يعود أحد الضباط في الجيش الأردني بالذاكرة إلى عام 2009 عندما تلقى حينها خبراً يقول إنه كان ولا يزال الأكثر إسعاداً له، إذ اختير ضمن القوة التي ستتجه إلى المستشفى الميداني الذي أمر جلالة الملك عبدالله الثاني بإنشائه بذلك العام في حي تل الهوى بقطاع غزة.
ووفق الضابط، فإن الشارع الأردني في ذلك الوقت كان يعيش غلياناً واحتقاناً كبيرين جراء الهجوم الإسرائيلي الذي كان العدوان الأول الواسع على قطاع غزة والذي بدأ في السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2008، واستمر 23 يوماً حتى الثامن عشر من كانون الثاني (يناير) من عام 2009، مشيراً إلى أنه بعد انتهاء العدوان بنحو 10 أيام، بدأ المستشفى عمله في غزة كأول مستشفى عربي في القطاع.
ومن بين أبرز ما يستذكره الضابط خلال تلك الفترة، هو تبرع الملك أثناء اندلاع الحرب بالدم لأهل غزة، مطلقاً بذلك حملة وطنية للتبرع بالدم، وبعدها كان الإيعاز للجيش بتجهيز المستشفى الميداني العسكري الذي استفاد ملايين الغزيين من خدماته منذ إنشائه وحتى اليوم.
ويشير الضابط إلى أن الذهاب ضمن طواقم المستشفى الميداني إلى غزة، كان حلماً بالنسبة إليه وإلى زملائه في الجيش، قائلاً إن الجميع حينها كان يبذل كل جهده ليجد طريقة يلتحق بها بالطاقم، مندفعين بحس عال من المسؤولية تجاه الأشقاء في غزة، وهم يواجهون كارثة إنسانية وسط ضغط كبير على المستشفيات وأعداد كبيرة للشهداء والمصابين.
توالت بعد ذلك دفعات الطواقم التي تغادر المملكة إلى المستشفى، إذ يتم استبدال الطاقم كل شهرين قبل أن تصبح كل 3 أشهر بدءاً من عام 2020، فيما وصل عدد دفعات الطواقم منذ إنشاء المستشفى حتى الوقت الحالي 76 دفعة.
**علاقة محبة تتخطى حدود المستشفى
وعن مشاركته في إحدى دفعات عام 2019، يقول ضابط آخر، إنه لطالما تمنى وسعى إلى أن يكون أحد أفراد طواقم الجيش الطبية التي تغادر إلى قطاع غزة، وعندما تحقق له ذلك يقول: “كانت فرحتي لا توصف”.
ووفق الضابط، فإنه خرج مع طاقم قوامه بين 180 إلى 220 شخصاً، يشمل معظم الاختصاصات من أطباء وممرضين وصيادلة وفنيي مختبرات وأشعة، بالإضافة إلى طاقم خدمات مساندة كالتي تعمل على غسل الملابس وكيّها وإعداد الطعام والحراسة، مشيراً إلى أن المستشفى يحتوي على غرفة عمليات وأجهزة تعقيم وعيادة أسنان مجهزة بالكامل، وعيادات أخرى للاختصاصات الباطنية والجراحة العامة وجراحة العظام والنسائية والتوليد والجلدية وباحث نفسي طبي وعلاج طبيعي وعلاج وظيفي، وغرفة طوارئ تعمل على مدار 24 ساعة ومختبر فحوصات وأشعة وصيدلية كبيرة تنقسم إلى قسمين، الأول للمستهلكات الطبية كالكراسي المتحركة والعكازات وما شابه والقسم الثاني مخصص للأدوية.
وتحدث الضابط عن حجم المحبة التي يكنها أهالي غزة لطواقم المستشفى الميداني الأردني، قائلاً إنهم كانوا حريصين على التعامل معهم بود ومحبة وحرص على استضافتهم والتقرب منهم وإبداء استعدادهم دوماً لأي خدمة يحتاجونها أياً كانت، مشيراً إلى أنهم “كانوا يشاركوننا مناسباتنا الوطنية بالحضور للاحتفال معنا فيها، مثلما كان الأردنيون يحرصون في الوقت ذاته على مشاركة أهالي غزة المحيطين بهم مناسباتهم”.
**عمل لا يقل صعوبة عن الأعمال القتالية
وقال عضو مجلس الأعيان الدكتور إبراهيم البدور وهو استشاري جراحة الدماغ والأعصاب والعمود الفقري، وسبق أن عمل في المستشفى لمدة تزيد على 3 أشهر، إن الأطباء في القطاع يخوضون عملاً لا يقل صعوبة عن الأعمال القتالية، وسط إجهاد كبير ونقص في المعدات والمستلزمات والإمدادات، مقابل التزايد الضخم في أعداد الجرحى الذين لا يكاد يتوقف نقلهم إلى المستشفيات.
