ووري أمس جثمان الكابتن البطل جورج ميلاد متّى ‘ابو جهاد’ أول طيار عربي/أردني/فلسطيني يشتبك مع طيار في سلاح الجو الإسرائيلي في سماء مدينة الخليل يوم 21/12/1964 ويسقط طائرته، حين كانت المملكة في حال حرب مع إسرائيل على غرار جميع الدول العربية. منح النقيب في سلاح الجو آنذاك وسام الإقدام العسكري الأردني.
وبعد ثلاث سنوات، أسقط مقاتلة ثانية تابعة لسلاح الجو إسرائيلي في أجواء العراق، عندما شنّت إسرائيل حرب الأيام الستة ‘نكسة حزيران’ على مصر، سوريا والأردن. ونال على ذلك الإنجاز النوعي ‘وسام الشجاعة’ من الحكومة العراقية.
أثناء وجودي في بيت العزاء، أطلعني أربعة من رفاق درب الكابتن عن تحليقه الاستثنائي في سماء الإنجاز خلال محطات حياته العسكرية والمدنية. النقيب الطيار إحسان شرذم الذي عين لاحقا قائد سلاح الجو الملكي الاردني، استذكر خصاله الشخصية وبصماته في عالم الطيران.
لم نسمع كثيرا عن بطولات وبأس النقيب الكابتن متّى ربما لأنه لم يستشهد حين خدم بلاده، أسوة بالبطلين موفق السلطي وفراس العجلوني، وغيرهما من الأبطال الذين آمنوا بالواجب وضحّوا بحياتهم في سبيل حماية كرامة بلادهم ومواطنيها.
مهم الاستذكار الآن بأن المرحوم الكابتن متّى حمل حياته على كفيه في تحد دائم مع الموت، ثم قضى بعد صراع مرير مع المرض. من سلاح الجو الملكي انتقل إلى شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية MEA ، حيث درب أجيالا قبل أن يعود إلى بلاده للانضمام إلى الخطوط الجوية الملكية الأردنية. وبعد تقاعده، ذهب إلى قطاع غزة ليؤسس شركة الطيران الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو 1993، وصولا إلى تشغيل طائراتها إلى عواصم عربية بما فيها قطر قبل أن تختفي بعد أن دمّرت إسرائيل مطار القطاع وبنيته التحتية. هناك، درّب طيارين فلسطينيين واعدين كيف يحلّقون بطائراتهم عبر مجال جوي ضيق، وذلك من وحي تجربته في امتطاء القماتلات النفّاثة في أجواء الحرب.
جميع من شاركوا أمس في وداع الكابتن تحدثّوا عن مناقبه ووصفوه ب ‘الأسطورة’. استذكروا شجاعته، إقدامه، كرمه، صبره وحسن أخلاقه. تحدثوا عن نكاته الذكية ولماحيته العالية.
فقد الأردن مثقفا موسوعيا كان مقلا في الحديث والظهور في الإعلام.
كان لا يجامل في قول الحق؛ رجل مستقيم نظيف اليد. صاحب شخصية قوية وكاريزما. كان أنموذجا في القيادة ) (role model في الشجاعة، اتقان العمل واحترام الآخر. هكذا يتحدث عنه جميع من زاملوه في سلاح الجو وشركات الطيران.
شخصيا فقدت ‘عمو جورج’ – أبي الثاني بحكم أنه والد صديقتي وأختي دينا منذ 40 عاما. شخصيته وروح الجميلة أثرّت علي وعلى صديقاتي الحميمات الخمس؛ ‘الشلّة’. إذ كنّا نقضّي الأيام والليالي في منزلهم المتواضع المشبع بالحب والرعاية، نتعلم منه ومن زوجته البريطانية المرحومة جانيت، التي (تأردنت) برفقته وسكنت في قاعدة المفرق الجوية مطلع ستينيات القرن الماضي.
رحل عمو جورج رحمه الله، لكنه ترك لنا دينا، التي ترفع اسم الأردن عاليا في جميع البنوك والشركات والمؤسسات التي عملت فيها في مراكز قيادية كخبيرة مالية في بريطانيا، هولندا وسويسرا. وترك لنا ابنه العزيز جهاد، الذي ورث عشق الطيران عن أبيه منذ 30 عاما.
اليوم يحمل جهاد قيم والده وأخلاقه ويمشي على خطاه وهو يحلق بطائرة airbus 380 تابعة لشركة طيران الاتحاد. كما يشرف على إرشاد وإسناد 2000 عامل في هذه الشركة.
‘عمو جورج’ ترك وراءه أحفاد وحفيدات في قمّة الروعة: كلوديا، فرد وأنجلينا.
تهبط الآن في ملكوت السماء بإذن الله، بعد أن حلّقت عاليا في حياتك. ولدت في القدس – قلب العالم- بعد أن هجّرت عائلتك من قرية عيلبون في فلسطين خلال النكبة. خدمت بلادك وكدت أن تفقد حياتك مئات المرات في طائرات الهوكر هنتر. درّبت آلاف الطيارين وأهلتهم للطيران. جسد الإنسان يرحل، لكن روحه تبقى حولنا. لا يترك الفقيد خلفه إلا سمعته؛ وأنت تركت إرثا للأجيال القادمة.
شكرا ‘عمو جورج’ على كل شيء علمتنا إياه. شكرا لأنك حميت بلادك ووطنك. لأنك جسّدت معنى اللحمة بين الضفتين ولأنك فعلت الكثير وقلت القليل بعكس الغالبية. ولأنك لم تتحول الى معارض سياسي عندما تعرضت لظلم كبير في مرحلة ما من حياتك الرائعه.
رحمة الله عليك..
*عن *رنا الصباغ .