توافقت اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في نقاشاتها على مجموعة منطلقات وشروط تشكّل مجتمعةً بيئة حاضنة لبناء النموذج الديمقراطي الأردني المطلوب، وهي:
1. تحديث وطنيّ شامل ومتكامل.
اللجنة قالت في مخرجاتها إن التحديث السياسيّ لا ينمو ولا يزدهر من دون تحديث وطنيّ شامل ومتكامل يشتمل على التحديث والتطوير الاقتصاديّ، والتحديث والتطوير الإداري والقضائي، وصولًا إلى تحديث المجتمع في أنساقه الثقافيّة والاجتماعيّة المتعددة.
وبينت اللجنة أن التحديث السياسي قد يكون مقدمة لمجالات تحديث أخرى وقد يجري بالتوازي معها، ولأنّ الدولة الأردنيّة قطعت أشواطًا طويلة في التنمية والتحديث، فإنها اليوم بحاجة إلى مواصلة هذه المسيرة في المجالات كافة كما أشارت الرسالة الملَكيّة، وهو ما كان جلالة الملك قد كرّره في أوراقه النقاشية.
ويرتبط شرط الشمولية والتكامل في التحديث السياسي بدائرتين أساسيتين؛ تتمثل الأولى في البيئة الداخلية للتحديث السياسي بما تنطوي عليه من تحولات وعمليات تمسّ التشريعات وبنى المؤسسات وما يتصل بها من حريات عامة ومنظومة حقوق الإنسان. أما الدائرة الثانية فهي البيئة العامة الأشمل التي تعنى بالتحديث الاقتصاديّ والتحديث الإداري والقضائي وصولًا إلى تحديث المجتمع.
وترى اللجنة أن النتائج التي توصلت إليها في مجالات تحديث التشريعات السياسيّة الرئيسة تحتاج إلى توفير بيئة ملائمة من الحريات العامة والانفتاح ومنظومة حقوق إنسان متكاملة؛ بما يتيح إنضاج مجال عام تعدُّدي يتيح للأفراد والجماعات والأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية حرية الحركة والتعبير والمشاركة ضمن سقف القانون، وبما يكفل الانتقال السلس لمرحلة سياسيّة جديدة.
ويمتدّ بناءُ المجال العام الديمقراطيّ ليشمل الانفتاحَ في حرية التعبير ضمن حدود المسؤولية واحترام حقوق الآخرين وخصوصياتهم وبما يحول دون نشر خطاب الكراهية والإقصاء، وصولًا إلى حرية التجمع والعمل النقابي المهني وحرية التنقل والحق في الأمن والحد من أعمال التوقيف الإداري.
وبينت اللجنة أن تحديث المنظومة الإدارية العامة شرطٌ أساس لعملية التحديث الشاملة والمتكاملة، وركنٌ من أركان ورشة تحديث الدولة الذي يتطلع إليه الأردنيّون والأردنيّات في مطلع المئويّة الثانية، ولا يمكن أن يكون التحديث الإداري سابقًا للتحديث السياسيّ، فالإدارة ذراعٌ تنفيذيّة تطبّق الرؤية السياسيّة، الأمر الذي يعني أن التطبيق مرهون بالإدارة وهو ما يحدد مدى النجاح أو الفشل.
لقد تقدّمت الإدارة العامة الأردنيّة على مستوى المنطقة، ويشير سجلُّها إلى تحقيق إنجازات كبيرة، لكنْ توقّف آليات التحسين المستمر وترهُّل الجهاز الإداري والتعثّر في مواكبة الحداثة أدّت إلى تراجع الكفاءة العامة.
إن التحديث السياسيّ المنتظَر سيتوقف جانبٌ منه -كما هي الحال في تحديث الدولة الأردنيّة- على تحديث الإدارة العامة بما يجعلها تتسم بالرشاقة، ولتكون ذات هياكل أكثر قدرة على الاستجابة لمتطلبات التغيير والعصر، وأكثر تأهيلًا للموارد البشرية، وأكثر قدرةً على الاستجابة للمساءلة والشفافية.
وبما أن النظام الاقتصاديّ الأردني يعاني من تشوُّهات مزمنة تتجسّد في ضعف مخرجاته وتعذُّر قدرته على النمو، الأمر الذي يستدعي تعزيز الإنتاجية وتوفير فرص العمل، فإن تحديث النظام الاقتصاديّ كان وما زال همًّا وطنيًّا كبيرًا يرتبط بالتحديث السياسيّ، ولا يمكن فصل المسارَين على المدى البعيد عن بعضهما بعضًا، فالمجالان يمارسان تأثيرات متبادلة لصالح منظومة التحديث الشامل والمتكامل.
ولعلّ التجربة الأردنيّة، أسوةً بتجارب العديد من دول العالم، تثبت أن التحديث السياسيّ قد يتقدم خطوةً على التحديث الاقتصاديّ ولكن التحديث الاقتصادي يجب أن يتبعه مباشرة وألّا يتأخر، فإنّ هذا ما يفسّر نجاح الدولة الأردنيّة في تمرير إصلاحات اقتصاديّة في ظل الانفتاح السياسيّ والتحول الديمقراطيّ بعد عام 1989، فلم تكن برامج التصحيح الاقتصاديّ لتُنفَّذ لولا وجود برلمانات وأدوات مشاركة وقدرٍ من حرية التعبير ساهمت في شرح هذه البرامج وتوضيح أهميتها.
إنّ الديمقراطيّة تمثل في أحد أبرز وجوهها منهجيةً لإدارة الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهيكلها لا يُبنى إلّا بالاقتصاد، أيْ خيارات المجتمع في برامج الخدمات والبنى التحتية والتعليم والصحة وإدارة الأسواق والعمل وغير ذلك.
وعبر التاريخ الحديث يتنافس السياسيّون على طرح أفضل البرامج الاقتصاديّة التي توفر حلولًا لمشاكل المجتمعات، الأمر الذي يؤكد أن الديمقراطيّة ليست نظامًا سياسيًّا مجردًا، بل آلية لتحقيق مصالح الناس، التي هي في الغالب مصالح اقتصاديّة ترتبط بالعيش والعدل والكرامة.
