مرايا – قال جلالة الملك عبدالله الثاني، إنه لا يمكن الوصول إلى عالم أكثر سلاما دون شرق أوسط مستقر، والاستقرار في الشرق الأوسط غير ممكن دون سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وأضاف، خلال إلقاءه خطابا أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبوغ الفرنسية، أن ما يحدث في الشرق الأوسط يترك أثره على كل مكان حول العالم، وأن مخاطر الفشل في المضي قدما نحو تحقيق السلام في المنطقة تفاقمت، إذ يستمر العنف ويستمر بناء المستوطنات وعدم احترام القانون الدولي.
وعن الأوضاع في العراق، قال الملك إن العراق موطن لأكثر من 40 مليون شخص، عانوا من 4 عقود من الحرب والعقوبات والاحتلال والصراع الطائفي وإرهاب داعش، واليوم، مستقبلهم يرتكز على سلام هش، مضيفا: “أنا، شخصيا، لن أتخلى عن إخوتنا وأخواتنا هناك”.
وأضاف الملك أن الأزمة في سوريا لم تنته بعد، مشيرا إلى أن أكثر من نصف مليون شخص، والعديد منهم بالأصل لاجئون، نزحوا خلال الأشهر التسعة الماضية.
وأضاف: “نحن بحاجة إلى سياسة مبنية على الصبر والتأني، وتقع على عاتقنا مسؤولية حماية مصالح شعوبنا ورفاهيتهم، والاستجابة للأحداث المتسارعة بحذر وروية، لا بتهور وعجالة”.
وأشار الملك إلى أن السمة التي ميزت العقد الماضي، أن الشعوب تمكنت من إسماع صوتها، وتدفق الملايين إلى الشوارع في جميع أنحاء العالم، معبرين عن مطالبهم بصوت واضح، وهو فرصة عادلة ليشقوا طريقهم إلى النجاح.
والملك، هو أول قائد عربي وعالمي يتحدث أمام البرلمان الأوروبي في دورته الحالية برئاسة ديفيد ساسولي.
وتؤكد دعوة البرلمان الأوروبي للملك لإلقاء الخطاب مكانة الملك وإيمان الاتحاد الأوروبي برؤيته وحكمته.
الملك، ألقى خطابا أمام البرلمان الأوروبي في آذار/ مارس 2015، أكد فيه أن السلم والوئام العالميين يشكلان منظومة دولية تكفل الحقوق والاحترام لجميع الشعوب وأن التطرف يتغذى على انعدام الأمن الاقتصادي والإقصاء.
وفيما يلي ترجمة نص الخطاب كاملا:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الرئيس،
السادة أعضاء البرلمان الأوروبي،
أصحاب السعادة،
أصدقائي،
أشكركم جميعا. يسعدني أن أتحدث أمام البرلمان الأوروبي مرة أخرى.
وأنا أتأمل هذه القاعة التاريخية، أراها تضم المئات من الأشخاص. ولكن، في الحقيقة، معنا اليوم ملايين آخرون، من مختلف الدول التي تمثلونها، كل بتاريخها الخاص، وتنوع وجهات النظر فيها.
ونحن المجتمعون هنا يجمعنا عاملان مشتركان. أولا، مسؤوليتنا تجاه هؤلاء الملايين، الذين ائتمنونا على آمالهم ومخاوفهم.
ثانيا، نحن محظوظون، فالحياة التي نقضيها في خدمة الآخرين هي أفضل حياة، إذا ما كنا عند مستوى توقعات ملايين الناس، الذين هم معنا في هذه القاعة اليوم.
ولكن إذا تعثرنا، فإن الفئات الأكثر عرضة للتأثر هي التي ستدفع الثمن، مثل الشباب والشابات الذين يتطلعون للمستقبل ولكنهم لا يجدونه أمامهم، والأمهات اللاجئات الحائرات اللواتي يحملن أطفالهن ولا يجدن منزلا آمنا، والآباء القلقين الذين لا يستطيعون العثور على وظائف لتوفير لقمة العيش لعائلاتهم، والكثيرين الذين يشعرون بالتهميش وبتهديد هويتهم.
