مرايا –
منذ أقدم العصور اتسع إدراك العالم لدور المعلم الذي لا يطأ موطئا إلا وكان له الأثر والوقع الجميل في النفس البشرية، ومن أجل هذا تسعى المجتمعات إلى تعزيز دوره المعلم، وتكريس وعي مجتمعي بمركزية هذا الدور في تنشئة جيل متعلم ينتفع من علمه المجتمع.
وتجسيداً لمعاني وأهداف التعليم النوعي، انطلقت جائزة الملكة رانيا العبدالله للتميز التربوي في العام 2006، لتقول كلمةً سنويّةً بحق معلمين متميزين رفدوا المجتمع بطاقات عقلية كفؤة.
وفي اليوم العالمي للمعلم الذي يصادف اليوم الأربعاء، يُهندِس المعلم المثابر مصطفى صالح منصور وعيَ تلامذته منذ سنين طويلة، ويبدو نطاسيّاً بارعاً في عمليات صياغة الشخصية، عبر إيصال معلوماته الثرية التي يعرف أنها تحفر عميقا في وجدان التلاميذ، متجاوزا السياقِ التقليدي في إلقاء المعلومة والتلقين إلى طرائق ابداعية صاغت وعياً وشخصيات، أسعدته وهو يطالع نتاج صنيعه المتميز في النشء.
وتأتي احتفالات هذا العام، وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) تحت شعار “التحول في التعليم يبدأ بالمعلمين”.
مصطفى صالح منصور أستاذ مادة التدريب العملي لتخصص الاتصالات والإلكترونيات في مدرسة وصفي التل الثانوية في مديرية قصبة اربد، الفائز بجائزة الملكة رانيا للتميز التربوي لعامي 2007 و2011، يقول لوكالة الأنباء الأردنية (بترا)، أنه بدأ مسيرته المهنية بعد حصوله على شهادة الدبلوم في الهندسة الكهربائية، وفي الأمس القريب بفضل الله حصل على شهادة الماجستير في القياس والتقويم.
ويستعيد مصطفى ذكرياته الأولى وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، قبل 36 عاما، حين كان لمعلمه في اللغة العربية عبدالله أبو رحمة (يرحمه الله)، بصمة مشرقة أثّرت فيه، ودفعته كي يكون معلما يقتدي بسيرته الطيبة وحضوره الإيجابي.
ويضيف، ان أستاذه الراحل وبتمكنه وإخلاصه وشغفه، ذلل أمامه الصعاب وأكسبه جميل التذوق للغة وحب القراءة والإطلاع “وترك في نفسي بل حتى في مستقبلي أثرا لا أجمل منه، فقد أيقنت من أسلوبه المتميز وحرصه وعطائه اللامحدود، أن المعلم المحب قادر على التغيير ودفع الطلبة بمختلف قدراتهم نحو التعلم وتحقيق الذات والسير بخطى واثقة نحو الآمال والأحلام والطموحات.
ويكثر مصطفى من الحمد لله على أنه اكتسب ثقة طلبته وترك فيهم أثرا طيبا يلمسه دوما سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، قائلا: “أزعم أنهم سيصفونني بالكثير من العبارات الإيجابية كالقدرة على تبسيط المعلومة وإصراري المستمر على تحفيزهم لوضع أهداف يسعون لتحقيقها”.
ويشير إلى أن تمكن المعلم وحرصه على طلبته والتزامه وسعيه المستمر لتطوير أدائه وأدواته، تجعله قدوة أمام طلبته، واصفا إياهم بأنهم رائعون حين يستوعبهم المعلم، وهم كذلك يطمحون حين يلمسون التحفيز والثقة بقدراتهم من المعلم لأنهم لبنة أساسية في مستقبل الوطن، وهم عماد رفعته وتطوره. إنهم هم قادة المستقبل.
التدريس رسالة سامية بأهداف عالية
وعن أهدافه من التدريس، يؤكد مصطفى أهمية أن يعي المعلم دور تنميته لقدرات طلبته في كافة المجالات ليصبحوا مبتكرين مبدعين قادرين على مواكبة التطورات المتسارعة في العلوم التطبيقية من خلال إكسابهم الخبرات التربوية والتفكير العلمي، ولعل إيمانه العميق بأن الطلبة كافة قادرون على التعلم والإبداع، فإنه يسعى جاهدا لغرس وتحفيز دافعيتهم للتعلم المستمر.