إن الديمقراطيّة الأردنيّة المنشودة لا يمكن أن تزدهر من دون أن يشهد المجتمع تطورات لصالح الطبقة الوسطى تعمل على توسيع قاعدتها وتحسين جودة حياتها وخياراتها، فهي البنية التحتية والنسيج الاجتماعيّ القادر على خلق إزاحة حقيقية لصالح التحديث الاقتصاديّ والسياسيّ معًا.
ولا بد من معالجة تنامي البطالة في أوساط الشباب، وهذا يتطلب حلولًا سريعة وفورية والتخلُّص من العراقيل الإدارية والمالية التي تواجههم في تنفيذ مشاريعهم ومبادراتهم، فهم جيلُ الحاضر والمستقبل، مثلما يجب اغتنام نتائج الزيارات الملَكيّة لدول العالم وفتح آفاق جديدة أمام القطاع الخاص وأمام الاستثمارات الكبرى التي تساهم في تخفيض كُلَف الإنتاج وتحسين نوعية حياة المواطنين وتوفير البنى التحتية المناسبة للنمو والازدهار.
إن التحولات المنتظَرة في منظومات التحديث السياسيّ والإداري والاقتصاديّ ستصبّ في النتيجة لصالح تحديث المجتمع الأردنيّ في أنساقه الثقافيّة، وغرس قيم الحداثة إلى جانب قيمه الأصيلة، ونشر الرؤية العقلانية والنزعة إلى الانفتاح والعالمية، وفي المحصلة زيادة قوة الدولة وثراء المجتمع.
2. ديمقراطيّة تناسب الأردنيّين
وقالت اللجنة إنه لا توجد دولة تشبه دولة أخرى في مسارها التاريخيّ نحو الديمقراطيّة، ولا يوجد عمليات انتقال سياسيّ في العالم المعاصر لم تأخذ في الاعتبار مستويات التطور الاجتماعيّ والاقتصاديّ لشعوبها، في الوقت الذي أثبتت فيه الأدبيات السياسيّة المعاصرة أن الفشل هو مصير النَّسْخ الكربونيّ للتجارب الديمقراطيّة، فالديمقراطيّات ليست وصفات يمكن أن تُستورَد من الخارج.
كان جلالة الملك عبدالله الثاني في لقائه الأول مع اللجنة الملَكيّة لتحديث المنظومة السياسيّة في 15 حزيران/يونيو 2021 واضحا، ومدركًا تمامًا للتجارب والخبرات العالمية والاعتبارات الوطنيّة في مسار البناء الديمقراطيّ، وهذا ما عبّر عنه جلالته بقوله: “هدفنا تطوير المنظومة السياسيّة، وصولًا للحياة البرلمانيّة والحزبيّة التي تناسب الأردنيّين ومسيرة الأردن الديمقراطيّة”.
وتدرك اللجنة أن هناك قواسمَ مشتركة ومبادئ عامة توافقت عليها التجارب والممارسات الديمقراطيّة في النظُم المختلفة لا يمكن تجاوزها، وتراثًا إنسانيًّا مشتركًا للديمقراطية. كما هي الحال في إدراك أن الثقافة العربيّة ومن ضمنها ثقافة الأردنيّين وقيمهم، منسجمة تمامًا ولا تتعارض مع النهج الديمقراطيّ والرغبة في المشاركة.
اللجنة، قدمت عددا من النقاط التي تناسب الأردنيين والأردنييات وما لا يناسبهم، وهي:
• إن النموذج الديمقراطيّ الأردنيّ نابع من الداخل، ويعكس الإرادة السياسيّة الوطنيّة، ويعبّر عن مصلحة وطنيّة حقيقية حان وقت استحقاقها بعد مائة عام من تأسيس الدولة. هذا النموذج لا يقبل الوصفات الخارجية ولا يقبل التدخل الخارجي، كما لا يقبل الامتدادات العقائدية والتنظيمية للأحزاب والتنظيمات السياسيّة.
• إن مسار نضوج النموذح الديمقراطيّ الأردنيّ المتمثل في تحديث الحياة البرلمانيّة والحزبيّة البرامجيّة يجب أن يبدّد مخاوف أيّ طرف أو مكون اجتماعيّ من أن يوظَّف التحديثُ السياسيّ لأهداف أخرى غير المصلحة الوطنية. إنّ الديمقراطيّة الأردنيّة يجب أن تعمل لصالح الجميع وأن يعمل الجميع لصالحها، وإنّ العدالة وتكافؤ الفرص هما الأساس.
• لقد ترك تعثُّر الحياة الحزبيّة في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم عودتها الضعيفة، إرثًا قاسيًا وصورة نمطية حول الأحزاب السياسية لا يمكن تغييرها بالتشريعات أو بقرار سياسيّ، بل تحتاج إلى عمل سياسيّ وإداريّ وثقافيّ على المدى المتوسط لطمأنة المواطنين بأن تمكين الأحزاب السياسية واستعادة دورها أصبح خيارًا وطنيًّا لا رجعة عنه وأن انخراط المواطنين في العمل الحزبي جزءٌ من المشاركة المطلوبة وجزء من مساهمتهم في البناء الوطني؛ كلّ ذلك يتطلب بناء صورة ذهنية ووعي مجتمعي حول العمل الحزبيّ ومكانته المركزيّة في الديمقراطيّة.
• تَشكّل المجتمع الأردنيّ على التنوع منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واستمر في تطوير قدرته على الاستيعاب والإدماج، وخلال هذه التجربة استطاع الأردنيّون والأردنيّات تطوير خبرة في الوئام الاجتماعيّ والسياسيّ واستطاع نظامهم السياسيّ تطوير مقاربات منها ما هو موثَّق في التشريعات ومنها ما أصبح تقليدًا وطنيًّا في الحفاظ على حقوق جميع الفئات الاجتماعيّة وأدوارها. والنموذج الديمقراطيّ الأردنيّ الحديث يعمل على حماية التنوع وعلى زيادة كفاءة النظام السياسيّ في الإدماج كي تعمل الديمقراطيّة من أجل الجميع ويعمل الجميع من أجلها.
