذ استوحِيَت من الانحياز الافتراضي بوصفه نمط التفكير السائد بين عدد من الإعلاميين والنخب قبل غيرهم، والواقع أنّ هذا ليس بالأمر المفاجئ، فمن يجعل من ثلّة متآمرين على أمن الوطن ونظام حكمه ثوّار وأحرار، ومن يصنع من متطرّف منشقّ يجاهر بالتحريض على احتلال عاصمة دولته وتهديد رأس النظام فيها بالقتل أيقونةً للشجاعة… بينما ينصب المشانق لكلّ صاحب رأي أو فكر مختلف أو مخالف ويحاسب الناس على ما لم يقولوه…؛ ليس غريباً عليه أن يبيح وعيه لكلّ عابث وعقله لكلّ من يدغدغ غدّته “السُخامِيَّة”.
يبدو أن “قضيّة الفتنة” قد فتحت شهيّة العديدين من الباحثين عن أكتاف يعتلوها وترندات يركبوها، فتفشّت صناعة الفنكوش تفشّي متحوّر الهند في ربوعها ودلتا في الأرض وقارّاتها.
آخر فناكيش الأردن التي لا تنتهي، كانت تدشن موضة نقل النزاعات والتجاذبات ذات الطابع الرسمي من غرفها المغلقة إلى الفضاءات الافتراضيّة وإعلان المواقف والاستقالات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يشير إلى سريان حمى الشعبويات في أوساط النخب والمتشبّثين بأهدابها التي من أبرز أعراضها الإتيان بتصرفات تفتقر للحنكة من حيث الكيفيّة والتوقيت والتبرير، بعبارة أخرى، تصرفات عشوائية تنسجم مع التيارات الديماغوجية حيث مرتع الفناكيش ومعقل الدراويش.
“الحَرَد والانقلاب مع عدم إغلاق الباب”، وجد فيها قوم “تكلّم كثيراً دون أن تقولَ شيءً” ممارسةً مزدوجة الفائدة، فهي من جهة تحقق لصاحبها الشعبويّة المطلوبة من خلال قلب ظهر المجنّ للمنظومة التي بايعها واشترى بضاعتها، ثمّ تمرّد عليها لشهرة عاجلة دون تفويت المصلحة الآجلة، مع حصانة من المسائلة عن سبب ارتداده آخر النهار عمّا آمن به أوّله، وعن حقيقة ما بذله من جهد للتغيير أو التطوير، فالصراخ يطغى على صوت العقل وارتداء قميص الثائر يصرف الأنظار عن سوءة مرتديه. من جهة ثانية، فإنّ عدم إغلاق الباب على الرغم من الانقلاب سوف يترك له مجالاً للعودة إن تراجع وتاب. تماماً مَثَله في ذلك مَثَل عازف نشاز أقحم نفسه في فرقة تغيّب عن بروفاتها فلم يحضر منها سوى آخر اثنتين أو ربّما “ثلاثة”، فعزف نشاز، فلم يستمع له أحد، فغضب وغادر مبرّئاً نفسه بنسج حكايات وتصوّر مؤامرات، معلّلاً انخراطه بالجوقة وخروجه منها وربّما عودته إليها في المستقبل؛ بأكلاشيه مطربي الدرجة الثالثة في عقدي السبعينيّات والثمانينيّات: “الجمهور عاوز كده”.
التقلّب في المواقف والاتّجار بها على الرغم من أنّه رذيلة، إلّا أنه يتحول إلى كبيرة ثقيلة حينما يُمارَس بفجاجة على قارعة الصفحات والحسابات الإلكترونية والتعامل مع المتابعين وكأنّ لهم ذاكرة السمك، فترى المتقلّب يصوّب سهامه بعنف “الفاجر إذا خاصم” نحو منظومة سعى ليكون جزءًا منها ودخلها راغباً طامحاً طامعاً، والمحزن أنّه يجد بين صفوف المصطفّين في طوابير انتظار الفارس المغوار؛ من “يُفرمِت” عقله ووعيه فيدور في فلكه من جديد. هذا النوع من تجّار التجزئة في سوق “شيّلنِ وشيّلَك” هو أسوأ من الشيطان الذي وصفته الآية الكريمة في سورة الحشر ببلاغة إذ تقول: “كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله رب العالمين”، إذ يبدو الشيطان هنا أكثر تصالحاً مع نفسه، فما أن أوقع بضحيّته حتى أعلن عن حقيقة مأربه دون أن يبحث عن حجج ومبررات ومسوغات لما أتاه من غواية وبهتان.
ثقافة العناوين والأقوال المأثورة والزجّ المفتعل في كثير من الأحيان بمصطلحات أكاديميّة عربيّة وأجنبيّة في كل سطرين… ربما تنجح في تضليل غير المتخصصين من المتابعين الذين قد تُسحَر آذانهم بحديث الشخص فيرون فيه مصدر المعرفة ورأس الحكمة، لكنها حتماً في إدراك المتخصّصين الذين يحترمون عقولهم ولا يبيعونها لكلّ عابر سبيل؛ أداة للتجميل ودليل على خواء فكري واضمحلال في المحتوى والمضامين.
الفارق بين من ينتصر لرأيه وتاريخه المهني ومكانته العلمية والثقافية حتى لو لم يؤمن به سوى قلّة من الجمهور، وبين متقلّب يسعى لزيادة عدد المتابعين ورصّهم ذات الشمال وذات اليمين إلى أن يصبحوا بضاعةً يساوم عليها ويستبدلها بما هو “خير”، كالفرق بين مغني أوبيرالي يرتقي بجمهوره إلى عنان السماء بسموّ فنّه ورقيّ الأداء، ومطرب الموالد الذي يقتات على كل الموائد، ثمّ يتجشّأ وهو يردد: “نخبوي إلى حين وشعبوي حتى يأتيني اليقين، والجمهور عاوز كده”.