مرايا –
في وقت ينادي فيه حقوقيون وقانونيون بضرورة الاستغناء عن عقوبة الحبس للمدين تماما، انسجاماً مع اتفاقية “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، يرى آخرون بضرورة العمل ببدائل مختلفة، تضمن حقوق الدائنين.
وينطلق من هم ضد حبس المدين من المادة (11) من الاتفاقية، التي تنص على أنه “لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي”، وأن عقوبة “الحبس، تقر مقابل جريمة”، ولا يوجد نص في قانون العقوبات الأردني ينص على هذه الجريمة.
وفي المقابل، يرى غيرهم أن التعديلات الأخيرة التي طرأت على “قانون التنفيذ”، وتتضمن 13 استثناء لتطبيق عقوبة الحبس، هي قفزة نوعية لمصلحة المدين على حساب الدائن؛ الذي له الحق، مع المطالبة بتطبيق بدائل للحبس، مثل خيارات ما يسمى بإرهاق المدين، والتي تتضمن فرض إجراءات قسرية، تقيد من حريته، وتدفعه للعمل على الوفاء بالتزاماته، أو اعتماد ما يسمى بـ”نظام النقاط الائتمانية” الذي يعتمد عليه، عند اتخاذ أي قرار يتعلق بالموافقة على تقديم الدين.
ويحذر أصحاب هذا الرأي من الانفلات الاجتماعي الذي قد ينتج جراء فقدان عدد كبير من الدائنين، للوسيلة القانونية بتحصيل حقوقهم، كما أنه قد يؤدي للإضرار بسيادة سلطة الدولة.
ويرد حقوقيون، أن بعض هذه البدائل، خصوصا المتعلقة بـ”الإجراءات القسرية”، تتعارض مع حقوق الإنسان الأساسية، وبالذات عندما يتعلق الأمر باستخراج وثائق ثبوتية معينة.
واقترح هؤلاء، إيجاد “منصة وطنية” يستطيع الدائن عبرها الوصول للمعلومات المطلوبة قبل إعطاء الدين، مع تأكيد ضرورة خلق “عقوبات ذات طابع مدني” في هذا الجانب.
وينص قانون التنفيذ الجديد للعام 2022، في مادته (22)، على أنه “يحق للدائن حبس مدينه بحال لم يسده الدين، أو لم يعرض عليه تسوية، تتناسب مع قدرته المادية، وذلك خلال مدة إخطاره. بشرط ألا تقل الدفعة الأولى من الوفاء، بموجب التسوية عن 15 % من المبلغ المحكوم به. وينبغي ألا تتجاوز مدة الحبس 60 يوماً في السنة الواحدة عن دين واحد، و120 يوماً بحال تعددت الديون”.
كما جاء في المادة (23) من القانون ذاته، بأنه من غير الجائز حبس موظفي الدولة، إضافة لمن لا يكون مسؤولاً بشخصه عن الدين، وكل من المدين الذي لم يبلغ بعد سن الـ18 عاماً، والمدين المفلس، والمجنون. والمرأة الحامل، لحين انقضاء 3 أشهر بعد وضعها، وأم المولود إلى أن يتم السنتين من عمره.
ووفقا للقانون، فإنه يطلب حبس المدين مع إثبات مقدرته على دفع الدين بحالات عدة، كما يتوجب على الدائن أن يخطر المدين بتسديد الدين أو قبول تسوية مالية، تتناسب ومقدرته المالية، شرط ألا تقل الدفعة الأولى عن 15 % من قيمة المبلغ المحكوم به. فإذا لم يسدد المدين ديونه، أو لم يقبل تقديم تسوية مالية، تتناسب ومقدرته المالية خلال فترة الإخطار، عندها يحق للدائن طلب حبس المدين.
وقد حدد القانون الحد الأعلى لحبس المدين مدة 60 يوماً بالسنة للدين الواحد، مع طلب الحبس مرة أخرى بعد انقضاء السنة، و120 يوما إذا تعددت الديون، مع التنويه إلى أن حبس المدين لا يقضي الدين حسب المادة (25) من قانون التنفيذ، كما أن العفو العام لا يسقطه أيضاً.
وبحسب القانون، فانه لا يُحبس المدين، إذا قل المبلغ المحكوم به عن 5 آلاف دينار، أو المدين المفلس أثناء معاملات الإفلاس، والمدين المعسر، والمحجور عليه للسفه أو الغفلة، والذي وثق دينه بتأمين عيني، أو إذا ترتبت على حبس المدين آثار اجتماعية سلبية وضرر بأفراد عائلته، وذلك بعدم حبس الزوجين معاً، أو إذا كان زوج المدين متوفى، أو نزيل أحد مراكز الإصلاح والتأهيل، إذا كان لهما ابن يقل عمره عن 15 سنة أو من ذوي الإعاقة، إضافة إلى المدين المريض، أو إذا كان المحكوم به ديناً بين الأزواج أو الأصول أو الفروع أو الإخوة، ما لم يكن “نفقة”، أو إذا كان الدين موثقاً بتأمين عيني، أو إذا ثبت وجود أموال للمدين كافية لأداء الدين وقابلة للحجز عليها.
