مرايا – شؤون عالمية – منذ شهور ونحن نسمع عن صفقة القرن، ولكن التفاصيل حولها يكتنفها الغموض، كما قيل إن أطرافاً عربية تتحرك في الخفاء لتسويقها، وتمهيد الطريق لها عبر ما يسمى بسياسة العصا والجزرة!!
من قراءاتنا للسياسة الأمريكية منذ هاري ترومان وحتى الرئيس الحالي دونالد ترامب، فإنه يتبدى لنا جليِّاً بأن تلك السياسة من ناحية المواقف والتوجهات كانت وما تزال منحازة بشكل كبير لإسرائيل.. نعم؛ ربما تفاوتت درجة الميل والانحياز بين رئيس وآخر، ولكنها – بشكل عام – لم تكن يوماً عادلة أو منصفة تجاه الحقوق الفلسطينية.
لذلك، لا يمكننا كفلسطينيين الاطمئنان للسياسة الأمريكية، وكان من الخطأ الرهان على أمريكا والاعتماد على رعايتها غير الأمينة لملف التسوية طوال أكثر من عقدين من الزمن، الأمر الذي استغلته إسرائيل للتوسع الاستيطاني أن يتمدد بهذا الشكل المخيف، والذي بدى جلياً – الآن – أنه يمثل تهديداً حقيقياً لحل الدولتين، ذلك الحل الذي تبناه المجتمع الدولي، وقامت عليه أسس كل سياساته تجاه القضية الفلسطينية؛ أي منذ التوقيع على اتفاق أوسلو في واشنطن عام 1993م!!
اليوم، العالم كله يعيش وقع الصدمة، التي أوصلته إياها تجنحات الرئيس ترامب وسياساته الحمقاء، والتي مضت بمسارات متسارعة ومغايرة لما عليه الاجماع الدولي، مستفيدة من حالة التشرذم والخلاف التي تعيشها الساحة الفلسطينية، وأيضاً من تفشي الصراعات الداخلية والحروب الطائفية القائمة في منطقتنا العربية، وما ترتب عليها من تغيير لسلم الأولويات والاهتمام على أجندات البعض، بحيث لم تعد إسرائيل هي العدو، بل ربما ستغدو حليفاً قادماً مع تبدل واجهات الصراع باتجاه سياسات جديدة، هدفها تطويق إيران واحتواء حزب الله!!
إن أوساط كثيرة تحدثت عما سمعته عن “صفقة القرن”، ولم تبدِ ارتياحاً لما يدور خلف الكواليس، سواء ما يتعلق بالضفة الغربية أو قطاع غزة. هناك من يشير إلى أن الضفة الغربية سيتم ابتلاع الكثير من أراضيها خارج مناطق (أ & ب)، وربما يتمتع الفلسطينيون بحكم ذاتي تحت الحماية الإسرائيلية، أما قطاع غزة فالتوجه بتكريسه إلى شبه دولة مع احتمال توسعة أراضيه باتجاه سيناء في صفقة لتبادل أراضي بين مصر وإسرائيل، والربط المستقبلي بالأردن، وهذا يتضمن أفكاراً سبق أن طرحتها جهات إسرائيلية؛ سواء في وثيقة يغورا آيلاند أو غيرها من المبادرات التي حملتها لنا في أوقات سابقة أطرافاً أوروبية.
في الواقع، إن كل هذه السيناريوهات والخراريف السياسية يعتمد تحقيقها أو إفشالها على درجة هشاشة الموقف الفلسطيني أو مدى قدرته على التماسك وسرعة انهاء الانقسام، وكذلك على وضعية التجخية والضعف والهوان التي عليها دول المنطقة، وقدراتها على الرفض والجرأة بقول كلمة لا لأمريكا.
حتى اللحظة، يبدو أن الخطة يجري تمريرها بهدوء وبخطوات متدرجة؛ بدأت بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ثم بقطع المساعدات الأمريكية عن وكالة غوث وتشعيل اللاجئين (الأونروا)، باعتبار أن هذين الملفين هما من أهم ركائز القضية الفلسطينية، وربما يأتي لاحقاً صدور قرارات لضم الكتل الاستيطانية بقرارات يقرها البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، وتحظى بدعم ومباركة أمريكية!!
إن مما تمَّ الحديث عنه في وسائل الإعلام حول الصفقة حتى الآن، إنما هي أفكار للتأمل، مطلوب تسويقها لفترة زمنية، بحيث تصبح بعدها المنطقة والساحة الفلسطينية أكثر تحمُّلاً لتقبل المزيد من الصدمات، وعدم القدرة على رفض الصفقات.
