دعا سمو الأمير الحسن بن طلال رئيس منتدى الفكر العربي إلى خطواتٍ من شأنها أن تفعّل فكرة “القدس في الضمير” من خلال العناية بالتراث المحفوظ ومن ضمنه المكتبات الخاصة بالمخطوطات والكتب في بيت المقدس وفلسطين . وقال: إن النهضة الفكرية تبدأ بفكرة بسيطة وهي تكريم الكتاب والقارىء، لكن تحقيقها يتطلب التفكير في إبداعها واقعياً ؛ موضحاً سموّه أهمية تدويم الذاكرة، واعتماد ارسالتنا إلى العالم الخارجي على وضوح الرؤية والفكر التحليلي.

جاء ذلك خلال مشاركة سموه في اللقاء الحواري الذي عقده منتدى الفكر العربي بالتعاون مع مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس، يوم الأربعاء 25/8/2021، عبر تقنية الاتصال المرئي، حول المكتبات ومراكز التراث في بيت المقدس، والذي شارك فيه عدد من مسؤولي مكتبات المخطوطات والتراث في القدس وخبراء في النشر وأكاديميون متخصصون من الأردن وفلسطين.

كما دعا سمو الأمير الحسن إلى الانتقال للذاكرة الإلكترونية لمواجهة تحديات قائمة ما تزال تهدد المخطوطات والكتب بالتلف والتدمير والاندثار، كما حدث للمكتبة اللطيفية في غزة التي تناثرت وتبددت مخطوطاتها نتيجة القصف الذي تعرضت له في الغارات الجوية من جانب قوات الاحتلال؛ ومشيراً إلى أن تجمعاً من المفكرين المستقلّين والكُتَّاب العالميين قد تكوّن في الغرب من أجل السعي لإنقاذ الكتاب في فلسطين في ضوء ذلك.

وحذر سموه من التفريط بالحقوق غير القابلة للتصرف والتي تصرف بها المحتلون بصور بشعة وحرموا أهلها منها، موضحاً أن ذلك يعني انتحاراً فكرياً إلى جانب الانتحار البيئي والانتحار المجتمعي، ومشدداً على تعزيز المحتوى الفكري للإعلام والتعليم في حماية التراث بشتى أشكاله، وضرورة متابعة اللقاءات في موضوع الشأن المقدسي، ولا سيما أن البُعد الثقافي أصبح بوضوح جزءاً أساسياً من الصراع.

وأضاف سموه أن هنالك حاجة لتفعيل التواصل على عدة مستويات، ومنها إيصال الرسالة إلى العالم الإسلامي من خلال المؤتمر الإسلامي المقبل في الرباط نهاية هذا العام، والتواصل مع النظام الشرقي الذي هو أقرب إلينا مسافةً وفكراً، حيث لا يوجد في الشرق استشراق ومستشرقون، وهنالك العشرات من طلابنا عرفوا هذا النظام، والذي نأمل أن تتبلور ضمنه عملية التكامل بين دول آسيا الوسطى وآسيا الغربية بما يساعد على إعادة رونق المشرق العربي ودوره . كما أكد أهمية التواصل مع إخواننا العرب المسيحيين، ولا سيما الكُتَّاب والمثقفين المسيحيين في الداخل الفلسطيني وخارجه الذين يمثلون شركائنا في الإرث التاريخي والثقافي والحضاري.

وأشار سموّه إلى اللقاء الدولي السادس حول “المواطنة الفاعلة نحو مجتمعات حاضنة للتعددية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” الذي عقده المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمّان 19 – 22/8/2021 بالتعاون مع جامعة دار الكلمة ببيت لحم ؛ وقال : إن الشباب فئة مستهدفة في مثل هذه اللقاءات لدورها الفاعل في صنع التغير، وكونها الفئة الأكثر تعرضاً للهجرات وخاصة هجرات الأدمغة، ولا سبيل للحفاظ على هذه الأدمغة دون التواصل الفكري وترسيخ أسسه.

