مرايا – يحتدم النقاش في الساحة الفلسطينية حول الانتخابات التشريعية والرئاسية، لا سيما بعد أن أعلنت كافة الفصائل الفلسطينية في غزة وفي مقدمتها حركة حماس الموافقة على عقد الانتخابات وفقا لرؤية الرئيس محمود عباس القائمة على إجرائها على أساس قانون التمثيل النسبي الكامل، الذي يعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة دائرة انتخابية واحدة، وكذلك عدم التزامن بين التشريعية والرئاسية بحيث يفصل بينهما ثلاثة أشهر أو أكثر.

ومما يرفع من سقف التوقعات بإجراء هذه الانتخابات و يوحي بأن فرصة جدية تلوح في الأفق، كثرة الحديث عن ضغوط دولية، وبالذات أوروبية، تمارس على السلطة، في ظل فراغ دستوري نجم عن قرار السيد أبو مازن حل المجلس التشريعي، وعجز فصائلي عن الخروج من المأزق الوطني القائم، بالإضافة الى أن صحة الرئيس “الثمانيني”، الذي بات بيده كل السلطات والصلاحيات وهو رئيس كل المؤسسات السياسية، محل نقاش ما أن يخفت حتى يعود من جديد، واذا ما تزامن ذلك مع فشل رهانات مختلف الأطراف الفلسطينية على التغير في المنطقة العربية، سواء لصالح الربيع العربي أو الثورات المضادة، وبما يخدم صراعها البيني، فإن الأمل يزداد بجدية هذه الخطوة وبلوغها منتهاها.

رغم ذلك، يثير كثيرون وهم محقون، الكثير من التساؤلات حول إمكانية إجراء الانتخابات، وكيف لها أن تتم في بيئة سياسية يسودها انعدام الثقة بين الأطراف والعجز عن تطبيق أي من التفاهمات التي وقعت بين الفصائل، وغياب سلطة القانون، وفقدان الحريات في ظل سيطرة وسطوة الأجهزة الأمنية، التي باتت الحاكم الفعلي للأراضي الفلسطينية والمتحكم في تفاصيل حياة الناس، وفي ظل الأزمات الداخلية التي تعاني منها الفصائل، لا سيما حركة فتح، التي يشكل تيار القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان أحد التحديات الرئيسة التي تواجهها، وقبل كل ذلك التحديات الناجمة عن الاحتلال وقدرته على التأثير بشكل فعال في الانتخابات وبالذات في الضفة الغربية وخاصة في مدينة القدس. وأخيرا مدى جدية الأطراف المختلفة في التنازل عما بين أيديها من سلطات إذا ما خسرت الانتخابات، أو عجزت عن تشكيل تحالفات تضمن بقاءها في السلطة، فمن يشارك في الانتخابات يدرك أنه يجب أن يتخلى عن السلطة إذا ما قادت إرادة الناخبين الى ذلك، وإلا فلا مبرر للمشاركة فيها أو الدفع باتجاه عقدها.

النظر في هذه التخوفات والتساؤلات ينبغي أن يكون في سياق نظرة شاملة للمشهد الفلسطيني ومن كافة الزوايا، وبنظرة سريعة على الواقع السياسي الدولي والإقليمي، نجد أن موقع القضية الفلسطينية قد تراجع كثيرا، ولم تعد القضية الفلسطينية أولوية عند عدد كبير من القوى الدولية والإقليمية، وحتى العربية، فقد نتج عن موجة الربيع العربي، وموجة الردة عنها عبر الثورات المضادة، مجموعة من القضايا السياسية والوطنية والقومية، ولم تعد فلسطين قضية المنطقة الوحيدة، فلدينا القضية العراقية واليمينة والسورية والليبية، وهي قضايا شائكة ومعقدة تتداخل فيها الأدوار الدولية والإقليمية والدينية والسياسية والطائفية والقومية…الخ، مما يجعل التنبؤ بموعد انتهائها أمرا غاية في الصعوبة، خصوصا وأن هذه القضايا المتفجرة مركزها مجموعة من أهم الدول التي عرفت تاريخيا بدعمها للقضية الفلسطينية.