صفقة القرن: الطباخ أمريكي والجرسونات عرب
من الملامح العامة لصفقة القرن، وكما قدمها د. صائب عريقات؛ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، خلال اجتماعات المجلس الثوري لحركة فتح، والتي عقدت مؤخراً في رام الله، وحملت عنوان “إملاءات الرئيس ترامب: المرحلة الجديدة فرض الحل”، أشار د. عريقات بأن هذه الصفقة هي محاولة أمريكية لتصفية شاملة للقضية الفلسطينية، ولن يتمخض عنها دولة فلسطينية، بل إنها أشبه بحكم ذاتي محدود وأبدي، تقام سلطته على المعازل (ألف & باء)؛ أي “كانتون” بلدي موسع!! والصفقة المقترحة يبدو واضحاً أنها تتبنى مشروع نتنياهو والقوى اليمينية الصهيونية المتطرفة للحل بنسبة لا تقل 95%.
وحول مشهد التسويق لتلك الصفقة، والتي يجري البحث عن آلية لإخراجها من خلال عقد مؤتمر دولي، كتب د. هاني العقاد، قائلاً: أيَّاً كان المؤتمر ومتي كان، فإنه لن يكون أكثر من مؤتمر صوري، والغرض منه هو امتصاص الغضب الفلسطيني والرفض للصفقة.. والمؤتمر لن يكون سوي طاولة أمريكية بجرسونات عرب؛ تتقن تقديم الطعام على أساس الطبخة الأمريكية، التي لم يشترك العرب في صناعتها أو تحضيرها، بل من صنعها وطبخها هو طاقم يهودي صهيوني بامتياز، وهم: جاريد كوشنر وجيسون غريمبلات وديفيد فريدمان!! وبالطبع، فإن ما على الحكام العرب – بمن فيهم الفلسطينيين – إلا أن يأكلوا دون مناقشة، ودون أن يقولوا شيئاً عن مرارة الطعم وكراهية رائحته!!
وأضاف: لعل ما بات مفهوماً أن تلك الصفقة هي لتصفية القضية الفلسطينية بغطاء وتعريب عربي، وإجراء تغيير خطير في الخارطة الجيوسياسية بالمنطقة، لتصبح إسرائيل الدولة القوية التي تفرض وصايتها على الجميع، وبالتالي يحق لها مشاركة العرب في ثرواتهم وأمنهم واستقلالهم، ويحق لها كذلك أن تدوس على رؤوسهم، وتهتك عرضهم وتبيع شرفهم، وتزوِّر تاريخهم!!
إن الكثير مما كُتب في وسائل الإعلام العربية عن الصفقة يحمل نبرة الخوف والقلق منها، وينبه لضرورة أخذ الحيطة والحذر لما يخطط بليل للنيل من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأن هناك جهات عربية رسمية – للأسف – متواطئة بشكل أو بآخر في هذه الصفقة.
الفلسطينيون: الرفض وإمكانيات الصمود
إن مما تعلمناه من أبجديات السياسة وأحوال الشعوب والأمم، أن الظلم قد يقع ولكن الحق لا يموت، وأنه مهما كانت غطرسة القوة الأمريكية وربيبتها إسرائيل فلن يكون باستطاعة أحد أن يمرر على الفلسطينيين حلاً يرفضونه، خاصة وأن الصفقة – كما يقول الأستاذ هاني المصري – “لن تحمل حلاً عادلاً ولا متوازناً، بل ستأتي لتلبية الشروط والإملاءات الاسرائيلية بشكل جوهري، فيما يخص القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والأمن والمياه”. نعم؛ هذا كلام صحيح 100% من الناحية النظرية، ولكن – وهنا مربط الفرس – فإنه لكي يتمكن الفلسطينيون من التصدي لهذه الصفقة والتمرد عليها، فإن هذا يتطلب منهم الظهور في مشهد الحكم والسياسة بأنهم على قلب رجل واحد، وأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للكل الفلسطيني، وهي المظلة الجامعة لهم بكل أطيافهم السياسية والحزبية وتوجهاتهم الوطنية والدينية، وبالتالي فإن “الكل الفلسطيني” هو من سيواجه المخطط وليس جهة يمثلها فصيل واحد مهما كانت أركانه ودعائمه!!
إن مشهد الساحة الفلسطينية – اليوم – بما هي عليه من تشظٍّ وانشطارات، لا يوحي بإمكانيات القدرة على الفعل والنجاح في التصدي لمثل هذا المخطط، الهادف لتصفية القضية الفلسطينية، وشطبها من على أجندات دول المنطقة وحسابات شعوبها، التي ما تزال تنظر لفلسطين – الشعب والأرض والمقدسات – باعتبارها قضية الأمة المركزية.