كما أشار سموّه إلى إيجابية مضمون وثيقة الملتقى الأكاديمي المسيحي للمواطنة ؛ مؤكداً أهمية تسليط الضوء على الدور الفاعل والإيجابي للدين في رفد المواطنة ولا سيما بعد حقبة الربيع العربي، ما يعني العودة إلى أصول الدين بالشكل السليم ودون تسييس.

شارك بالمداخلات في هذا اللقاء، الذي أداره الوزير الأسبق والأمين العام للمنتدى د.محمد أبو حمّور، كل من: مؤرخ القدس د.محمد هاشم غوشه المدير العام لمركز الحسن بن طلال لدراسات القدس، والأستاذ جبر أبو فارس رئيس اتحاد الناشرين الأردنيين، و د.خضر سلامة مدير المكتبة الخالدية، والأستاذ راغب البديري مدير المكتبة البديرية، والأستاذ محمود الأنصاري عن مكتبة المرحوم فهمي الأنصاري، والمهندس عرفات عمرو مدير المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى المبارك.

وألقى د.محمد هاشم غوشه في بداية اللقاء الضوء على اهتمام عائلات القدس وعلمائها باقتناء الكتب والمخطوطات المتنوعة، وتأسيس المكتبات، حيث تم التعرف على عدد لافت من المكتبات الخاصة في القدس من خلال مخلّفات وتركات العلماء، رغم تبدّد الكثير منها بوفاة من جمعها، مما يمثّل إشارة مبكرة دالّة على الحال الذي آلت إليه الكتب في القدس من تناقص عددها وسوء التصرف بها.

وأشار د.غوشه إلى اهتمام العثمانيين بوقف المصاحف، والربعات الشريفة، وإيداعها خزائن قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ومن بينها مصاحف وقفها سلاطين وأمراء وعسكريون وشيوخ، وكانت للعثمانيين مكتبات مهمة في مختلف العلوم. وعدّد د.غوشه بعض أشهر وأبرز مكتبات عائلات القدس التاريخية، التي اعتنت بالمخطوطات والعلوم، ومنها مكتبة عائلة الخالدي، ومكتبة عائلة البديري، ومكتبة فهمي الأنصاري، إضافة إلى مكتبة المسجد الأقصى المبارك التي تضمنت مخطوطات أعيان ومشاهير وعلماء.

وناقش المتداخلون من جهتهم دور المكتبات في الحفاظ على عروبة وإسلامية مدينة القدس، لما تعكسه المخطوطات، والكتب، والوثائق، وغيرها من المقتنيات، الحضارة العربية الإسلامية للمدينة، إلا أن هذه المقتنيات تواجه سياسات التضييق من جانب الاحتلال الإسرائيلي حتى لا يتم أداء رسالتها الثقافية والحضارية، إضافة إلى تعريضها لإهمال متعمّد يعرّضها للتلف. وأشار بعض المتداخلين إلى أن استدامة موروث مكتبات بيت المقدس عملية طويلة تستمر على مدى أجيال، وهي بحاجة إلى دعم مؤسسي، للحفاظ على مقتنياتها، وترميمها، وتطوير المكتبات والمتاحف بما يتناسب مع التكنولوجيا الحديثة.

وألقى د.محمد هاشم غوشه مدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس، الضوء على اهتمام عائلات القدس وعلمائها باقتناء الكتب، والمخطوطات المتنوعة، وتأسيس المكتبات، حيث كانت أولى مكتبات القدس التي ذُكرت في السجلات الشرعية مكتبة القـاضي أبو المحاسن محمد بن نسيبة الخزرجي المتوفى سنة 1530م. كما تم التعرف على عدد لافت من المكتبات الخاصة في القدس من خلال مخلّفات وتركات العلماء، رغم تبدّد الكثير منها بوفاة من جمعها، بسبب استيلاء الناس عليها، والتصرف بها بالبيع والهدية للأعيان، مما يمثّل إشارة مبكرة دالّة على الحال الذي آلت إليه الكتب في القدس من قلّة وجودها وسوء التصرف بها.