ويرى القاضي ومستشار ديوان الرأي والتشريع سابقاً د. محمود العبانبة، أن مطالبات المجتمع المدني والمنادين بحقوق الإنسان، تم الاستجابة لها من المشرع في تعديلات قانون التنفيذ الأخيرة، والذي تضمن ما لا يقل عن 13 استثناء للحبس، وعدم جواز حبس المدين المتعثر الذي لا يزيد دينه على 5 آلاف دينار، كما خفض المبلغ الواجب دفعه بعد إعذار المدين المحكوم عليه، بحيث أصبح 15 % من المبلغ بدلاً من 25 %.
ويعتبر العبابنة، أن التعديلات الأخيرة على قانون التنفيذ، قفزة نوعية تسجل لمصلحة المدين على حساب الدائن؛ الذي “أمضى سنوات في ماراثون المحاكم”، ودفع الرسوم القانونية وأتعاب المحاماة، ليصل إلى قرار من القضاء العادل يثبت حقه في الدين؛ ثم خطا خطوةً أخرى بالذهاب إلى دوائر التنفيذ، ليدفع رسوماً جديدة لتنفيذ الحكم، والذي هو عنوان سيادة الدولة.
ويشير الى أن القول بضرورة الالتزام بما جاء في المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ليس دقيقاً، بحيث يتم التغافل عن شروط إعمالها، وهي “أن يكون مصدر الالتزام تعاقدياً، وأن يثبت إعسار المدين”.
وبين أن القسم الأعظم من المدينين، ديونهم لا تتجاوز الـ5 آلاف دينار، والتي ما على الدائنين فيها إلا أن يرددوا القول (العوض بوجه الكريم)، لأن المدينين الذين كانوا يلتزمون بأقساط دورية متواضعة، ضمن مصالحة موثقة في دائرة التنفيذ؛ توقفوا عن الدفع بمجرد صدور أوامر الدفاع بتوقيف حبس المدين، أما ما جاء بأن كثيرا من الدول، لا تقوم بتطبيق حبس المدين لقاء دين مدني؛ فلا مانع من الأخذ بذلك، إذا توافرت الظروف الموضوعية المعمول بها بتلك الدول، ففي بريطانيا أو فرنسا مثلاً؛ عندما يعجز المدين عن أداء الدين؛ فهناك آلاف المؤسسات الحكومية والخاصة والخيرية التي تتولى أداء الدين، إما من قيمة الضمان الاجتماعي المخصص له، أو المساعدات الاجتماعية، أو النقابات المهنية، إضافة إلى ما تقوم به شركات تأمين الديون والجمعيات الخيرية، وفوق كل ذلك، وجود آليات وأنظمة رادعة للتهرب من سداد الدين ومحفزة للوفاء بالالتزامات، والتي لا ضير أن نُلقي نظرةً عليها وأن نفكر بها.
وبالرغم من وجاهة إبقاء الحبس كوسيلة ضغط، كما توصل إلى ذلك قانون التنفيذ الجديد الذي أخذ بعين الاعتبار عدداً وافراً من الاستثناءات، وخفض الدفعة الأولى مع تقديم عرض التسوية، فإنه لا بد، وفقا للعبابنة، من طرح خيارات أخرى، عبر ما يسمى بإرهاق المدين Debtor’s fatigue، تتضمن فرض إجراءات قسرية على هذا المدين.
ومن هذه الإجراءات، يقترح العبابنة؛ الحرمان من افتتاح حساب له في أي بنك، أو الحصول على دفتر شيكات أو رخصة سوق، أو احتجاز رخصة السوق التي يحملها، والحرمان من مغادرة البلاد وتسجيل أي شركة أو المشاركة فيها.
أما الآلية الثانية، فهي تبني نظام معمول به في كثير من دول العالم لهذه الغاية، وهو نظام النقاط الائتمانية (Credit score system)، وبموجبه يصدر نظام للعمل به، يتكون من 500 نقطة من حق أي مواطن، ويخصم من رصيد هذه النقاط في حالات عدم سداد الدين، أو إصدار شيكات بلا رصيد، أو وجود أحكام جزائية ذات طبيعة مالية، وتوثيق كل ذلك لدى جهة معينة؛ بحيث يستطيع المقرض، أو المؤجر، أو المتعاقد مع أي شخص؛ التيقن من حالة المقترض لاتخاذ القرار بإقراضه أم لا. كما أن من يحافظ على رصيد عالٍ من النقاط، يتمتع بمزايا تتعلق بالإقراض والتعاقد والحصول على امتيازات أخرى.
المدير التنفيذي لمنظمة محامون بلا حدود معاذ المومني، قال إن المادة (11) من اتفاقية “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، نصت على أنه “لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي”، وبالتالي، فإن الأصل هو عدم حبس أي شخص، بناء على عدم سداد ديونه، فـ”الحبس يقر مقابل جريمة” ولا يوجد جريمة واردة في قانون العقوبات، تنص على هذه الجريمة.