فالحق – كما تعودنا أن نقول – يحتاج إلى قوة تحمله وتحميه، كما أنه يتطلب وحدة للموقف والقرار، وواجهة تمثيلية لا يختلف عليها اثنان.
ويتساءل البعض عن سر التأخير في الإعلان عن تفاصيل الصفقة، والتي لم ينقطع الحديث عنها منذ انتخاب ترامب رئيساً في نوفمبر 2016.. والحقيقة هي أن حجم الظلم الذي سيطال الحقوق الفلسطينية وتوقعات الرفض القوي للصفقة هو سبب التأجيل، وإن كان العمل على الأرض لتسويقها وتطويع المواقف الرافضة لم يتوقف.
كتب الأستاذ هاني المصري؛ مدير مركز مسارات، قائلاً: لا شك أن السبب الأهم يعود للرفض الفلسطيني والعربي والدولي الواسع لها.. لذا، فإن هناك محاولة لرش بعض السكر على السم الذي تحتويه؛ لأن إدارة ترامب تدرك أن صفقته بدون غطاء فلسطيني معرَّضة للفشل، وخصوصاً لأن العرب لن تكون – على الأغلب – لديهم الجرأة لتغطيتها دون غطاء فلسطيني، وأن طرحها ورفضها سيصعب تعديلها والتراجع عنها. لذا، يتم تأجيلها وإجراء بعض التعديلات عليها.
وفي سياق القراءة والتحليل لعقابيل تلك الصفقة، تحدث روبرت مالي؛ المساعد الخاص السابق لرئيسي الولايات المتحدة باراك أوباما وبيل كلينتون، والرئيس الحالي بالوكالة لـ”مجموعة معالجة الازمات الدولية” (I.C.G)، في ندوة له بالمعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتهام هاوس”، بتاريخ التاسع من فبراير الماضي، قائلاً: إن ما سمي بـ”صفقة القرن” للسلام في فلسطين كما يطرحها ترامب ورجال إدارته، لن تتوصل -على الأرجح – إلى النتيجة التي تسعى لتحقيقها.. وأضاف: لا أعرف ماذا سيفعل ترامب في خطوته المقبلة، ولكن توقعاتي أنه قد لا يُنفذ ما وعد بتنفيذه، ولكنه حتى لو حاول فعل ذلك، فإنني أنصح الرئيس عباس بأن يركز على ترتيب الأمور الداخلية للبيت الفلسطيني، وعلى السعي للتقارب بين الفصائل والقيادات الفلسطينية. وبعد أن ينجح مثل هذا التقارب، فإن بإمكان القيادة الفلسطينية أن تقرر إذا أرادت التفاوض أو عدم التفاوض، وفي أي إطار سيتم التفاوض.
أما د. عبير ثابت؛ أستاذة العلوم السياسية بجامعة الأزهر، فترى أن الصفقة تتعامل مع الفلسطينيين بمنظور أقل آدمية، بحيث تقايض سبل الحياة الآدمية لهم بصك شرعية قضيتهم؛ وذلك باستخدام مبدأ التجويع بهداف التركيع والقبول بأي حلول.. وتضيف: إن الرفض الفلسطيني لتك الصفقة كفيل بإنهائها، والإدارة الأمريكية وإسرائيل تراهنان على حجم قدرة الطرف الفلسطيني على الصمود.
في الحقيقة، هنا السؤال، وهذا هو بيت القصيد!! هل نستطيع نحن الفلسطينيين وبالحال الذي نحن عليه الآن رفض الصفقة، والتصدي لأمريكا وإسرائيل؟!
سؤال يحتاج رسم جوابه إلى الكثير من الحوار والتماسك داخل ساحتنا الفلسطينية، وهذا هو الوقت الذي علينا جميعاً؛ من رئيس السلطة إلى كل الفصائل والقوى الوطنية والدينية، ألا نبدده، كي لا تدهمنا الضغوطات ونحن في حالة من الانهيار والتآكل: هِممٌ فاترة، وزنود مقطوعة، وقلَّة حيلة وهوان على الناس.
ختاماً… نحن جميعاً علينا اليوم أن نقر ونعترف بأننا أخطأنا بحق بعضنا البعض، وجافتنا الحكمة في العمل معاً ضمن شراكة سياسية وتوافق وطني، وغابت عن الجميع حركية الوعي وصحوة الرشد وإدراك السبيل، وكنا جميعاً – بلا استثناء – كمن يمشي مكبِّاً على وجهه؛ نتخبط سويِّاً، ولكن بعيداً عن الصراط المستقيم!!