وأشار د.غوشه إلى أنّ اهتمام العلماء باقتناء الكتب لم يقتصر على المقدسيين فقط، حيث ظهر اهتمام العثمانيين جليّاً بوقف المصاحف، والربعات الشريفة، وإيداعها خزائن قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ومن بينها مصاحف وقفها سلاطين وأمراء وعسكريون وشيوخ، وكانت للعثمانيين مكتبات مهمة أيضاً، وعدّد د.غوشه بعضاً من أشهر مكتبات عائلات القدس التاريخية، التي اعتنت بالمخطوطات والعلوم، ومنها مكتبة عائلة الخالدي التي تقع في حارة باب السلسلة، ومكتبة عائلة البديري التي تقع لصق باب المجلس أحد الأبواب الغربية للمسجد الأقصى المبارك، ومكتبة فهمي الأنصاري، إضافة إلى مكتبة المسجد الأقصى المبارك، وجميعها مكتبات تواجه مخاطر شديدة تتحداها من أجل الاستمرار والبقاء في القدس.

وقال الوزير الأسبق والأمين العام للمنتدى د.محمد أبوحمّور في كلمته التقديمية: إنّ الاهتمام بأوضاع المكتبات ومراكز التراث والثقافة في مدينة القدس وفلسطين جاء بتوجيه من سمو الأمير الحسن بن طلال، لما تضمّه هذه المكتبات من كنوز غالية في التراث الفكري العربي والإسلامي والعديد من المخطوطات في العلوم والآداب، ما يمثل مختلف عصور حضارتنا، ويدل على أن فلسطين ومدنها من مراكز الحضارة، وفي مقدمتها مدينة القدس، كانت وستظل رافداً من روافد حضارتنا وشخصية الأمة وتراثها العروبي الأصيل، فضلاً عن مكانتها الدينية والروحية.

وأوضح د.أبوحمّور أهمية توعية الرأي العام بأهمية المكتبات ومراكز التراث العربية الفلسطينية في القدس، والاتجاه نحو عمل عربي وإسلامي مؤسسي مشترك للحفاظ عليها، ودعمها، وتعزيز مكانتها ودورها، وحمايتها من مختلف الأخطار التي يمكن أن تتعرض لها؛ ذلك أن حفظها، وصيانتها، وتنميتها، واستثمارها، وإدامتها بكلّ السُّبل ضرورة من أجل بقائها شاهدة على عروبة وإسلامية المدينة المقدسة وتراثها، الذي يتعرض للطمس والمحو والتهويد.

وبيّن جبر أبو فارس رئيس اتحاد الناشرين الأردنيين، دور اتحاد الناشرين الأردنيين في دعم القارئ والمؤلف والناشر الفلسطيني بهدف الاستمرار في صناعة الثقافة على المستوى المحلي والعربي؛ إذ قام اتحاد الناشرين الأردنيين بالتعاون مع اتحاد الناشرين الفلسطينيين واتحاد الناشرين المصريين واتحاد الناشرين العرب بعد العدوان الأخير الواقع على غزة بالتبرع بـ 240 طرداً من الكتب المتنوعة التي جُمعت من دور النشر الأردنية كافة. كما يُجهّز اتحاد الناشرين الأردنيين حالياً لمعرض عمّان الدولي للكتاب هذا العام، والذي ما يزال يحمل شعار “القدس عاصمة فلسطين الأبدية” منذ عام 2017، والذي سيشمل مبادرة للتبرع بالكتب للمكتبات الفلسطينية، ليتم شحنها بالتعاون مع وزراة الثقافة الفلسطينية.

وأشار أبو فارس إلى التسهيلات التي يقدمها الاتحاد لدور النشر الفلسطينية من خلال شحن كتبها إلى عمّان، ثم شحنها إلى جميع المعارض العربية، حتى تستمر مشاركة الكاتِب والمؤلِّف الفلسطيني في صناعة الثقافة العربية.

