اعتبر الكاتب البريطاني، جوناثان فريدلاند، أن قادة الاحتلال، الذين يزعمون تحقيق إنجازات ضد المقاومة الفلسطينية؛ “لا يخدعون أحدا، فالكيان تدرك أنها تعرضت لكارثة استراتيجية”.
وفي مقال نشرته صحيفة “الغارديان”، وافق فريدلاند على أن العدوان الصهيوني الأخير ضد قطاع غزة، وما صاحبه من انتفاضة في عموم الأراضي المحتلة؛ كان “أكثر الحروب فشلا وعبثية” في التاريخ، بحسب ما كتبه محرر صحيفة هآريتس، ألوف بين.
ويوضح فريدلاند أن الاحتلال لم يتوقع هجوم “حماس”، التي تمكنت من اختراق منظومة “القبة الحديدية” والوصول إلى أهداف استراتيجية، وحرمان الاحتلال من “بنك أهداف” لضربها وتحقيق “نصر” لتسويقه محليا على الأقل.
ويقول الكاتب إن نقاط الضعف التي انكشفت لدى “الكيان” لن تخفى عن نظر حزب الله في الشمال الذي يمتلك ترسانة أقوى بكثير من تلك التي تملكها حماس، ولا عن نظر من يرعى حزب الله ويواليه في طهران.
وتاليا نص المقال كاملا:
لم ينته الأمر لأنه لا ينتهي أبداً. ولكن هناك على الأقل أمل في وقفه. فبعد أقل من أسبوعين قتل خلالهما ما يقرب من 250 شخصاً، وافقت حماس والكيان كلاهما في الساعات الأخيرة من يوم الخميس على وقف إطلاق النار، وكلاهما راحا يحيكان حكاية نصر ليرويها كل منهما للعالم ولنفسه.
بالنسبة لحماس، الرواية سهلة بما فيه الكفاية. فعلى الرغم من أنها محصورة داخل حيز صغير من الأرض، ولا تملك سوى نسبة ضئيلة من الموارد التي يملكها خصمها، إلا أنها تمكنت من مفاجأة العدو والضرب في قلبه المدني. فلقد أطلقت سيلاً متدفقاً من الصواريخ، أكثر تطوراً من ذي قبل، تمكن بعضها من الإفلات من منظومة دفاع القبة الحديدية لدى الكيان ليسقط ليس فقط فوق البلدات الصهيونية الهامشية بل وأيضاً في مدينة تل أبيب المركزية. بإمكان حماس أن تزعم أمام منافسيها في حركة فتح داخل الضفة الغربية بأنها الحارس الأمين على الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. والأكثر من ذلك، لقد وقفت تتفرج بينما فتحت ثغرة في النسيج الاجتماعي الصهيوني، حين راح المواطنون اليهود والعرب يهاجم بعضهم بعضاً في الشوارع التي كانت يوماً حيزاً مشتركاً لهم.
بالنسبة للكيان، يقدم القادة العسكريون تقارير تفيد بأن عملية حارس الأسوار نجحت في تقليص قدرة حماس العسكرية، وأن معظم من قتلوا في العملية هم من مقاتلي حماس، وأن ما تم إنجازه خلال الأيام العشرة الماضية يتجاوز بمراحل ما تم إنجازه في حروب 2009 و2012 و2014 مجتمعة.
ولكنهم لا يخدعون أحداً، فالكيان يدرك أنها تعرضت لكارثة استراتيجية، فقد كانت هذه “أكثر الحروب الحدودية فشلاً وعبثية” في التاريخ، بحسب ما كتبه محرر صحيفة هآريتس، ألوف بين. فهي لم تتوقع هجوم حماس عليها، ولن تغيب نقاط الضعف التي انكشفت لديها عن نظر حزب الله في الشمال الذي يمتلك ترسانة أقوى بكثير من تلك التي تملكها حماس، ولا عن نظر من يرعى حزب الله ويواليه في طهران.
ومع ذلك، فإن الإخفاقات الأكبر سبقت هذه المواجهة الأخيرة، فقد أقنعت الكيان نفسها بأن كل شيء هادئ على جبهة غزة، والأكثر من ذلك أنها اعتقدت بأنها أسكتت القضية الفلسطينية تماماً، وساد لديها الاعتقاد بأن اتفاقيات أبراهام التي أبرمتها مع دولة الخليج ومع غيرها حولت الفلسطينيين إلى شيء لا يؤبه له. وها قد رأت الآن حماقة هذا الوهم.