إن السمة التي ميزت العقد الماضي، هي أن الشعوب تمكنت من إسماع صوتها، فالملايين تدفقوا إلى الشوارع في جميع أنحاء العالم، وعبروا عن مطالبهم بصوت واضح في مسيرات واحتجاجات واعتصامات وتغريدات وتسجيلات البودكاست الصوتية ووسوم [هاشتاغ] وسائل التواصل الاجتماعي.
جميعهم يريدون الشيء ذاته، وهو فرصة عادلة، فرصة ليشقوا طريقهم إلى النجاح.
أصدقائي،
لقد عبر الناس حول العالم عن رغباتهم وعن الوجهة التي يريدون الوصول إليها، لكنهم يتطلعون إلينا لإرشادهم إلى سبيل تحقيقها. فهم يتطلعون إلينا للتنبؤ بالعقبات المقبلة والاستعداد لها.
وهذا يدعو لطرح عدة أسئلة افتراضية مبنية على سؤال “ماذا لو”.
هذه الأسئلة ليست مجرد تمرين عبثي أو نظري، خاصة في منطقتي، حيث أسوأ الافتراضات ليست ترفا نظريا، بل هي أقرب ما تكون إلى ملامسة واقعنا في الكثير من الأحيان. كما أن ما يحدث في الشرق الأوسط يترك أثره على كل مكان حول العالم.
لذلك، اسمحوا لي أن أبدأ بأعمق جرح في منطقتنا: ماذا لو تخلى العالم عن حل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟
إن أكثر من سبعين عاما من الصراع قد أودت بآمال تحقيق العدالة. واليوم، يسعى مناصرو حل الدولة الواحدة إلى فرض حل لا يمكن تصوره على المنطقة والعالم: دولة واحدة مبنية على أسس غير عادلة، تضع الفلسطينيين في مرتبة مواطنين من الدرجة الثانية. دولة واحدة، تدير ظهرها لمنطقتها، وتديم الانقسامات بين الشعوب والأديان في جميع أنحاء العالم.
قبل خمس سنوات، وقفت في هذه القاعة وتحدثت عن مخاطر الفشل في المضي قدما نحو تحقيق السلام. واليوم، يجب أن أقولها بصراحة: إن المخاطر قد تفاقمت؛ إذ يستمر العنف، ويستمر بناء المستوطنات، ويستمر عدم احترام القانون الدولي.
لقد قلت هذا مرارا، وبطرق عديدة. لكنني سأقوله مرة أخرى، وأكرره مرات ومرات: لا يمكن الوصول إلى عالم أكثر سلاما دون شرق أوسط مستقر. والاستقرار في الشرق الأوسط غير ممكن دون سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ماذا لو بقيت القدس، المدينة العزيزة على قلبي شخصيا وذات الأهمية التاريخية الكبيرة لعائلتي، موضع نزاع؟ هل يمكننا تحمل عواقب سلب المسلمين والمسيحيين على حد سواء من الروحانية والسلام والعيش المشترك التي ترمز إليها هذه المدينة، والسماح لها بدلا من ذلك بالانحدار إلى صراع سياسي؟
الآن، دعونا ننتقل إلى ما يحدث اليوم، وإلى المواجهة الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران. ماذا لو، في المرة القادمة، لم يبتعد أي من الجانبين عن حافة الهاوية، متسببا بانزلاقنا جميعا نحو فوضى لا توصف، نحو حرب شاملة تهدد استقرار المنطقة بأسرها، وتهدد بإحداث اضطرابات هائلة في الاقتصاد العالمي بأكمله، بما في ذلك أسواق الطاقة، وتهدد بعودة الإرهاب إلى الظهور في جميع أنحاء العالم؟
دعوني أسألكم سؤالا افتراضيا آخر: ماذا لو فشل العراق في تحقيق تطلعات شعبه والاستثمار في إمكانياته، وانزلق مرة أخرى إلى حلقة مفرغة من سبعة عشر عاما من الانتعاش ثم الانتكاس، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك، إلى حالة الصراع؟
في العراق 12% من احتياطي النفط العالمي. ولكن، والأهم من ذلك، العراق هو موطن لأكثر من 40 مليون شخص، عانوا من أربعة عقود من الحرب والعقوبات والاحتلال والصراع الطائفي وإرهاب داعش. اليوم، مستقبلهم يرتكز على سلام هش. وأنا، شخصيا، لن أتخلى عن إخوتنا وأخواتنا هناك.