• تربط العديد من تيارات الحداثة السياسيّة في العالم بين التحديث السياسيّ وإعادة بناء الدول وصولًا إلى ما يسمّى «إعادة اختراع الحكومة»، بمعنى أن الحداثة السياسيّة المتطرفة تسعى إلى تحويل السلطة التنفيذية إلى مجرد حكم محايد بين آليات السوق، الأمر الذي يقود إلى تجريد الدولة من وظائفها التاريخيّـة وتراثها في ترسيخ العدالـة الاجتماعيّة، وتحويل المؤسسات السياسية إلى كيان رمزي هشّ بحجّة الحداثة السياسية. إن النموذج الديمقراطيّ الأردنيّ لا يقبل بهذا المنظور؛ بل إن التحول الديمقراطيّ وفقًا للرؤية الأردنية يجب أن يعمل لصالح قوة الدولة وثراء المجتمع معًا.
• شُيّدت الدولة الأردنيّة على مدى قرن بفعل الاستقرار، وواجهت حالةَ الطوارئ المحيطة التي لم تتوقف في الإقليم على مدى عقود، وأصبحت الخبرةُ الأردنيّة في إدارة الاستقرار مضربًا للمثَل وقيمةُ الأمن قيمةً اجتماعيّة يعتزّ بها المواطنون كافة، لذا يجب أن يعمل النموذج الديمقراطيّ الأردنيّ من أجل الاستقرار ويجعل الديمقراطيّةَ مصلحةً للأمن الوطنيّ، وعليه في الوقت نفسه ألّا يقبل التذرُّع بالاعتبارات الأمنية التقليدية لإبطاء حركة الديمقراطيّة أو تقييد الحريات العامة.
3. هويّة وطنيّة تدمج الجميع
يجتمع الأردنيّون على نسيج الهويّة الوطنيّة التي تكوّنت على مدى الأزمنة، وتعزّزت بفعل الانتماء ورسوخ القِيَم التي دشّنتها الدولة الأردنيّة المعاصرة، إذ جعل الأردن من الإسلام والقومية العربيّة عنصرَين ومكوِّنَين أساسيَّين للهويّة الوطنيّة، ووازن بينهما بصورة تحقق الاندماج والتصالح على المستويَين السياسيّ والاجتماعيّ، ويعرّف الأردنيّون أنفسهم بالهوية الأردنيّة العربيّة الإسلامية ويدركون معنى هذا التعريف في ممارساتهم وخياراتهم اليومية والمصيرية، وفي تشكلهم التاريخيّ، وفي خيارات دولتهم السياسيّة والاجتماعيّة، وفي منظومة الرموز الوطنيّة المعاصرة التي تنتمي إلى فكر النهضة العربيّة وتسمو بالقيم والتراث الإسلامي.
والأردنيّون والأردنيّات من الأصول والمنابت والأعراق كافة هم أردنيّون في الانتماء والولاء والشعور الوطنيّ والمصير؛ أغنوا الهويّة الوطنيّة بتعدُّديتهم وتنوُّعهم، ومنحتهم الهويّة الوطنيّة لونَهم المشترك ومصيرهم الواحد.
وعُرفت الدولة الأردنيّة بقدرتها الكبيرة على الدمج الاجتماعيّ في الهويّة الوطنيّة، وعُرف المجتمع الأردنيّ باستعداده لهذا الدمج، وحرصت الدولة على التوازن في سياساتها وفي قدراتها التوزيعية التي تخدم قوة الهويّة الوطنيّة ووضوحها، إذ قام هيكل الدولة الأردنيّة على التوازن بين قيم الاعتدال والحداثة؛ فاستطاع المواءمة بين الماضي والحاضر، وأتاح الفرصة للتمازج بين القيم المدنية والدينيّة، والتوازن بين الحقوق والواجبات على المستوى الأفقي.
وواجهت الهويّة الوطنيّة في العقود الأخيرة تحديات عديدة، لعلّ أبرزها نموّ الهويّات الفرعيّة والنزعات الجهويّة والانتماءات لمرجعيات فرعيّة، الأمر الذي جعلَ فئات محدودة تعتقد أن بإمكانها تعريف الهويّة الوطنيّة بدوائرها الضيقة، كأنها في مواجهة مع فئات أخرى. وهذه النزعات يجب تجاوُزها في سياق التطور السياسي والثقافي للمجتمع.
وقالت اللجنة إنّ الهويّة الوطنيّة التي تدمج الجميع وينتمي إليها الجميع، أحدُ الشروط الأساسية لبناء النموذج الديمقراطيّ الوطنيّ، وهي هويّة مركزيّة جامعة تلفظ الهويّات الفرعيّة وتحتفي بالثقافات الفرعيّة للمجتمعات المحليّة وللمدن والقرى والجماعات، والهويّةُ القوية المتماسكة هي إثراءٌ حقيقيّ للنموذج الديمقراطيّ الوطنيّ.
وبينت اللجنة أن التخلّصَ من أوهام الهويّات الفرعيّة وإثراءَ الهويّة الوطنيّة المركزيّة الجامعة في سياق استكمال النموذج الديمقراطيّ الوطنيّ، يتطلّبان ثلاثة شروط أساسية:
أ – المشاركة السياسيّة والمدنية؛ فكلّما استطاع النظام السياسيّ توفير آلية ضامنة ومحفّزة على المشاركة السياسيّة والانخراط في الأطُر التنظيمية المدنية، ازدادت ثقةُ المواطنين والمواطنات بأهمية اندماجهم بالشؤون العامة وتَعمّق لديهم الشعورُ الجمعيّ المشترك وتعزّزت إرادتهم ورغبتهم في التنافس والتكامل من أجل الخدمة العامة.
ب – إحداث تغيُّر تاريخيّ في مزاج المجتمع وشعوره وإدراكه للعلاقات وإعادة تشكيل التوقُّعات العامة، استنادًا إلى أنّ الالتفاف حول هدف كبير أو فكرة كبرى أحد تعبيرات الهويّة في التجارب الناجحة. إنّ الأردن يمتلك القدرة والرصيد على خلق الهدف الوطنيّ الكبير، ولعلّ مئويّة الدولة وقوّة النظام السياسيّ وقِيَمه ومشروعه الراهن في تحديث الدولة هي الأساس لهذا الهدف.
