مرايا – أن تدمن، في لعبة، على القتل لكي تبقى حيّاً… فهذه أكثر مِن مجرّد لعبة «تسالي». لسببٍ ما، أو لأسباب كثيرة، نفسيّة واجتماعيّة وتقنيّة، وخصوصيّات أخرى، راجت تلك اللعبة أخيراً في بلادنا والعالم. بتنا أمام «حالة». ظاهرة جذب لا تقتصر على المراهقين والشباب. فبعد موجة «السوشيل ميديا» وتحوّل أنماط التواصل، تأتي موجة جديدة، تواصليّة أيضاً، إنّما هذه المرّة بنزعة عنف صريح. لا مكان للمواربة هنا. الجديد أنّ القتل، مع “طرطشة” الدماء، بات يُمارس يوميّاً في ساحات الهواتف الذكيّة، بعدما كان إلى حدّ ما حبيس الكومبيوترات “الثقيلة” وآلات اللعب المتطوّرة. داخل هذه اللعبة يوجد صندوق خشبي، هذا في المرئي، أمّا في ما وراء ذلك… فصناديق مِن نوع آخر.
دخلت مفردات اللعبة “الافتراضيّة” على قاموس المفردات اليومية للاعبين المدمنين عليها على أرض “ميرامار” التقوا. أربعة أشخاص، مِن بلاد مختلفة، لم يسبق أن التقوا. أنزلتهم طائرة عابرة، فوق تلك الصحراء الموحشة، والآن هم فرقة واحدة. لديهم مهمّة واحدة: قتل الآخرين. القتل ولا شيء آخر. الجرح لا يكفي. هنا، إمّا أن تَقتُل، فتفوز، وإمّا أن تكون أنت القتيل.
عدد الغرباء فوق “ميرامار” يبلغ مئة. كلّهم يُريدون أن يَقتُلوا. النجاة تعني أن تَقتُل. كلّهم أنزلتهم تلك الطائرة… وابتعدت. وجد لبناني نفسه، صدفة، مع ثلاثة عرب آخرين. علي مِن العراق وعصام مِن ليبيا و”الكينغ” مِن سوريا. يُمكنهم أن يتواصلوا، بالصوت فقط، ومَن أراد يُمكنه أن يكتفي بالإشارة.
بدأوا البحث عن أسلحة، وهذه مكانها غالباً داخل الأبنية المقفرة، مبثوثة عشوائيّاً. هذه لحظة اسمها “اللهم نفسي”. هم يبحثون والفرق الأخرى تبحث أيضاً. هبط الجميع بداية عراة إلا مِن قبضاتهم. وجدوا الأسلحة، أخيراً، وانطلق “الزومبي” داخلهم. كلّهم مشاريع جثث على طريقة “الموتى الأحياء”.
واجه أفراد الفرقة المذكورة، التّي تكوّنت عربيّاً بالصدفة، فرقة أخرى. نجحوا في تصفيتها. في هذه الأثناء كانت تأتيهم إشارات بأنّ القتل جارٍ بين الفرق الأخرى.
عدد الأحياء فوق “ميرامار” يتضاءل. أصبحوا خمسين. انطلقت عاصفة سماويّة زرقاء. حاصرت الأرض كلّها، مشحونة بموجات كهربائيّة قاتلة. بدأت تضيق دائريّاً. هذه ليست حليفة لأحد. ستمتصّ دم كلّ مَن داهمه الوقت ولم يبتعد عنها… نحو الوسط. تظلّ تضيق، جولة تلو أخرى، إلى أن يُصبح حملة السلاح، أو مَن بقي مِنهم، وجهاً لوجه. تُصبح مسافة المواجهة بالأمتار. كان أعضاء الفرقة إيّاها، قبل أن تضيق تلك الموجة، قد وجدوا أنّ المسافة التي تبعدهم عن الوسط بعيدة. بحثوا عن سيّارة توفّر عليهم عناء الركض وتُكسبهم الوقت. لم يجدوها. لا بديل عن الركض. في الطريق صادفوا فرقة أخرى تركض، كحالهم، فأبادوها. أكملوا جريهم. راح العراقي يُدندن موّالاً مِن تراث بلاده. كلمات مشحونة بمفردات الحرب والقتال. السوري يثني عليه ويطلب مِنه أن يجود أكثر. الليبي، الذي لا يتوقّف عن الضحك، يقول لِمَن معه: «أشعر أنّنا سنُحرّر فلسطين». اللبناني يستمع مؤيّداً: «عليهم يا عرب»… ثم يضحك الجميع. فجأة، يسقط السوري برصاص قنّاص بعيد. ربّما فعلها بعدما رصده بواسطة «سكوب 8». خرج مِن القتيل دخان أخضر، ثم استحال صندوقاً خشبيّاً، فهرول الرفاق إلى مكانه. أخذوا مِن الصندوق، الذي صاره، كلّ ما كان جمعه مِن أسلحة ومشروبات طاقّة وأشياء أخرى. ورثوه، فيما هو يُشاهد، بروحه، ما يحصل مِن بعيد. ربّما ودّ بعض فريقه له الموت، قبل ذلك، لسلبه حمولته. البشر هم البشر أينما كانوا. هنا «البقاء للأخبث». فجأة، يُسمَع صوت الطائرة، تمرّ فوق مَن بقي حيّاً، إنّما هذه المرّة لرمي «دروب» يحوي أسلحة نوعيّة وعدّة واقية متطوّرة. ولكم دارت أشرس المعارك قرب هذا الصندوق الكبير. مِن أجل ما فيه يُخاطر كثيرون بحياتهم. هنا ترتجف الأصابع. يبلغ التوثّر مداه. مَن ظفر، في طريقه سابقاً، بحقنة «أدرينالين» سيحقن بها نفسه الآن. أخيراً، سيفوز مَن ظلّ حيّاً. والآن ماذا؟ إلى جولة أخرى مِن «تحقيق الذات».