وماذا لو بقيت سوريا رهينة للصراعات بين القوى العالمية وانزلقت مرة أخرى إلى الصراع الأهلي؟ ماذا لو شهدنا عودة لداعش، وأصبحت سوريا نقطة انطلاق لهجمات ضد بقية العالم؟
قد تكون سوريا خارج التغطية الإعلامية، ومعاناتها بعيدة عن البال، لكن الأزمة لم تنته بعد. خلال الأشهر التسعة الماضية، نزح أكثر من نصف مليون شخص، والعديد منهم بالأصل لاجئون.
هل يريد أي منا، في هذه القاعة، أن يشهد أزمة لجوء سورية جديدة، بكل ما فيها من رعب ومآس؟ أو رؤية طفل بريء آخر يقذفه البحر على شواطئكم؟
أعلم أنني أتحدث بالنيابة عن الجميع عندما أقول: بالتأكيد لا.
واسمحوا لي أن أسأل: ماذا لو انهارت ليبيا باتجاه حرب شاملة، لتصبح في النهاية دولة فاشلة؟ ماذا لو أصبحت ليبيا سوريا جديدة، ولكنها هذه المرة أقرب إلى قارتكم؟
ولنسأل مرة أخرى: ماذا لو فشلت الحكومات العربية في توفير أكثر من 60 مليون وظيفة سيحتاجها شبابنا خلال العقد القادم؟ وإذا فشلنا، ألن نكون قد هيأنا في الواقع البيئة المثالية للجماعات المتطرفة؟ فنحن نسهل عليهم عملية التجنيد والاستقطاب إن خلفنا وراءنا الضعف واليأس.
هل نملك ترف ترك شباب المنطقة يعيشون بلا أمل؟
أصدقائي،
فلنجعل من التأمل في هذه الأسئلة الافتراضية تمرينا مثمرا، يمكننا من استباق حدوث مآس لا حصر لها، وحماية شعوبنا في مسيرتهم نحو المستقبل.
إيماني بالله يعزز تفاؤلي ويزيد من ثقتي في قوة ومنعة البشرية. أمامنا دوما الإمكانية لأن نكون أفضل وأكثر توحدا.
يعلمنا القرآن الكريم أن الأجر الأكبر في الدنيا والآخرة، هو من نصيب “الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”. إن الصبر صعب في عالم متسارع لا يتوقف، يتخذ فيه الناس قرارات في أجزاء من الثانية ويتوقعون نتائج فورية.
ولكن القيادة تتطلب عكس ذلك تماما، فأساسها التفكير العميق والحكمة والاستشراف. وأكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى سياسة مبنية على الصبر والتأني؛ إذ تقع على عاتقنا مسؤولية حماية مصالح شعوبنا ورفاهيتهم، والاستجابة للأحداث المتسارعة بحذر وروية، لا بتهور وعجالة. لأن السياسة ليست لعبة يفوز بها الأسرع. ففي بعض الأحيان، كلما سارعنا، زاد بعدنا عن خط النهاية.
علمني والدي المغفور له، بإذن الله، الملك الحسين أن صنع السلام هو دائما الطريق الأصعب، ولكنه الطريق الأسمى. والسير على الطريق الصعب أفضل مع الأصدقاء، أصدقاء مثلكم ومثل الشعوب الأوروبية، حتى نتمكن معا من الوصول إلى المستقبل الذي تطمح له وتستحقه شعوبنا ويستحقه عالمنا بأكمله.