ويسعى مصطفى دوما ليكتسب طلبته القيم المثلى والعادات الحميدة والسلوك القويم والقدرة على السعي الجاد والمنظم من خلال الثقة بنفسهم وقدراتهم لتحقيق الأهداف والآمال والطموحات، وتاره من أجل هذا يُشرك طلبته في التخطيط والتحضير لمحتوى الحصة ووضع سيناريو ممتع ومتسلسل لأهداف الدرس كافة من خلال صياغة العديد من الأسئلة التي تحفز الطلبة على المشاركة والتفاعل.
ويشير الى أنه يتواصل مع أولياء الأمور بشكل مستمر لوضعهم بالملاحظات سواء الإيجابية أم السلبية للتعاون في تقويم سلوك الطلبة، غايته بأن يصبح مستشارا مؤتمنا يلجأون إليه عند حدوث أي مشكلة.
ويستطرد: إنني أعشق مهنتي ومؤمن بأهمية رسالتي لهذا أسعى جاهدا لتطوير ذاتي على الصعيد المهني والأكاديمي، وأواكب التطورات في مجال تخصصي وللتمكن من أدوات التكنولوجيا الحديثة، رائيا أن التطور المستمر والقدرة على قيادة التغيير الإيجابي، هما من أهم الأهداف، فالمعلم المتسلح بالمعرفة والمؤمن برسالته يساهم بشكل كبير في صناعة وإعداد الإنسان لمستقبل مشرق.
وفي هذا تبين جمعية جائزة الملكة رانيا العبدالله للتميز التربوي، أنها تبدأ بعد التكريم الملكي، مسيرة عمل مع المتميزين ضمن ميثاق عمل مكتوب، يسعى إلى دعم مسيرتهم والمساهمة في نشر وتعميق ثقافة التميز بما يطور العملية التربوية وعناصرها كافة، حيث تؤمن جمعية الجائزة إيمانًا راسخًا بأهمية دعم المتميزين ليكتبوا فصولاً جديدة في كتاب التميز، فهم الذين أثبتوا أنفسهم وقدراتهم بإيجاد حلول أفادت كل من حولهم وألهمت الآخرين ليحذوا حذوهم.
وكانت جمعية الجائزة أطلقت في العام 2013 نادي المتميزين ليوفر مساحة افتراضية للفائزين بجوائز التميز وليمارسوا دورهم كفرسان التغيير من أجل إحداث أثر ملموس في مجتمعاتهم.
وتشير جمعية الجائزة في دراسات قامت بها لتقييم أعمالها إلى أن هناك الأثر الإيجابي للمتميزين على أقرانهم من خلال إحداث تنافس إيجابي ونقل خبرات متميزة، ولهذا عملت مع وزارة التربية والتعليم على إعداد خطة لاستثمار هؤلاء المتميزين على مستوى المدرسة والمديرية والوزارة.
وتسعى وزارة التربية والتعليم وفقا للخطة الاستراتيجية ( 2018- 2022 ) إلى تقديم خدمات ذات جودة تعليمية عالية، بانتهاج سياسة متكاملة لتتبع جودة التعليم والتعلم في المؤسسة التعليمية، وبما يضمن قطف ثمار النتاجات التعليمية، ومواكبة التطور السريع في تكنولوجيا المعلومات.
المعلم المتميز.. ومواكبة المستجدات
أستاذة التربية في كلية العلوم التربوية في جامعة الحسين بن طلال الدكتورة ديمة محمد وصوص، تقول: يواجه هذا العصر تطوراً معرفياً وتكنولوجياً متسارعاً، وكي نستطيع أن نواجه ونواكب هذه التطورات لا بد من إعداد الأفراد بطرق تمكنهم من التعامل والتفاعل مع المستجدات الحديثة.
وأشارت الى أن النظام التربوي بكافة عناصره هو المسؤول لتحقيق هذا التطلع، ويقع على عاتق المعلم باعتباره أحد العناصر الأساسية المكونة للنظام التعليمي الدور الأكبر في إحداث هذا التطور وتنميته ورعايته، وفي ظل هذه المستجدات برز مفهوم جديد يوصف الدور الحديث للمعلم الذي يتماشى ويواكب روح هذا العصر وهو (المعلم المتميز).