يتزامن هذا التراجع في الموقع الدولي والإقليمي للقضية مع أزمة غير مسبوقة في البرامج السياسية والوطنية وغياب للرؤية تعاني منها الفصائل والقوى الفلسطينية، ما جعل الفلسطينيين يعيشون متاهة لا يبدو لها مخرج في المدى المنظور، وقد قاد ذلك إلى حالة جمود سياسي ووطني لا تؤدي الا لمزيد من التدهور في الحالة الوطنية، وبدا الانقسام وكأنه قدر الفلسطينيين الذي لا يستطيعون الخلاص منه، وظهر الجميع عاجزا أمام التيارات المستفيدة منه، وباتت لقاءات المصالحة التي لا يترتب عليها أي تغيير إيجابي على الأرض محل نقد شديد، بل وتهكم في بعض الأحيان، من قبل غالبية الشعب الفلسطيني.

هذا الفشل الوطني في الوصول إلى صيغ قابلة للتطبيق، وغياب الإرادة أو القدرة على تطبيق ما يتفق عليه من تفاهمات وطنية، أدى الى حالة ركود وطني قاتل، ففي مقابل العجز الفلسطيني عن الفعل، على أكثر من صعيد، يستمر الاحتلال في فرض الوقائع على الأرض، مستندا الى ضعفنا ودعم دولي منحاز يشجعه على الاستمرار في التغول على الحقوق الفلسطينية، فنقل السفارة الصهيونية الى القدس، والاعتراف بها عاصمة للكيان ،وضم الجولان السوري المحتل، والحديث عن ضم معظم أراضي الضفة الغربية، كل ذلك حدث في ظل عجز فلسطيني، لا بد من العمل على التحرر منه، والتغلب على العوامل التي أوصلتنا إليه، فالانتظار لا يخدم إلا الاحتلال. بينما التغير في المشهد السياسي الفلسطيني والبنية السياسية والمؤسساتية متطلب أساسي للتغلب على هذه الحالة من العجز، وفي ظل الانغلاق القائم وعجز آليات مختلفة عن التغيير في الوضع القائم والتخلص من الانقسام، قد تشكل الانتخابات التشريعية والرئاسية مدخلا ممكنا للتغير، عدا عن كونها مسارا طبيعيا وصحيا، وذلك للاعتبارات الآتية:

أولا: الانتخابات حق أصيل للشعب الفلسطيني، وكما أن الشعب الفلسطيني، كان ولا زال، هو صمام الأمان في الحفاظ على القضية الوطنية وحامي ثوابتها ، فمن حقه أن يقول كلمته ويعبر عن إرادته تجاه الأزمة القائمة.

ثانيا: عدم قدرة الفصائل الفلسطينية، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، على التوافق والعمل ضمن المشترك الوطني الممكن، والاستمرار في حالة المناكفة غير المسؤولة وعلى حساب الوطن والمواطن، مما يؤكد ضرورة إعادة القرار الى صاحبه الشرعي وهو الشعب الفلسطيني.

ثالثا: افتقار كل المؤسسات السياسية القائمة إلى الشرعية الشعبية، وبالتالي الدستورية، فقد انتهت فترة شرعيتها منذ سنوات، الأمر الذي يعني أن السلطات القائمة تتصرف وفق شرعية مدعاة، تجعلها ضعيفة أمام أي تحد جدي، فهي ضعيفة أمام المجتمع الدولي وأمام دول الإقليم وقبل ذلك أمام الشعب الفلسطيني.

رابعا: فساد المؤسسات السياسية الحكومية والوطنية، فمؤسساتنا السياسية ليست فقط نموذجا للأنظمة الشمولية الفاسدة التي تغيب عنها التعددية والشفافية، بل هي أقرب إلى الدولة الفاشلة، حيث يتصرف كل حزب يسيطر على مؤسسة وفق هواه الحزبي وبما تمليه عليه مصالح حزبه، بعيدا عن المصالح الوطنية الكلية ودون اعتبار لعامة الناس ما يشعر قطاعات كبيرة من شعبنا بحالة اغتراب في بلدهم، ويزيد المشهد عبثا أن كل ذلك يتم في ظل الاحتلال وتحت سقفه.