كلّ هذا يدور في لعبة إلكترونيّة. شركة في كوريا الجنوبيّة صنعتها، بداية، لأجهزة الكومبيوتر. المصمّم إيرلندي. الخبراء مِن جنسيّات مختلفة. اللعب ليس مجانيّاً. لاحقاً، شركة صينيّة تكفّلت بنقلها إلى الهواتف الذكيّة. هذه مجانيّة… وهنا كان الانفجار العالمي. حاملو الهواتف أكثر بكثير مِن مالكي الكومبيوتر. هذا بعض مِمّا في لعبة “PUBG”. يُمكن أن تُلعب كفرقة مِن أربعة أشخاص، أو مِن شخصين، أو أن ينزل اللاعب وحده كـ «ذئب منفرد». هي «الترند» العالمي حاليّاً في عالم الألعاب. هنا لا تلعب ضدّ كومبيوتر، كما في أكثر الألعاب قديماً، بل ضدّ بشر حقيقيين. إرادات شتّى تُريد البقاء. ليست لعبة «باتل رويال» أو «باتل غراوند» الأولى مِن نوعها، لكنّ ربّما بسبب إتاحتها للهواتف، بالمجّان، نجحت بالوصول إلى أشخاص لم ينخرطوا سابقاً في ألعاب مشابهة. باتت هي «الزون» التي يدخلها الملايين يوميّاً. هناك مَن يُرجّح أنّها ستفوق في رواجها، أو ربّما فاقت، لعبة «كول أوف ديوتي» وكذلك «كاونتر سترايك».
بعض لاعبيها، أو مَن أدمنوا لعبها، تضيق عندهم أحياناً مساحة التمييز بين الافتراضي والواقعي. ليس مستغرباً إن شاهد أحدهم مبنى مرتفعاً، في يوميّاته الواقعيّة، أن يشعر برغبة أن يصعده للقنص مِنه. راجت أخيراً صورة لسيّارة «رينو» حمراء، في بيروت، يضع صاحبها لاصقاً باسم اللعبة على الزجاج الخلفي. تلك السيّارة، بلونها، هي إحدى «أيقونات» اللعبة. في بيروت، أيضاً، تجد محلّ ألعاب كومبيوتر اسمه «بوشنكي». وهو اسم إحدى البقع الأكثر حماوة في الخريطة الأساسيّة داخل اللعبة. تلك المحلّات، وبأسماء بقع أخرى واردة في اللعبة، باتت تنتشر في مختلف المناطق. هناك محلّ في الضاحية اسمه «حقنة». وفعلاً، كلّما احتاج «مدمن» إلى جرعة تسلية، هرول إلى المحلّ لأخذ «الحقنة». وصلت اللعبة إلى القرى البعيدة. هي حديث الشبّان اليوم ومصدر «قفشاتهم» اليوميّة. مفرداتها دخلت قاموس لسانهم اليومي. جمع الأسلحة يعني «تلويت». تجد شاباً، في الجامعة أو العمل أو مقهى، يمازح آخر: «هل لوّتت أم بعد؟». هكذا تولد مصطلحات جديدة. هذه تفاصيل تهمّ مختصّي الـ«فيلولوجيا» الحديثة والألسنيّات.
باتت مقولة «أكو عرب بالطيّارة» عالميّة لكثرة ما ردّدها اللاعبون العراقيّون قبل الهبوط.
روّاد اللعبة مِن كلّ العالم. لسببٍ ما يشهد العراق اليوم إقبالاً رهيباً عليها. هم أصحاب المقولة الشهيرة في تلك الطائرة قبل الهبوط: «أكو عرب بالطيّارة». كثر الذين يغنون للعبة في الأعراس. غنّى لها أخيراً الفنّان اللبناني ملحم زين في أحد مواويله. تلك اللعبة مقتبسة، ولو بإسقاط مختلف، مِن رواية «المعركة الملكيّة» للياباني كوشون تاكامي. لاحقاً اقتبست في فيلم، بداية الألفيّة، مع بعض التصرّف. في اللعبة لمحات أيضاً مِن فيلم «ألعاب الجوع». تلك اللعبة، ومثيلاتها، هي التظهير الحديث لمقولة توماس هوبس: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان».
ربّما آخر ما يودّه المستغرقون في اللعبة أن يسمعوا «مواعظ» عن خطورة هذه الألعاب. الهرب مِن الواقع؟ هذا غالباً ما يُقال لهم. كأنّ الواقع في غاية الروعة، في بلادنا خاصة، حتى لا يُهرَب مِنه! بالتأكيد، هذا لا ينطبق بالضرورة على سائر اللاعبين. اللعبة تُشبه حياتنا، إلى حدّ بعيد، بعيداً عن العظات التربويّة التقليديّة. خلاصة اللعبة: لا نجاة إلا بإسقاط الآخرين. أليس هذا ما يدور في العالم… الواقعي جدّاً؟ أصبح الحديث، وبشهادة السنوات الأخيرة، عن فصل بين «واقعي» و«افتراضي» في غاية الصعوبة. العالم يتغيّر بسرعة، أسرع مِن السنة الماضية، وقد بات مألوفاً أن يكون الموت عاديّاً… «مِن أجل صندوق». قطعاً، لم يلعب جون سيلفر “PUBG” في رواية «جزيرة الكنز». لكنّه ترك تعزية لِمَن خرج خائباً: «لستم الوحيدين الذين وجدوا صندوقاً فارغاً، يجب أن تعلموا هذا الأمر جيّداً، يجب أن تعلموه».