اليوم، نحن نتوجه مباشرة للرئيس محمود عباس؛ باعتباره رمز الشرعية، لنقول له: يا سيادة الرئيس إن رأس الوطن هو الآن في مقصلة الاستهداف؛ أي “صفقة القرن” أو “صفعة القرن” كما اسميتها.. ونحن شهود بأن الانقسام قد أثخن جراحنا وأوهى عافيتنا جميعاً، فهل نشافي بعضنا بعضاً ونشد الأزر، لكي نستعيد حيوية الدم في العروق، وننهض كما اعتدنا أبد الدهر؛ كالعنقاء من وسط الرماد؟
يا سيادة الرئيس … أنت ما تزال أمام الملأ ربان السفينة وحامل القنديل، فإما أن نُجدف معاً، ونحمي سفينة هذا الوطن من الغرق، ونجنبها الغوص بعيداً في قعر بحر الظلمات، وإما أن نظل نتخبط ونتلاوم ونكيل الاتهامات وتبادل اللعنات، ونهلك جميعاً فلا يصل بذلك أحدٌ منا إلى شاطئ الأمان!!
ليس اليوم – يا سيادة الرئيس – من أنا ومن أنت؟! فنحن جميعاً كفصائل وتيارات نمثل قلعة هذا الوطن، والشعب ناصيته بأيدينا، فإما أن نواجه صفقة الموت معاً أو يغادر كلانا التاريخ بلا أثر حميد أو ذكر مجيد!!
تعلم أنت – يا سيادة الرئيس – قبل غيرك، أن ما خفي من أمر الصفقة أعظم في مخاطره من كل ما قرأناه أو بلغ مسامعنا من التسريبات، والدليل هو ما أوردته أنت في كلمتك مطلع هذا الشهر، في افتتاح جلسة المجلس الثوري لحركة فتح في رام الله، حين قلت: لن أنهي حياتي بخيانة!!
نحن معك – يا سيادة الرئيس – إذا ما تفاهمنا معاً، وسنقاتل جميعاً بسيف الإيمان الذي تمثله عدالة قضيتنا وحقنا السليب، فإما حياة تسر الصديق باستعادة مسار قضيتنا على الطريق، وإما ممات يغيظ العدا.
وبانتظار أن يأتينا من طرفك رجل يسعى بحكمة الرأي والقرار، لنبدأ معاً لقاءات الخروج الآمن من نفق الأزمة ومتاهات الطريق، وإلا ستظل المراوحة المتعبة في المكان تراكم الغضب والوجع وغليان الانفجار.
يا سيادة الرئيس.. إن لكل سيف غمداً، ولكل خلاف نهاية، ولكل غاية سبيلا، وأنه آن الأوان لشعبنا المشرد في مخيمات اللجوء والشتات أن ينعم بشيء من الأمن والاستقرار، وأن يهدأ ويستريح في إطار رؤية وطنية نضالية جامعة.
لقد اعتدنا القول: “إن من أراد أن يتعلم السياسة فليقرأ التاريخ”، ونحن الفلسطينيين أمامنا اليوم تجربة الجزائريين لنأخذ منها الدروس والعبر.. ففي خمسينيات القرن الماضي، نجح أبناء الجزائر وبعد عقود طويلة من الصراع مع المستعمر الفرنسي، تجاوزت 130 سنة، في تأسيس “جبهة التحرير الوطني الجزائرية” في الفاتح من نوفمبر 1954، والتي كانت على رأس أولويات عملها منذ النشأة هو إصلاح البيت الداخلي، وذلك بتضميد جراح الخلاف بينهم، وقطع دابر الصراع والفتنة، التي استنزفت طاقاتهم وأكلت عافيتهم لسنوات طويلة.. لقد تمكنوا – يا سيادة الرئيس – من خلال التوافق وتجميع الجهود والمواقف على تحديد الأهداف الوطنية العليا في مؤتمر الصومام عام 1956، حتى أخذت ملامح النصر والتمكين تترآى لهم، وأنجزت الثورة – بوحدة الموقف والقرار – تطلعات التحرير والاستقلال في الخامس من يوليو 1962، وتحققت بذلك عودة “الجزائر للجزائرين”، بعدما ظن المستعمر الفرنسي أنها جزء من فرنسا، واستوطنوها بثقة آمنين!!
نعم؛ أنجزت جبهة التحرير الوطني الجزائرية وعدها، وحقق ثوارها لشعبهم ما عاهدوا عليه الله، وما عقدوا عليه العزم، وهو “أن تحيا الجزائر”.
التاريخ يعيد نفسه – يا سيادة الرئيس – وشعبنا لم ولن يفقد الأمل، ولعل مسيرات العودة القادمة في الثلاثين من مارس هي بدايات البشرى، وإرهاصات الوعد لتأكيد مطالبنا وتثبيت حقنا؛ باعتباره حق يأبى النسيان. د.أحمد يوسف