خامسا: ضعف النخبة السياسية وعجزها، وهذا أمر لا يحتاج لتفصيل لأن كل ما يمكن أن يقال في الحالة الفلسطينية مرتبط بهذه الفئة وأدائها.

سادسا: ضعف الثقة بالأحزاب والنخب السياسية، وهو ما يظهره سلوك الناس في الميدان، بالإضافة لكثير من الدراسات واستطلاعات الرأي، وقد ترتب على ذلك، وعلى غيره من العوامل، ظهور مؤشرات على لامبالاة شعبية غير مسبوقة، حتى تجاه بعض القضايا ذات الحساسية الوطنية الكبيرة، كالشهداء والأسرى والاقدس والاستيطان وغيرها.

بالرغم من كل ما سبق ذكره، يطرح الكثير من الكتاب والمثقفين والمتابعين للشأن الفلسطيني جملة من المحاذير والتحديات التي تجعلهم يتشككون في جدية وجدوى هذه الخطوة. ومن أهم هذه المحاذير مدى القدرة على إجرائها في مدينة القدس والآليات التي ستتم بها، وكذلك وجود المحكمة الدستورية، التي يعتبرها غالبية الفلسطينيون (مؤسسات وفصائل ومختصون) غير شرعية وغير قانونية، وتشكل أداة بيد الرئيس يمكن أن يستخدمها متى شاء وكيفما شاء، بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات محلية أو دولية لاحترام نتائج الانتخابات فضلا عن ضمان نزاهتها وتوفير البيئة المناسبة لإجرائها بالذات الحرية في التجمع والتعبير عن الرأي وضرورة لجم الأجهزة الأمنية التي باتت تتدخل في كل تفاصيل حياة الناس.

كل هذه التخوفات والتحديات الموضوعية، لا ينبغي أن تحول دون إجراء الانتخابات، لأن ما يترتب عليها من إشكاليات لا يمكن أن يقارن بمخاطر استمرار الوضع القائم، ولأن التغلب عليها والنضال من أجل تذليلها أمر ممكن، إذا وجدت الإرادة اللازمة، فعلى كل القوى والشخصيات التي تنوي خوض غمار هذه الانتخابات العمل متحدة لمواجهة هذه التحديات، وبالذات فيما يتعلق بالانتخابات في مدينة القدس، التي لا يمكن إجراء انتخابات بدونها، وفي ذات الوقت لا ينبغي التسليم بان قرارها بيد الاحتلال ولعل هذه فرصة لتحدي الاحتلال وكل إجراءاته الباطلة في المدينة. ومما يجعل النضال من أجل تجاوز هذه التحديات أمرا لا مفر منه، أنها ستبقى قائمة دائما ولا يعول على عامل الزمن في حلها، بل إنها تزداد صعوبة وخطرا كلما تأخر الوقت.

أخيرا، فإن التوافق الوطني والعمل المشترك، هو الخيار الأنسب دوما وهو رغبة غالبية الشعب الفلسطيني، التي ظهرت في معظم استطلاعات الرأي، لكن الانتخابات التي تحمل في ثناياها بعض المخاطر تبقى أفضل بكثير من الواقع القائم الذي تخسر فيه القضية الوطنية وفصائل العمل الوطني كل يوم من رصيدها السياسي والمعنوي. وأعتقد أن أحدا لا يمكنه تقديم مخرج آمن تماما لأنهاء هذه الحالة السياسية المأساوية التي يعاني منها الفلسطينيين، فلا يوجد مخرج دون مخاطر وتحديات وهو ما يوجب على الفصائل أن تتهيأ للتعامل معها لا أن تستمر في الهروب إلى الامام.قدس