ج – تعزيز الوطنيّة الأردنيّة القائمة على الانفتاح وتعميق رموزها من خلال تنمية القوّة الناعمة للدولة والمجتمع وتنمية سرديّة وطنيّة جامعة ذات مسارات متعدّدة في مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام.
4. المواطنة الفاعلة
إنّ تنمية المواطنة الفاعلة شرطٌ أساسيّ لنضوج النموذج الديمقراطيّ الوطنيّ، ومن دونها لا يمكن تطوير عمل الأحزاب السياسية ولا التقدُّم نحو برلمانات قوية، والمواطنةُ الفاعلة هي جوهر الديمقراطيّة التي تُدشَّن من أجل المواطن، فالمواطن فيها هو الوسيلة والغاية.
واستطاع الأردن في المئويّة الأولى تدشين نموذج وطنيّ لدولة تعمل لجميع مواطنيها، على أساسٍ من العدل والمساواة واحترام سيادة القانون. ولأنّ المواطنة تقوم على ثنائيّة الحقوق والواجبات، فإنّ هذه العلاقة ما تزال بحاجةٍ إلى تنمية، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ معادلة الحقوق والواجبات تَعرّضت لاختلالاتٍ عديدة في مراحل مختلفة، ولا يمكن المضيّ قُدمًا في بناء النموذج الديمقراطيّ الوطنيّ من دون إصلاحها.
وأوضح جلالة الملك عبدالله الثاني في الورقتين النقاشيّتَين الثانية والرابعة أهمية المواطنة الفاعلة في النظام الديمقراطيّ الأردنيّ ومتطلّبات تنميتها وأنها أساس المشاركة السياسيّة والعامّة التي ترتكز على ثلاثة أسس رئيسة هي: حق المشاركة، وواجب المشاركة، ومسؤولية المشاركة الملتزمة بالسلميّة والاحترام المتبادل.
وانطلاقًا من رؤية الأوراق النقاشية فإن تنمية المواطنة الفاعلة في سياق النموذج الديمقراطيّ الأردني يجب أن تنطلق من المبادئ التالية:
• الحقّ: إنّ الانخراط في الحياة السياسيّة يشكل حقًّا أساسيًّا لكل مواطن، مع وجوب حماية المجال العام للتعبير الحرّ عن الآراء السياسيّة المختلفة»، وهذا يتطلّب سياسات عامة تجعل البيئة السياسيّة أكثر انفتاحًا وتعدديةً وأمنًا لممارسة النشاط السياسيّ، وتمنح المواطنَ الشعور بالجدوى من الانخراط في الشؤون العامة.
• الواجب: إنّ المشاركة السياسيّة في جوهرها تشكّل مسؤوليةً وواجبًا. فعلى كل مواطن أن يتحمّل جزءًا من هذه المسؤولية عبر اختيار شكل المستقبل الذي ننشده للأجيال المقبلة. وواجبنا كمواطنين لا ينتهي بمجرّد القيام بعملية التصويت في أيّ انتخابات وطنيّة، بل يمتدّ ليشمل التزام كلّ مواطن بالمشاركة الفاعلة في الحياة المدنيّة والسياسيّة بشكل يوميّ.
وتعزيز فكرة الواجب الوطنيّ في المشاركة والانخراط في الشؤون العامة يتطلّب من مؤسسات التنشئة الاجتماعيّة والإعلام عملًا تراكميًّا في خلق الوعي بهذه القيمة، ويتطلّب سياسات موجَّهة للشباب والأجيال الجديدة تُعلي من قيمة هذا الواجب ليتحوّل إلى جزء من الثقافة المجتمعيّة والسلوك العام.
• المسؤولية: إنّ المشاركة الفاعلة في الحياة السياسيّة ترتّب مسؤوليات على كلّ فرد منّا فيما يتعلق بكيفية الانخراط في العمل السياسيّ وقد ذكر جلالة الملك في الورقة النقاشية الأولى أربع ممارسات ديمقراطيّة يترتب على جميع المواطنين الإيمان بها كي تزدهر الحياة السياسيّة، وهي احترام الرأي الآخر، والانخراط الفاعل، وتبنّي الحوار والحلول الوسط ورفض العنف، والشراكة في التضحيات والمكاسب.
إنّ تنمية منهج المواطنة القائمة على المسؤولية تحتاج إلى إصلاحات عميقة تستهدف تطوير دور المؤسسات التعليميّة ومؤسسات التنشئة الاجتماعيّة والدينيّة والمؤسسات الثقافيّة في مجالات: التربية على الشؤون العامة، والتربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة، والتربية على المساءلة الرشيدة. كما تتطلّب سياساتٍ أخرى تعمل على إعادة تنظيم المجال العام والعمل المدني ووسائل الإعلام لتكون أكثرَ تعدديةً وقدرةً على المساءلة الذاتية.
5. مؤسسات سياسيّة قوية وحديثة ومتكاملة
إن التشريعات السياسيّة الحديثة ودورية إجراء الانتخابات ووجود أحزاب سياسيّة برامجيّة، لا يمكن أن تكفل وحدَها استدامة الديمقراطيّة من دون وجود مؤسّسات سياسيّة قويّة وحديثة ومتكاملة، ولعلّ هشاشة المؤسسات السياسيّة وعدم تكاملها يفسّران جانبًا مهمًّا من تعثُّر الكثير من التجارب الديمقراطيّة وعودة الاستبداد في العديد من الدول.
ويتطلّب بناء النموذج الديمقراطيّ الأردنيّ المضيّ قُدمًا في تحديث وتقوية السلطات الثلاث (التنفيذية، والتشريعيّة، والقضائية)، والمؤسسات السياسيّة المنضوية تحتها، والمؤسسات المستقلّة عنها. ويحتاج ذلك إلى ثلاث دعامات أساسيّة:
أ. الاستقلالية، وتتطلّب:
• ضمان استقلالية السلطات والفصل بينها وتوازنها وعدم هيمنة سلطة على أخرى أو ممارسة أيّ ضغوط عليها.