وأكد المومني، عدم جواز حبس المدين بأي حال من الأحوال، مشيرا إلى أن خلق الضمانات الكافية، يجب أن يقع على عاتق المدين.
وحتى مع التعديلات الأخيرة التي أقرت على قانون التنفيذ، يرى المومني ضرورة مناقشة هذا القانون بعد عامين أو ثلاثة، والتعديل عليه من جديد. كما اقترح إيجاد “منصة وطنية” يستطيع الدائن عبرها الوصول للمعلومات المطلوبة قبل إعطاء الدين.
ودعا المومني لخلق “عقاب ذي طابع مدني”، بعيدا عن الحبس، وبما يضمن حقوق الأطراف الأخرى الدائنة، على ألا تكون هذه العقوبات ماسة بحقوق الإنسان الأساسية.
وكان رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة، أصدر بلاغاً بتعديل أمر الدفاع رقم (28) لسنة 2021 وتمديده حتى تاريخ 30/4/2023، وبموجبه جرى تأجيل تنفيذ قرارات حبس المدين الصادرة بموجب قانون التنفيذ، شريطة ألا يتجاوز المبلغ 100 ألف دينار ليصبح 20 ألفا، إضافة لوقف تنفيذ الأحكام الجزائية التي تقضي بعقوبة الحبس في الجرائم المتعلقة بإصدار شيك لا يقابله رصيد في القضايا التي لا يتجاوز مجموع قيمة الشيكات فيها الـ100 ألف دينار، بحيث أصبحت القيمة 20 ألفا.
يشار هنا، إلى أن العدد الكلي للمطلوبين بقضايا الديون المدنية يبلغ 157367 شخصا، منهم 137715 شخصاً، ديونهم أقل من 20 ألفا، ويشملهم البلاغ، في حين سترفع الحماية التي كان يشملها أمر الدفاع منذ إصداره العام الماضي، وقد مدد 4 مرات عن 19652 شخصاً ديونهم أكثر من 20 ألفا.
أما قضايا الشيكات التي لا يقابلها رصيد، فإن العدد الكلي للمطلوبين يبلغ 30669 شخصا ستستمر حماية 17518 شخصاً، تقل ديونهم عن 20 ألفا، بموجب تعديل، وتمديد أمر الدفاع ورفع الحماية عن 13151 تتجاوز قيمة شيكاتهم الـ20 ألفا.
وفي دورة تدريبية لرؤساء وقضاة التنفيذ في المعهد القضائي الأسبوع الماضي، نوقشت إشكالية تطبيق أمر الدفاع، وحالات عدم جواز حبس المدين، واتفق على بندين؛ الأول يتعلق بتطبيق أمر الدفاع في ضوء بلاغ رئيس الوزراء الأخير رقم (63) 2023، بحيث جرى التأكيد ألا ينفذ الحبس إلا بناء على طلب من أطراف الدعوى التنفيذية. وأن القضايا المشمولة بتنفيذ قرارات الحبس، هي التي يكون أصل الدين فيها أكثر من 20 ألفا دون احتساب الفوائد والرسوم والمصاريف، سواء زاد المبلغ أو قل.
كما جرى التأكيد أن يكون تنفيذ قرار الحبس في كل قضية على حدة، ولا يجوز جمع المبالغ مهما تعددت الديون والدائنون بحق المدين الواحد، والحبس يكون لمرة واحدة في السنة، يبدأ حسابها من تاريخ الإفراج عن المدين.
وجرت الإشارة الى أن تكون مدة الحبس موحدة في دوائر التنفيذ على النحو الآتي:
أقل من 10 آلاف دينار (مدة الحبس 7 أيام في السنة الواحدة).
أكثر من 10 آلاف ولغاية 20 ألفا (مدة الحبس 10 أيام في السنة الواحدة).
أكثر من 20 ألفا ولغاية 30 ألفا (مدة الحبس 20 يوما في السنة الواحدة).
أكثر من 30 ألفا ولغاية 50 ألفا (مدة الحبس 30 يوما في السنة الواحدة).
أكثر من 50 ألفا ولغاية 70 ألفا (مدة الحبس 40 يوما في السنة الواحدة).
أكثر من 70 ألفا ولغاية 100 ألف (مدة الحبس 50 يوما في السنة الواحدة).
أكثر من 100 ألف دينار (مدة الحبس 60 يوما في السنة الواحدة).
كما اتفق على تفعيل تطبيق قانون التنفيذ الذي ينص على عدم جواز حبس المدين، وأن الأصل في التنفيذ يكون أموال المدين، وذلك عبر عدم جواز حبس المدين في حال وجود أي أموال قابلة للحجز عليها، أكانت كافية للدين أم لا، ولا يجوز الحبس إلا بعد التنفيذ على هذه الأموال وبيعها، عملاً بأحكام المادة (23/ب/4) من قانون التنفيذ، إضافة لعدم جواز حبس المدين، إلا إذا كان الدين موثقا بتأمين عيني، حتى في حال لم يكف الدين المحجوز لسداد كامل الدين، عملا بأحكام المادة (23/ب/2) من قانون التنفيذ.