«زهرة المدائن» حاضرةٌ عبر التاريخ في الوجدان الجمعي للأردنيين

أكد مثقفون أن مدينة القدس تستأثر بوجدان وفكر المثقفين والأدباء والمفكرين الأردنيين، ليس كمكان محايد، وإنما بوصفها ترمز إلى اليقين والإيمان والرسالة، لذا فإن التعامل معها لا يمكن أن يكون من وجهة نظر محايدة؛ فهي جزء من الثقافة والوجدان والهوية، وهي تمثل بحضورها «الجغرافية المقدسة» العليا للعالم، وترتبط بها الحياة الروحية للأديان السماوية.

وأضافوا ضمن مشاركتهم في هذا الملف  أن «زهرة المدائن”تحتل مكانة أساسية في وجدان المثقفين والمفكرين الأردنيين؛ فهم أو آباؤهم أو أجدادهم إما وُلدوا فيها، أو عاشوا فيها، أو جاهدوا على أرضها، بالإضافة إلى عراقتها في التاريخ، وموقعها الاستراتيجي، ولأنها أرض الإسراء والمعراج من منظور التجربة النبوية وثاني القبلتين وثالث الحرمين للمسلمين، والموقع المقدس الذي زاره الخلفاء ومر به معظم الأنبياء، وهي عندهم حق عربي راسخ، وعاصمة رمزية، ونبراس هادٍ للكيان الحضاري.

* يقين الحق والقداسة

مفلح العدوان

(أديب وكاتب)

يأتي موقف القيادة الهاشمية في الأردن من القدس والدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية استمرارا للدور والموقف التاريخي للهاشميين من هذه المدينة المقدسة، فهي مهوى فؤادهم وبؤرة إيمانهم، وهي في قلب ووجدان جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين الذي دائما يعلن أن القدس خط أحمر، فالحفاظ عليها ورعايتها هي من رسالة الهاشميين، هم الأوصياء عليها، والملك عبد الله الثاني وإرث هذه الوصاية الهاشمية، وراعيها، فالقدس منها كان معراج جده الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وارث هذا الحب والوصاية كابرا عن كابر.

والقدس هي يقين الحق والقداسة بالنسبة للأردنيين، وهي قضية مركزية بالنسبة لهم، لا فرق بين عمان والقدس، وعلى أسوار القدس ارتقعت أرواح شهداء الأبطال من جنود الجيش العربي في دفاعهم عنها، ومعهم المجاهدين والمدافعين من الأردنيين الأحرار الذين قدموا حياتهم رخيصة فداء للقدس ولأرض فلسطين.

وفي جانب عميق من وجدان وفكر المثقف والأديب والمفكر الأردني تحضر مدينة القدس، ليست كمكان محايد، فهي اليقين والإيمان والرسالة، ولذا فإن التعامل معها لا يمكن أن يكون من وجهة نظر محايدة، فهي جزء من الثقافة والوجدان والهوية، وهي تمثل بحضورها «الجغرافية المقدسة» العليا للعالم، وترتبط بها الحياة الروحية للأديان السماوية، لكونها بؤرة مركزية في هذا المجال، وهي خارج هذا الإطار تكون عادية، ذلك أن القداسة جزء من المكان، ومن البشر في إطاره، ومن ذاكرته، وتاريخه، وحجارته، وأسواره، ودروبه، كلها، وهي بمجملها تعبر عن هذه ال?قافة الخاصة بالمدينة، وبمن يواطنها، من خلال دلالات طقسية، وسلوكيات اجتماعية، وحضور تلقائي، يعكس هذه العلاقة الروحية مع أمكنتها المقدسة، وهذه الطقسية المقدسية التي تختبر أعمق المشاعر جلالا وغبطة، إنها تختبر غبطة الحضور، وأبدية الزمان، ورعشة الجلالة. إن الأرض تصبح خارج القدس، وما يوازيها من أمكنة عادية، ولا فرق بينها.