• وضع مدونة سلوك إيضاحية للعلاقة بين السلطات تُستمَدّ من مبادئ الدستور لتوضيح حدود العلاقة بينها وأدوار أعضاء كلّ سلطة في علاقتهم بالسلطات الأخرى؛ الأمر الذي يوفر آلية لتنظيم العلاقة بين الحكومة والبرلمان، على غرار عقد لقاءات بين الوزراء والنواب بمواعيد يُتَّفَق عليها من خلال وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية، على أن ينظَّم محضر اجتماع يوثّق ما يدور في كلّ لقاء ويُنشَر لاطلاع المواطنين.
• تعزيز المبدأ الدستوريّ الخاص بالولاية العامة لمجلس الوزراء، وتحديد صلاحيات أجهزة الدولة الأخرى على أساس الدستور والقانون.
• وضع آليات محْكمة وشفّافة لضمان استقلالية مجلس النواب وأعضائه وعدم رضوخه لأيّ ضغوط خارجية رسمية أو مجتمعية.
ب. كفاءة المؤسسات السياسيّة؛ بمعنى توظيف الموارد المتاحة بشكل صحيح لينعكس ذلك على الأداء. إنّ كفاءة المؤسسات السياسيّة ترتبط بكفاءة مواردها البشرية، وكفاءة القواعد التي تنفِّذ على أساسها أعمالَها، وكفاءة العمليّات التي تقدم بها ومخرَجاتها.
ج. الامتثال لمبادئ الحياد المؤسسي؛ ويشمل ذلك حياديّة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والمؤسسات الدينية والتعليميّة والمؤسسات الرقابيّة ووسائل الإعلام والسياسة الخارجيّة، لكي تكون هذه المؤسسات لكل الأردنيّين والأردنيّات وتعمل على حماية حقوقهم وتطلّعاتهم، وعدم التدخل في خياراتهم. وتحتاج المؤسسات إلى تطوير معايير واضحة وأنظمة وتعليمات محْكمة لإنفاذ مبدأ الحياد المؤسسيّ وتفعيله.
وقالت اللجنة إن النجاح في تحقيق قوة السلطات وتوازنها وتكامل المؤسسات وحيادها، من شأنه أن يمنحها المزيد من الشرعية، كما إنّ من شأن رضا المواطنين عن أداء المؤسسات أن يقود إلى الثقة بها، وهذا يؤكد أهميةَ مبدأ الحياد الوظيفي، الذي يعني بالضرورة تطوير الجهاز الحكومي على أسسٍ من المهنية والحياد، بعيدًا عن تسييس العمل، فهذا الجهاز الذي يمتلك سلطة قانونية هو للجميع، ويجب أن يبقى كذلك.
6. سيادة القانون
وأنجز الأردنّ الكثيرَ على طريق ترسيخ مبدأ سيادة القانون، وما زال ثمّة حاجة للمزيد من العمل على هذه الطريق، فمنظومة التحديث السياسيّ تُعَدّ فرصة حقيقيّة لإنضاج مسارات سيادة القانون على مستوى مؤسسات إنفاذ القانون والمؤسسات الرقابيّة وعلى مستوى المجتمع والأفراد أيضًا، كما أن ترسيخ سيادة القانون يقف على رأس مبادئ إنضاج التحديث السياسيّ، فلا يمكن تصوُّر ديمقراطيّة راشدة من دون سيادة القانون.
وأدّى التطور والتحديث الاقتصاديّ في العالم إلى تغيير في أدوار الدولة؛ فكلّما تقدّمت الدولة اقتصاديًّا ازدادت الحاجة لترسيخ مبدأ سيادة القانون، وكلّما تقدّمت الدولة في التحديث السياسيّ ازدادت الحاجة إلى جعل القانون مسطرة يلجأ اليها الجميع.
وساهمت اللجان الملَكيّة التي شُكِّلت على مدى العقدين الأخيريَن في ترسيخ مبدأ سيادة القانون، سواء اللجان المختصة في تطوير القضاء أو تلك المختصة في تطوير منظومة النزاهة الوطنيّة، وفي الوقت الذي ستنخرط فيه المملكة بجهد وطنيّ للتحديث السياسيّ فإن الجميع أمام فرصة كبيرة للتخلص من العديد من التشوهات التي تحول دون رسوخ هذا المبدأ.
وبينت اللجنة أن مبدأ سيادة القانون يُعنى بتطوير جودة التشريع، واستقلالية القضاء، وكفاءة جهات إنفاذ القوانين، ومسؤولية المواطنين، في حين أن الحلقة الأهمّ تتمثل في الدولة وأجهزتها، فهي الجهة المعنيّة بتطبيق القانون وفرض النظام العام، وليس من حق أيّ جهة أن تطبّق القانون بيدِها أو تنافسَ الدولة وأجهزتها في احتكار القوة، كما هي الحال في حقوق المواطنين، فينبغي أن يعمل القانون من أجل الجميع وأن يخضع الجميع إليه، ومن حق المواطنين أن يتمتّعوا لقضاءٍ عادل وأن يتخلّصوا من معاناة البطء في المحاكمات (تأخُّر العدالة قد يساوي إنكاره).
وهناك ثلاثة معايير دوليّة معروفة في مجال كفاءة ترسيخ سيادة القانون، الأول: عدد القضايا في المحاكم مقابل عدد السكان. والثاني، زمن التقاضي؛ أي المعدل العام للوقت الذي تبقى فيه القضية منظورة أمام القضاء. والثالث: قدرة الدولة على إنفاذ الأحكام. ومن المعروف أنّ إرهاق مبدأ سيادة القانون يُلجئ الأفراد والجماعات إلى أدواتهم الأوّلية لتحقيق مصالحهم، ومن هذه الأدوات: ممارسة العنف، وكسر تفرد الدولة باحتكار القوة، وتراجع الردع العام، وإنتاج الولاءات الفرعيّة. وما زال هناك تقصير في هذه المعايير الثلاثة، الأمر الذي يستدعي جهدًا إصلاحيًّا كبيرًا.