لذلك، يرى البدور، أن الحاجة تبرز أكثر فأكثر لأي جهود تسند عمل القطاع الصحي في غزة، ومن بينها الجهود التي يقدمها المستشفى الميداني الذي يجسد من خلالها جانباً إنسانياً من عمق الموقف الأردني العام والثابت في نصرة القضية الفلسطينية والوقوف الدائم إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني ومساندته بكل الأشكال.
وقال إن مخزون المستشفيات في غزة، مهما كان كبيراً، فإنه ومع حجم ما يحدث، سيستمر في النفاد المتسارع، مشيراً إلى أن الأولوية في ظروف مثل هذه تكون للمستلزمات الطبية الأساسية والأجهزة الحيوية، لا سيما الأوكسجين ومواد التخدير والخيوط الجراحية وتوفير أكبر عدد ممكن من الطواقم والأسرّة.
ودعا البدور إلى تكثيف الخطاب الإنساني أكثر فأكثر في سياق العدوان الإسرائيلي، وإفراد مساحات أوسع بهذا الخصوص في وسائل الإعلام، معتبراً أن الأولوية هي لسلامة الأرواح وضمان تقديم الخدمات الصحية والطبية كافة لهم، بالتوازي مع تكثيف دخول مساعدات أخرى لا تقل أهمية في مقدمتها الأغذية.
**دور أردني مكثف لمساعدة غزة
ورغم القصف الإسرائيلي العنيف الذي شكل خطراً كبيراً على المستشفى الميداني وهدد استمرار عمله في غزة، إلا أن جلالة الملك وجه بالإبقاء عليه في القطاع والاستمرار في عمله لإسناد المنظومة الصحية في علاج الجرحى والمرضى.
وفي الحديث عن الدور الإنساني الرسمي للأردن في قطاع غزة، لا يمكن القفز عن الجهود الممتدة التي تبذلها الهيئة الخيرية الهاشمية في تقديم مختلف أشكال المساعدات إلى سكان القطاع، سواء في أوقات السلم أو الحرب، إذ كان لافتاً تكثيف نشاطها بهذا الخصوص منذ بدء الحرب الأخيرة، من ضمنه إطلاق حملة تبرعات نقدية وعينية مفتوحة بالتعاون مع وزارة الداخلية، ومشاركتها بإرسال الأردن أول طائرة مساعدات تصل إلى مطار العريش المصري، بالإضافة لشحنات مساعدات إغاثية أخرى.
وأخيراً، قدم الأردن تمويلاً لعمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في قطاع غزة بمبلغ 3 ملايين دينار، فيما خصصت وزارة الصحة معدات طبية وأدوية بقيمة نصف مليون دينار أردني، وأطلق التلفزيون الرسمي كذلك يوماً خيرياً “تيليثون” لمصلحة غزة جمع فيه ما يفوق 11 مليون دينار.
ويأتي ذلك في غمرة موقف شعبي عارم في التضامن مع غزة ودعم أهلها، إذ تشهد المملكة يومياً تظاهرات وفعاليات مختلفة، بالإضافة لانطلاق العديد من حملات التبرعات المالية والعينية، وما شابه من أشكال الدعم، فيما اتخذت المملكة الأربعاء، قراراً باستدعاء سفيرها في تل أبيب التي أبلغها عدم عودة سفيرها إلى عمان احتجاجاً على إصرار الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في إطلاق النار، وذلك وسط تواصل الجهود السياسية والدبلوماسية الأردنية في الإقليم والعالم سعياً لوقف الحرب والحد من تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة أكثر فأكثر.
**تطوع 850 طبيباً للذهاب إلى غزة
وأكد نقيب الأطباء الأردنيين، زياد الزعبي، أن 850 طبيباً بينهم 250 مختصاً في الجراحة سجلوا أسماءهم كمتطوعين للذهاب إلى غزة، فيما قرر مجلس النقباء إنشاء مستشفى ميداني في القطاع، وذلك بالتعاون مع النقابات الصحية الأخرى وبدعم مالي كامل من المجلس.
الزعبي تحدث كذلك عن “اتصالات تجرى حالياً مع الهلال الأحمر المصري واتحاد الأطباء المصريين ليكون المستشفى الميداني في رفح، حيث يجري استقبال جرحى من غزة، كما تُجرى اتصالات مع جهات دولية أخرى لتأمين موقع للمستشفى داخل القطاع أو على الحدود مع الجانب المصري”، لكنه أكد أنه لم يتلق أي إجابة حتى اللحظة.
وقال إن مجلس النقباء “سيعرض اقتراحاً على القوات المسلحة الأردنية ليكون المستشفى الميداني المقترح بجانب المستشفى الميداني الأردني العامل في القطاع أو تزويد المستشفى الحالي بالأطباء والكوادر الصحية الأخرى المتطوعين من النقابة”.