واقترح د.خضر سلامة مدير المكتبة الخالدية، بعض الحلول العملية من أجل تطوير المكتبات في القدس، ومنها توفير الخبرات الملاءمة والدعم المالي الكافي للعمل على مشروع لترميم المخطوطات، لما تتعرض له هذه المخطوطات من تآكل بفعل تخزينها في أماكن رطبة غير مناسبة وللحفاظ عليها بصورة سليمة، إضافة إلى القيام بتوحيد فهارس المخطوطات المقدسية، ووضعها في كتالوج متكامل وشامل يشتمل على عناوينها والمعلومات حولها كافة، بما في ذلك أسماء المؤلفين، وأسماء النُسّاخ، وأماكن النسخ، مما يسهل عملية البحث عن المخطوطات، وتوفير هذا الكتالوج على الموقع الإلكتروني للمؤسسة القائمة على هذا المشروع.

وأضاف د.سلامة أن المكتبة الخالدية تقوم حالياً مع مكتبات القدس الأخرى على إنشاء موقع الكتروني مشترك لهذه المكتبات، تحقيقاً لأكبر إفادة ممكنة من المخطوطات، والمطبوعات، والوثائق، والكتب المتوافرة فيها جميعاً، خاصة للباحثين والطلاب من مختلف الأقطار العربية.

وأوضح راغب البديري مدير المكتبة البديرية أهمية وضع برامج وآليات لنشر الوعي عن المكتبات كافة في القدس، والبناء على الجهود الفردية التي يبذلها القائمون على المكتبة البديرية، المتمثلة في تنظيم زيارات لطلبة المدارس والجامعات إلى المكتبة، للتعرف عليها وعلى مخطوطاتها، وعرض ما تحتويه من ثقافة، وتراث، وحضارة، وتاريخ لمدينة القدس.

وأكد البديري أن هذه الجهود التي يبذلها القائمون على المكتبة بالتعاون مع بعض أفراد العائلة ليست إلا جهوداً ضيقة ومرهونة بدخل محدود، مما يتطلب دعم مالي مؤسسي للاستمرار في تطوير المكتبة. كما من الأهمية بمكان إيجاد حلول لعواقب المخاطر التي يتعرض لها الوجود البشري للعائلات المؤسِّسة للمكتبات المقدسية، من أجل ضمان استمرارية الحفاظ على الموروث الثقافي والحضاري.

وأشار محمود الأنصاري من مكتبة فهمي الأنصاري إلى أهمية مساهمة الأجيال المتعاقبة في الحفاظ على المكتبات في القدس، والاستمرار في ضمّ المزيد من الكتب والمخطوطات إليها؛ إذ ما تزال الجهود الفردية لبعض أفراد عائلة الأنصاري مستمرة، خاصة في جمع الصحف لتطوير أرشيف خاص بها كان جمعه مؤسس المكتبة الأنصارية فهمي الأنصاري على مدى 60 عاماً، إضافة إلى العمل المستمر على عزل مخطوطات المكتبة وترتيبها حسب أولويتها في الترميم، وذلك بعد بقائها في الصناديق لمدة 12 عاماً.

وبيّن المهندس عرفات عمرو مدير المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى الواقع في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى على بُعد بضعة أمتار من المسجد الأقصى القِبَلي، التحديات التي يواجهها المتحف الإسلامي بفعل ما يمارسه الاحتلال من سياسات التضييق على المتحف، ومن خلال منع ادخال المواد اللازمة لترميم المخطوطات ومقتنيات المتحف من مجموعات خشبية، وسيراميكية، وزجاجية، وقماشية، لما تعكسه من آثار وإبداعات الحضارة العربية الإسلامية، إضافة إلى منع دخول الخبراء والمتخصصين لمعاينة هذه المقتنيات، عدا عن المصادرة التي تواجهها الكتب والموسوعات التي تُضاف إلى المتحف.

وأضاف عمرو أنه بالتعاون مع وزارة الأوقاف الأردنية ودائرة الاوقاف الإسلامية تم إحصاء وتصنيف جميع مقتنيات المتحف، وتصويرها، ونقل هذه المعلومات والصور إلى حواسيب المتحف الإسلامي، إلا أن هذا العمل وغيره بحاجة إلى المزيد من الدعم المستمر بهدف أداء رسالة مقتنيات المتحف الحضارية والثقافية بشكل كامل.