وعلى هذا الأساس، وكي تستقيم مسارات منظومة التحديث السياسيّ جنبًا إلى جنب مع ترسيخ سيادة القانون وبما يتفق مع ما جاء في الورقة النقاشية الملَكيّة السادسة، فإنّ اللجنة ترى ضرورة استكمال تنفيذ توصيات «اللجنة الملَكيّة لتطوير الجهاز القضائي وتعزيز سيادة القانون»، والحاجةَ إلى إطلاق جهد شامل لتحديث منظومة التشريعات الوطنيّة، ووضع آليات محْكمة وشفّافة كفيلة بتسريع عمليات التقاضي من دون أن يؤثّر ذلك في جودتها، كما هي الحال في وضع خطة وطنيّة لتعزيز قيم الخدمة العامة والحدّ من ظواهر المحسوبية والواسطة والتمييز بين مفهوم الخدمة العامة بقيمها النبيلة وبين مفهوم الخدمة الفردية التي تتجاوز القوانين وتحرم الآخرين من حقوقهم.
إنّ مواجهة ظاهرتَي المحسوبية والواسطة، وهما من أخطر أنواع الفساد، تحتاج إلى جهود مضاعَفة لإنفاذ القانون، وأن تؤدّي مؤسساتُ التنشئة والتعليم والثقافة والإعلام دورًا مؤثرًا في هذا المجال.
ومثلما أكّدت الورقة النقاشية السابعة لجلالة الملك، فإنّ الدولة المدنية هي دولةُ القانون التي تستند إلى حكم الدستور وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينية والشرعية، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتُحدَّد فيها الحقوق والواجبات من دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري.
7. غرس اجتماعيّ وثقافي للتحديث السياسيّ
قالت اللجنة في مخرجاتها، إن الديمقراطيّة الراسخة تبدأ من السياسة المحليّة؛ بجعل الناس على مستوى المجتمعات المحليّة في المحافظات يمارسون ديمقراطيّة محليّة يكون لهم فيها الحقّ بمناقشة السياسات العامة على المستويَين المحليّ والوطنيّ، والمساءلة، وإبداء الرأي، وتحديد أولوياتهم؛ وبذلك يتمّ غرس ديمقراطيّة آمنة وأكثر ارتباطًا بحاجات الناس وكرامتهم وأولوياتهم.
ولا بدّ هنا من التسليم بأنّ الديمقراطيّة عملية تحول اجتماعيّ وثقافيّ في الأصل، تحتاج إلى تعلُّم وغرس ثقافي يتمّ بالممارسة ومن خلال مؤسسات التنشئة معًا، وهذا الأمر يستدعي النظر إلى مشروع الإدارة المحليّة -الذي سيتدرّج إلى مفهوم الحكم المحلي- على أنه اللبنة الأولى في النموذج الديمقراطيّ الوطنيّ الأردنيّ، والأساسُ القوي الذي يحتاج إلى رعاية وتطوير يضاهيان ما تحتاجه مرافق الديمقراطيّة الأخرى.
وبينت اللجنة أن الديمقراطيّة المحليّة أو(الحكم المحلي) انتقالٌ اجتماعيّ ثقافيّ في مجالات الإدارة والخدمات والتنمية، يؤسّس لإعادة إنتاج المجتمعات المحليّة في المحافظات، ضمن مصفوفة كبيرة من متطلبات التغيير والتحديث التي تقود إلى إعادة تمأسس وتشكل لهذه المجتمعات على قيم المشاركة والمسؤولية، والإنتاجية والاعتماد على الذات؛ أي تغيير نوعية حياة الأفراد والأسر.
وأشارت إلى أنّ هذا النموذج الذي يدمج بين الحكم المحلي وتوفير الخدمات العامة بكفاءة وتوسيع المشاركة في تحديد الأولويات التنمويّة، سيشكّل في حال اكتماله أداةً داعمة للنموذج الديمقراطيّ الوطنيّ في توفير عمق اجتماعيّ حقيقيّ للديمقراطيّة، وأداةً لترشيد الرقابة الشعبيّة على المستويَين المحلي والوطنيّ، وتوفير ضمانات حقيقية للاستقرار المحليّ ببعدَيه الأمنيّ والسياسيّ، وإعادة إنتاج النخب المحليّة بالاستناد إلى الكفاءة والإنجاز. إلى جانب ما سيوفره هذا النموذج من المساهمة في تطوير أداء مجلس النواب وتفرُّغه لأداء مهامه التشريعية والرقابية، في ضوء وجود هياكل أخرى ممثَّلة في الإدارة المحلية تعنى بالخدمات والتنمية المحلية. ومن شأن ذلك أن ينهي بعض الاختلالات في فهم المجتمع للتمثيل النيابي، وذلك بالنظر إلى التمثيل من زاوية قوته وتأثيره في مجلس النواب وليس استنادًا إلى عدد المقاعد فقط.
وهذه المهمة يجب أن تتزامن مع إعادة تقييم دور النظام التعليمي والسياسات الثقافيّة في غرس القيم الديمقراطيّة في وعي الأجيال الجديدة وفي سلوكها، ومدى تمثُّل القيم والمفاهيم الديمقراطيّة والوطنيّة الجامعة وقيم المواطنة الفاعلة في المناهج التعليميّة وفي الأنشطة الإثرائية، مع الأخذ في الاعتبار أنّ التحول نحو العمل الحزبيّ البرامجيّ والتنافسيّ يجب أن يحافظ على حياد المؤسسات التعليميّة وألّا يمسّ بأيّ شكل جوهرَ العملية التعليميّة والبحثيّة فيها.
8. إعلام حديث وتدفُّق حُرّ للمعلومات
ويُعَدّ تحديث الإعلام وضمان استقلاليته شرطًا للتحديث السياسيّ، ولا يمكن تصوُّر إنضاج النموذج الديمقراطيّ من دون وجود إعلام حُرّ مسؤول وتدفُّق حُرّ للمعلومات يجعل مهمة النقاش الوطنيّ ميسّرة وقادرة على قيادة رأيٍ عامّ رشيد. إنها مهمة تأسيسيّة لتدشين المجال العام التعدُّدي والـمُعافى الذي تتنافس فيه التيارات والقوى السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة في تقديم الأفكار وفي تفسيرها للأحداث وتقييمها للسياسات العامة. فمع اتّساع تأثير وسائل الإعلام الحديثة وازدياد دور المواطن فيها؛ الأمر الذي رفعَ قدرة هذه الوسائل على التضليل، يصبح تحديث الإعلام وضمان حق المواطن في الحصول على المعلومات ضرورة يجب أن تسير جنبًا إلى جنب مع بقية عمليات التحديث السياسيّ.