هناك صراع فكري، ثقافي، بين العرب في القدس/ فلسطين وخارجها، وبين الصهاينة، وقد اتخذ هذا الصراع، بالفعل، هيئة صراع ثقافي حضاري، يلطفه بعضهم بقولهم إنه صراع مع الآخر، لكنه في الحقيقة صراع مع عدو، وهنا أقصد العدو الصهيوني، واليهودية بصيغتها المتصهينة لا بدلالتها التوحيدية الحنيفة، عدو لا تجمعنا به أي أسس أو نقاط محددة يمكن الحوار على أرضيتها، لأن الصراع/ العداء قطع أشواطا بعيدة من الجوانب العسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والفكرية.

وعلى أي حال، فما زال وقع أغنية «شوارع القدس العتيقة» يضرب وترا حزينا، في وعي المثقف والمفكر والأديب والفنان في الأردن، حين تلقي بهم فيروز إلى أتون الذاكرة، حيث القدس، التي يبوح الشباب والشيب معا، حين يتذكرونها، بقولهم «بوصلة لا تشير إلى القدس، مشبوهة»، على نحو ما عبر عنه الشاعر مظفر النواب، صاحب «القدس عروس عروبتكم».

* بؤرة إشعاع وسلام روحي

كايد هاشم

(كاتب وباحث)

يتجلّى الدور التاريخي الأردني والهاشمي في الحفاظ على هوية القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وتراثها الحضاري ورمزيتها الروحية ووضعها القانوني في الرؤية المستوعبة الشاملة التي أكد عليها جلالة الملك عبد الله الثاني في أكثر من مناسبة، ومنطلقها أن أهمية المدينة المقدسة النابعة من مكانتها الروحية وكونها مدينة السلام ينبغي أن تظل مُنزّهة عن الصراعات والتوترات السياسية، وأن يفي الواجب الإيماني والإنساني العالمي بحقها لتظل تحمل هذه المعاني السامية من تحقيق الكرامة للإنسان، وإعلاء شأن البر والعدل والتسامح والوئام ?العيش المشترك.

كما يتجلى دور جلالته كامتداد لدور الملوك الهاشميين الميامين الإيماني والأخلاقي النبيل منذ الشريف الحسين بن علي، طيّب الله ثراه بجوار الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، في أنه يمثل ضمير أمّته العربية والإسلامية والضمير الإنساني لصون القدس؛ المكان والإنسان والرمز بأبعاده كافة، وحمايتها والحفاظ على وحدتها بهذه المكوّنات مجتمعةً، ولا سيما ضد محاولات تمرير أجندات سياسية تجزيئية لقضم القضية في حلقات ضيقة، وتحويل بيت المقدس وأرض القداسة إلى بؤرة للعنف والانقسام والكراهية، ما يخرجها عن دورها الأساسي كبؤرة إشعاع لعالمٍ ين?م بالاستقرار وقيم العدالة والسلام الروحي للبشر قبل السلام الإجرائي على الأرض.

إن المواطن العربي، والمثقف والإنسان الحق عموماً، يستشعر القدس بهذه المعاني، ولا يتصوّرها أو يقبل وجدانياً ولا واقعاً أن تكون مدينة حرب وحواجز وأسوار عازلة وسلاح موجه ضد أهلها العرب الفلسطينيين المدنيين العُزل في حياتهم اليومية وحقوقهم المشروعة في أماكنهم المقدسة وممارسة شعائرهم الروحية.

ورغم أن القدس أكثر مدن العالم معاناة من مآسي الحروب والصراعات، لكنها أيضاً أكثر مدن العالم التي تدعونا كما أوضح الأمير الحسن بن طلال في رؤيته الفكرية للقدس ما فوق يوميات السياسة إلى «تلمس مفاهيم التاريخ على أساس العِبر وليس على أساس استمرار ممارسة الظلامة ومفهوم القلعة العازلة»، وإلى إيجاد صيغة لاستعادة احترام الإنسان واحترام القدس بوصفها الملتقى الإنساني الذي لا يتأثر بتلك اليوميات، «ولكن يؤثر على الصعيد القيمي والأخلاقي»، وقد تحدث سموّه بذلك في لقاء بمنتدى الفكر العربي عن القدس في التراث الجغرافي العالمي?في تشرين الثاني 2020.