وتشير الى أن المعلم المتميز هو القادر على التعامل مع كل جديد في الميدان التربوي، من خلال تهيئة بيئة تعلم تحث الطلبة على استثمار طاقاتهم وتوجيهها إلى تحقيق الأهداف التربوية المنشودة، وهذا يتطلب توظيف استراتيجيات وطرائق تعلم حديثة توفر جو من التحفيز والإبداع والاستكشاف لدى الطلبة، موضحة أن معلم اليوم ليس كمعلم الأمس (الملقن) في ظل امتلاكه لأدوات العصر والتطلع إلى المستقبل.
وتركز وصوص على أن هناك الكثير من الصفات التي يتمتع بها المعلم المتميز، منها، التمكن من المادة العلمية والاطلاع على كل ما هو جديد في ميدان التخصص والميدان التربوي، ورعاية النمو الشامل للطلبة، والتنوع في طرائق التعليم الحديثة وتوظيفها وبما يساعد على تحقيق أهداف العملية التعليمية.
والسعي نحو التحول من التعليم المباشر الذي يركز على المعلم إلى طرائق يكون فيها الطالب أكثر إبداعا ومشاركة، وتراعي مبدأ الفروق الفردية والقدرات، وتعمل على تنمية الطلبة وفقا لاتجاهاتهم ورغباتهم مثل طرائق حل المشكلات والتعلم الذاتي والتعليم الإلكتروني والعصف الذهني والتعليم التعاوني وطريق الاستكشاف والتعلم المتمايز، بحسب وصوص.
أستاذة علم النفس التربوي في جامعة البلقاء التطبيقية الدكتورة منى أبو طه تشير الى أن عملية التعلم تتضمن مجموعة من العوامل، أهمها عنصر الشخصية لدى المعلم والمتعلم، حيث تتفاعل شخصية المعلم مع شخصيات الطلبة.
وتضيف: هناك اتفاق واسع على تحديد صفات مميزة للمعلم الناجح تكمن في الذكاء والصوت الجيد والخط الواضح والمظهر الحسن وطريقة التعامل والشخصية المنظمة والمنسجمة والحصيلة اللغوية من المفردات والحماس، ويمكن أن تمتد الصفات إلى ما لا نهاية، ومع ذلك لا يوجد اتفاق على أن هذه الصفات أكثر أهمية من غيرها حيث أن الكثير من المعلمين يملكون هذه الصفات ولكنهم يحتاجون إلى تعزيز في العملية التعليمية.
وتضيف، إذا علمنا أن التدريس والتعليم عملية إنسانية واجتماعية، فإننا نرى أن أهم عامل يؤثر فيهما هو الدافعية ويقصد بها العوامل التي تدفع الفرد وتوجه سلوكه نحو هدف، أو القوة الذاتية التي تحرك سلوك الفرد وتوجهه لتحقيق غاية معينة، وتستثار هذه القوة بعوامل تنبع من الفرد نفسه كحاجاته، وخصائصه، وميوله، واهتماماته أو من العوامل المحيطة به كالأشياء والأشخاص والموضوعات والأفكار والأدوات.
وأوضحت أن كثيرا من النظريات العلمية فسرت من يملك الدافعية بأنه لديه قدرة في تخطيط استراتيجيات لتحقيق الهدف والرغبة في تحمل مسؤولية أعماله بعيدا عن العجز ولديه القدرة في مواجهة القوى الخارجية، مبينة أن المعلم الأصيل في سلوكه يمتاز بتحمل المسؤولية الشخصية، ويحضر لعمله بعناية ويخطط لحياته ليبلغ أهدافه، يمارس مهاراته يثابر على عمله وهو صبور في ذلك، يؤدي ويراجع تقدمه ويتحرك باتجاه الكمال في مهاراته.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ومنظمة العمل الدولية حددتا في عام 1966 يوم الخامس من تشرين الأول يوما سنويا للاحتفاء بالمعلم، بموازاة التوصية للنظر بحقوقهم ومسؤولياتهم على الصعيد العالميّ.