وشهد الإعلام الأردنيّ على مدى العقود الثلاثة الماضية إصلاحات مهمة، كما شهد محطات تراجُع، فكانت مسيرته خلالها (خطوة للأمام وخطوة للوراء) وبالتزامن مع إطلاق منظومة التحديث السياسيّ حان الوقت للخروج من الحلقة المفرغة في الإعلام باتباع الخطوات التالية:
• تحديث الإعلام الرسمي، وضمان استقلاليته، وترشيقه، وتخليصه من الترهُّل والبيروقراطية، بما يضمن الاستقلال الإداري والمالي لمؤسساته وتحوُّلها إلى خدمة عامة مستقلّة قائمة على المهنيّة والاحتراف والاختصاص والشموليّة، الأمر الذي يجعلها قادرة على خدمة المصالح العليا للدولة والمجتمع.
• مراجعة التشريعات الناظمة للحريّات الإعلاميّة والحريات عمومًا وفي مقدمتها (قانون المطبوعات والنشر وقانون الجرائم الإلكترونية)، وتحديثها بما لا يتعارض مع مبدأ الحرية المسؤولة.
• مراجعة قانون ضمان حق الحصول على المعلومات وتعديله بما يتفق مع المعايير الدوليّة في هذا المجال، ومنح هذا الأمر أولوية، إذ إن الحق في المعلومات حق للمواطنين كافة ولا تكتمل الديمقراطية من دون توفر معلومات عامة.
• الانفتاح السياسيّ على وسائل الإعلام، وتوفير بيئة سياسيّة صديقة للإعلام، على قواعد احترام المصالح الوطنيّة العليا ومبادئ الدستور والقوانين.
• دعم التحوُّل الرقميّ لوسائل الإعلام الأردنيّة، ووضع خطّة وطنيّة في هذا المجال تعمل على تشجيع بناء نماذج اقتصاديّة ناجحة في مجال الإعلام الحديث.
9. منظومة نزاهة وطنية قويّة ومستقلّة
لا شك أن الفساد أكبر عدوّ للديمقراطيّة، وهو قادر على عرقلة أيّ جهد لتوسيع المشاركة أو بناء مؤسسات سياسيّة قويّة، وفيه يكمن جانب من أسرار فقدان الثقة العامة بين المواطنين وسلطات الدولة ومؤسساتها.
وقالت اللجنة إن شعار مكافحة الفساد ظل المطلبَ الأول للقوى السياسيّة والحركات الاحتجاجية منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وتصاعدَ بشكل كبير مع حركات الاحتجاج التي تزامنت مع (الربيع العربيّ) ورغم أن الدولة الأردنيّة أوجدت منذ نشأتها بنى مؤسسيّة حكوميّة وأمنيّة للرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد تطورت عبر العقود، إلّا أن وجود بنية تشريعيّة ومؤسسيّة قويّة ومستقلّة للنزاهة قد بدأ يتحقق منذ عام 2005.
وتعبّر توجيهات الملك عبدالله الثاني عن إرادة سياسيّة جادّة لإعلان الحرب على الفساد وتجفيف منابعه، واستنهاض همم أجهزة الدولة لمكافحته والوقاية منه بشكل مؤسسي، الأمر الذي جعل الأردن يدخل في مرحلة الانتقال إلى العمل المؤسسي المستقلّ في بناء منظومة النزاهة الوطنيّة. إذ صادق الأردن في عام 2005 على الاتفاقية الدوليّة لمكافحة الفساد، وبدأ مسارًا تشريعيًّا لتعديل التشريعات الوطنيّة بما يتلاءم مع أحكامها.
وفي عام 2006 صدر قانون هيئة مكافحة الفساد. واستمرارًا لنهج الانتقال إلى بنية وطنيّة قويّة في النزاهة، أمر الملك في عام 2012 بتشكيل لجنة ملَكيّة لوضع ميثاق وطنيّ للنزاهة، وأعلنت اللجنة مخرجاتها في مؤتمر وطنيّ عُقد في عام 2013، واشتملت المخرجات على الميثاق الوطنيّ والخطة التنفيذية، وفي عام 2013 شُكلت لجنةٌ من خبراء محليين ودوليين لمراجعة سياسات الخصخصة وعملياتها التي قامت بها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1989 للوقوف على آثارها ومعرفة نقاط الضعف والنجاح والاستفادة من الدروس المستقاة، وفي عام 2014 شُكّلت لجنة ملَكيّة لمتابعة تنفيذ منظومة النزاهة الوطنيّة.
وعلى الرغم من كل الجهود السابقة، لم يتحسّن موقع الأردن بشكل ملحوظ في المؤشرات الدوليّة في هذا المجال، في الوقت الذي يَظهر فيه أن معظم ما يتم الحديث حوله هو فسادٌ انطباعيّ ساهمتْ وسائل التواصل الاجتماعي في تضخيمه، الأمر الذي دفع المدركات الشعبية إلى وضع الفساد على رأس قائمة مصادر التهديد، وهذا يؤكد الحاجة إلى تمكين المجتمع من الحق في الحصول على المعلومات والشفافية والاستجابة السريعة في توضيح الحقائق كأولوية أساسية، مع التنويه إلى أنه ما زال هناك عمل كبير يستدعي الالتفات إليه في مجالات الفساد الإداري ومحاربة الواسطة والمحسوبية.
وحددت اللجنة متطلبات الأولويات العاجلة في هذا المجال، وهي:
• مراجعة الخطة التنفيذية لمنظومة النزاهة الوطنيّة التي صدرت في عام 2013، وتقييم عمليات التنفيذ والالتزام في المحاور العشرين للخطة ومدى امتثال المؤسسات المكلَّفة.