وتدعو الأحداث الأخيرة في القدس العالم مرة أخرى إلى أن يعبر فكراً وموقفاً وفعلاً عن ضميره الحيّ إزاء ممارسات الاحتلال ضد المبادئ الإنسانية والبشر والحجر ومحاصرة الإنسان الفلسطيني والمقدسي في أبسط متطلبات حياته وحقوقه الطبيعية وكرامته الإنسانية، بعد أن قال هذا الإنسان كلمته وعبّر عن موقفه بإزالة الحواجز في طريقه للوقوف بين يدي خالقه، وفي أن يحيا حراً عزيزاً على أرض آبائه وأجداده وفي ظل دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وفي رحاب مقدساته.

* أمانة دينية ووطنية

د.هناء البواب

(أدبية وشاعرة)

حين تستمع لمفردة «القدس»، ترتبط بذهنك مباشرة تلك العلاقة الوطيدة التي رباها الهاشميون منذ بدء المعرفة الحقيقية في حياتهم تجاه المقدسات الإسلامية والمسيحية في تلك الأرض المقدسة، حيث ارتبط الهاشميون تاريخياً، جيلاً بعد جيل، بعقد شرعي مع المقدسات الإسلامية، فكانت هي الأَوْلى والأُولى في حياتهم، فحفظوا لها مكانتها؛ وقاموا على رعايتها، مستندين الى إرث ديني وتاريخي، وارتباط بالنبي العربي الهاشمي محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان حالهم مع القدس حيث أولى الهاشميون جل اهتمامهم للمدينة المقدسة، وبذلوا جهوداً مضنية ?ي حمايتها ورعايتها.

وتاريخ الهاشميين يشهد بأنهم كانوا السبّاقين دوما إلى احتضان الرعاية الكاملة، حيث كانت من أولويات الشريف الحسين بن علي، ملك العرب ومفجّر ثورتهم التي هدفت إلى التحرر والكرامة والوحدة، وفيها استؤنفت، في ظل الولاية الهاشمية، مسيرة الحفاظ على المقدسات في القدس، فكانت ثقافتهم القائمة على الحفاظ على القدس هي الشرعية الوحيدة التي تؤسس لهم بأنهم أهل الحماية والوصاية الشرعيين لتلك المقدّسات.

المثقف هو صاحب قلم يحمل أمانة دينية ووطنية، يجب أن يتحملها بشكل كبير ودقيق، وذلك من خلال كل ما يكتبه الأدباء والشعراء في فلسطين وخارج الوطن العربي. هذا التضامن الحقيقي، والإعلان عنه من كل حر وكاتب وأديب وشاعر، هو كلمة صادقة، لأنها تحمل الأمانة.

لذلك، على المثقف أن يكون عضلة قوية في نبض الدفاع عن القدس والمقدسات، وأن يكون المثقف الأردني خاصة الذراع اليمنى للهاشميين في التحرك نحو المجتمع بفئاته كافة، والمبادرة بدمجهم ضمن الهم الإسلامي العام، والتوعية السياسية لشرائح المجتمع المختلفة، علاوة على رفع صوت الحق في الدفاع عن حقّ المقدسيين بأرضهم، وكتابة المقالات في الصحف والنقاش حول كل ما يتعلق بأحداث تخص المسجد الأقصى المبارك والقدس، وتأليف الكتب التي تتحدث عن الأقصى، وتحويل التفاعل الفردي العشوائي إلى فعل جماعي منظّم ينشأ عنه عمل المؤسسات والجمعيات لتت?قف الأفكار الجيدة وترعاها.