• مراجعة التعديلات التي أُجريت على تشريعات منظومة النزاهة، والتأكد من توافقها مع مبادئ ميثاق النزاهة الوطنيّة والمعايير الدولية.
• استقلالية هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، وتحويلها إلى هيئة قضائية مستقلّة.
• وضع خطة لتطوير القدرات الوطنيّة في مجالات الرقابة وأنظمة التدقيق وكشف الفساد، من خلال إنشاء برامج تعليميّة على مستوى الدراسات العليا في هذه المجالات.
• تغليظ العقوبات لتحقيق الردع العام في ما يتصل بالواسطة والمحسوبية، وأن ينطلق عمل المؤسسات من ميثاق شرف أخلاقي يشمل المسؤولين والموظفين لضمان عدالة القرارات والخدمات.
10. تنمية عادلة وتكافؤ للفرص
قالت اللجنة إن التنمية العادلة التي تُعنى بالمناطق والمحافظات والأقاليم كافة، شرط أساسيّ للمشاركة السياسيّة الفاعلة، وهي تعمل على الحد من تمركز المجتمع السياسيّ في مناطق محددة، كما هي الحال في حق جميع المواطنين بالحصول على فرص متكافئة في التعليم، والصحة، والعمل، والخدمات العامة الأخرى.
وترى اللجنة أن الأردن في هذه المرحلة بحاجة إلى تطوير منظور وطنيّ جديد لتنمية المحافظات والأقاليم قادر على إعادة تأهيل القدرات التوزيعية للدولة بعدالة، ويضمن كفاءة إدارة الموارد المحليّة والوطنيّة، ويقود إلى عملية تغيُّر ثقافيّ واجتماعيّ في مناطق المملكة كافّة نحو الإنتاج والاندماج في المفاهيم والحلول الاقتصاديّة الحديثة، وإعادة اكتشاف الفرص التنموية واستثمارها في القطاعات الواعدة، الأمر الذي سيساهم في الحد من البطالة والفقر في تلك المحافظات ويخلق التحول الإنتاجي المطلوب.
وبينت أن انتقال مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة من عالم المثُل إلى الواقع ليس بالأمر المستحيل، لكنه يحتاج إلى المزيد من الحوكمة والمسؤولية والمساءلة. وتقتضي العدالة أن يوفر النموذج الديمقراطيّ الوطنيّ بيئة ملائمة لنيل الحقوق والتمكين للفئات الأقل رعاية أو للذين لا تتوفر لهم فرص لسماع أصواتهم، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال وكبار السن والمجتمعات النائية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن النموذج الديمقراطي الأردني المتقدم يجب أن يضمن مشاركة الأردنيين والأردنيات في الخارج من خلال وضع آليات مستقبلية تكفل حقهم في الاقتراع والمشاركة وبما يضمن سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها.
11. حماية الاستقرار واستدامته
شكّل الاستقرار السياسيّ سمة أساسيّة من سمات الدولة الأردنيّة على مدى المئويّة الأولى من عمرها، وأصبح الأمن قيمة يعتزّ بها الأردنيّون والأردنيّات، حيث إن النموذج الديمقراطيّ الأردنيّ يجب أن يجعل حماية الاستقرار واستدامته أحد عناوينه الأساسيّة، وهذا يتحقق حينما يخلق المجتمعُ السياسيّ بالممارساتِ قناعةً بأن هذا النموذج مصلحةٌ حقيقية للأمن الوطنيّ.
اللجنة، قالت إن الدروس المستفادة من تجربة العقدين الأخيرين تؤكد الحاجة إلى بناء علاقة تكاملية بين النموذج الديمقراطيّ والأولويات الأمنية الوطنيّة، فقد حافظ الأردن على استقراره الداخلي وعلى أمن حدوده في ثلاث أزمات تاريخيّة كبرى عصفت بالمنطقة في هذه المرحلة؛ وهي: الحرب على الإرهاب وصعود التطرف، وحرب احتلال العراق وتداعياتها، والتحولات والحروب الأهلية العربيّة. إذ عملت قيم النظام السياسيّ الأردنيّ واحتراف القوات المسلحة والمؤسسة الأمنية على عبور هذه المرحلة بسلامة.
وبينت أنّ المجتمع السياسيّ الذي من المفترَض أن يتبلور ويزداد نضجًا بوجود أُطر وتيارات وأحزاب وكتل برامجيّة ومؤسسات مدنيّة فاعلة تنخرط في العمل السياسيّ وفقًا للمنظومة الجديدة، يحتاج إلى ترسيم علاقة جديدة مع المؤسسات تقوم على الوضوح وسيادة القانون، وتنطلق من أن الاستقرار والديمقراطيّة يمثلان معًا مصلحة وطنيّة، فلا يمكن التضحية بأيّ منهما على حساب الآخر.
وأشارت اللجنة إلى أنّ الوصول إلى النموذج الديمقراطي الأردني المأمول سيكون ثمرةَ الإرادة السياسية الوطنية لجلالة الملك لتمثّل بدايةُ المئوية الثانية محطةَ كبيرة لجهدٍ وطني للتحديث السياسي بعد أن أثبتت الدولة الأردنية المنعةَ والصمود والاستقرار طيلة مسيرتها.
وقالت اللجنة إن جلالة الملك سيبقى دومًا رمزَ الوطن، والقيمةَ الكبرى والمرجعية الأولى في الحياة السياسية الأردنية، والقائدَ الموحِّدَ لأبناء شعبه، وصوتَهم والملاذَ الآمن لهم، والحاميَ للدستور وللمنجزات الوطنية والقيم الأردنية الأصيلة، والضامنَ للعدالة، والمدافعَ عن قضايا الوطن والأمة وعن قيم الوسطية والاعتدال وصورة الإسلام السمح، وسيستمر الدور الملكيّ في إرساء دعائم قوية للنموذج الديمقراطي الأردني، وكما كان الهاشميون في المئوية الأولى للدولة الحديثة مظلةً لجمع الأردنيين والأردنيات ودمجهم في الأهداف الوطنية ونشر روح الثقة والأمل، وستتواصل المسيرة بإذن الله في البناء والإنجاز والتحديث.