علينا التصدي للإعلام الغربي والإسرائيلي والرد على شبهاته وأباطيله حول المسجد الأقصى، من خلال المقالات ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن هنا نعرف أن عام 1924 شهد تكريس الرعاية الهاشمية للمقدسات في القدس وتأكيد الوصاية الهاشمية، وذلك حين انعقدت البيعة والوصاية للشريف الحسين بن علي من أهل فلسطين والقدس. وقد آلت الوصاية إلى جلالة الملك عبدالله بن الحسين، بما في ذلك الوصاية على الأماكن المقدسة المسيحية، وانطلاقاً من البيعة والوصاية، تولى الشريف الحسين بن علي إعمار المسجد الأقصى المبارك/ الحرم القدسي الشريف حيث يعدّ هذا الإعمار الهاشمي الأول.

لذلك، ينطلق موقف المثقف الأردني الثابت من أن الوصاية على امقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس هي للهاشميين، يتولاها ملك المملكة الأردنية الهاشمية، جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، حفظه الله ورعاه. ومسؤولية حماية المدينة هي مسؤولية دولية وفقاً لالتزامات الدول بحسب القانون الدولي والقرارات الدولية.

* نبراس هادٍ للكيان الحضاري

محمد المشايخ

(ناقد وكاتب)

للأردن، بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني، مبادئ ومواقف ثابتة إزاء القضية الفلسطينية بعامة، والقدس بخاصة، ولطالما صرّح جلالة الملك بأن القدس من الخطوط الحمراء التي لا يمكن خضوعها لأي مساومة، ولطالما رفض الأردن وأفشل بقيادة جلالة الملك، كل المشاريع والمخططات الصهيونية أو الدولية التي تمس القدس بسوء، على غرار «صفقة القرن»، كما تصدى جلالته لجميع محاولات إسرائيل المساس بالوضع التاریخي والقانوني القائم في القدس، وسابق الزمن لمنع فرض واقع جدید في «مدينة السلام»، وحال دون السماح لإسرائيل بتحقیق ما تبقى من سیاسات?ا التهویدیة ضد المسجد الأقصى المبارك، وفرض سيادتها بشكل كامل على المدينة، ومحاولة تغيير معادلة الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة..

ولطالما كسب الأردن، وكسبت فلسطين بعامة والقدس بخاصة، بتوجيهات من جلالة الملك، قرارات الشرعية الدولية، وإضافة إلى ما قدمه جلالته من دعم مالي ومعنوي للقدس، فإن دائرة أوقاف القدس التابعة لوزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية في الأردن، تتولى الإشراف الرسمي على المسجد الأقصى (مساحته 144 دونما).

تحتل «زهرة المدائن”مكانة أساسية في وجدان المثقفين والمفكرين الأردنيين، فهم، أو آباؤهم أو أجدادهم قد وُلدوا أوعاشوا فيها، أو جاهدوا على أرضها كي لا تسقط بيد الاحتلال، بالإضافة إلى عراقتها في التاريخ، وموقعها الاستراتيجي، ولأنها أرض الإسراء والمعراج من منظور التجربة النبوية وثاني القبلتين وثالث الحرمين للمسلمين، والموقع المقدس الذي زاره الخلفاء ومر به معظم الأنبياء، وهي عندهم حق عربي راسخ، وعاصمة رمزية، ونبراس هادٍ للكيان الحضاري.

وقد دفعت الانتهاكات الصهيونية للقدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، المثقفين والمفكرين الأردنيين، لابتكار أقانيم جديدة في عالم المقاومة بالأدب والفن الملتزم، وصار للهيئات الثقافية والفكرية الأردنية دور جديد، توضحه من خلال البيانات التي تصدرها، داعمة لانتفاضات المقدسيين، ورافضة للاستيطان والتهويد والمساس بأي معلم ديني او أثري أو حضاري في المدينة،وداعية المجتمع الدولي، والشرعية الدولية، لوقف الاعتداءات والانتهاكات، ومتمسكة بالثوابت الوطنية والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.«الرأي»