وهو ما يشير إلى الخطر الاستراتيجي الآخر الذي تواجهه الكيان، ولعله يثبت أنه مؤقت أو عابر، فمدى الاهتمام الدولي قصير، وسرعان ما قد ينتقل الناس إلى التركيز على حدث كبير آخر. ولكن الكثير من المراقبين ممن يتمتعون بصدقية عالية يتساءلون عما إذا كان قد تم الوصول إلى نقطة تحول خلال الأسبوعين الأخيرين في الطريقة التي يُنظر بها إلى الصراع بين الكيان وفلسطين حول العالم وخاصة في الغرب. فبالنسبة لقطاع مؤثر وصاخب من الرأي العام، لم يعد الصراع يُنظر إليه على أنه نزاع بين طرفين لديهما مزاعم متنافسة بقدر ما بات يُرى على أنه قضية عدالة وتمييز عرقي. ولك أن تتأمل في إحدى اللوحات التي رفعت في مظاهرة لندن نهاية الأسبوع الماضي، والتي كتب عليها “فلسطين لا تستطيع التنفس وحياة الفلسطينيين تهم.”
وبهذا الشكل يمكن أن ينضم شعار “الحرية لفلسطين” إلى شعارات مثل “وأنا أيضاً” أو شعار “حياة السود تهم”، كقضية يعتبرها الجيل الجديد حول العالم ذات أهمية قصوى، يتصدر للدفاع عنها ليس فقط السياسيون بل وأيضاً رموز الثقافة ومشاهير الرياضة مثل لاعبي كرة القدم والمغنين وأصحاب النفوذ في عالم الأزياء الذين لديهم الملايين من المتابعين.
تعزز هذه القراءة تلك المواجهات التي دارت رحاها بين اليهود والعرب داخل المجتمع الصهيوني، بما تخللها من توحش الشرطة والتمييز في منظومة العدالة الجنائية، والتي تنسجم تماماً مع مخرجات حركة “حياة السود تهم”.
بدأ الناس الذين تربطهم علاقات قوية بإلكيان يحكون رؤوسهم إزاء ذلك، ويتساءلون لماذا، من بين كل الأشياء الفظيعة التي تحصل في العالم، هذه القضية هي التي تستحوذ على الاهتمام الأكبر – إذ تخرج بسببها جموع ضخمة للاحتجاج في شوارع العواصم الأوروبية، وتعج بالأخبار والتعليقات حولها مواقع التواصل الاجتماعي. ويلاحظون أن الناس الذين لم يحركهم اعتقال مليون مسلم من الإيغور في الصين، والذين لم يشاركوا حتى بعمل “إعجاب” لتغريدة حول عشرات الآلاف من المسلمين الروهينغيا الذين قتلوا في ماينمار، والذين نادراً ما أثار حفيظتهم ذبح نظام الأسد في سوريا لما يقرب من مائتي ألف من المدنيين أو ذبح ما يقرب من مائة وثلاثين ألفاً في الحرب التي تشنها السعودية على اليمن، والذين قد لا يكون لديهم أدنى إدراك بأن ما يقرب من اثنين وخمسين ألفاً قتلوا في الصراع الذي تدور رحاه منذ نوفمبر / تشرين الثاني بين إثيوبيا وإقليم تيغراي، إلا أنهم رغم كل ذلك يشتاطون غضباً بسبب الأحداث في غزة.
جل التفسير ينصب على حقيقة أن الصراع بين الكيان وفلسطين أكثر وضوحاً، إذ يحظى بتغطية إعلامية لا تضاهيها تغطية أي من أحداث تلك النكبات الأخرى. فعندما قُتل 6700 شخص من مسلمي الروهينغيا في شهر واحد لم تكلف أي من مؤسسات البث الكبرى نفسها عناء إرسال مذيعيها لكي يقوموا بتغطية الحدث من الميدان أو قريباً منه. ولا توجد تقارير تتجدد كل ساعة حول أعداد القتلى في إثيوبيا، وثمة القليل جداً من المقابلات أو الصور حول المكلومين والثكالى في اليمن. كتب أحد مراسلي الأسوشيتد بريس في القدس يقول إنه كان واحداً من أكثر من أربعين صحفياً يغطون الأحداث في الكيان وفلسطين، وهو “عدد يتجاوز بمراحل كبيرة ما يوجد لدى الأسوشيتد بريس من مراسلين في الصين وروسيا أو الهند أو في جميع الأقطار الخمسين فيما دون الصحراء في أفريقيا مجتمعة.” وأثر ذلك كما كتب هو إشعار القراء بأن الحدث في الكيان وفلسطين هو “أهم حكاية على الإطلاق في الأرض قاطبة” – وبالنتيجة يقع الإيحاء بأن الظلم الذي يرتكب هناك أسوأ بكثير من الظلم الذي يقع في أي مكان آخر على سطح الكوكب.
يمكنك أن تملأ عشرات رسائل الدكتوراه حول ما الذي يفسر هذا التركيز الشديد على هذه القضية. بالتأكيد، لا يمكن أن يكون عدد الموتى هو السبب، لأن أعداداً أكبر بكثير، وبكثير جداً، تتعرض للقتل في تلك الأماكن الأخرى. ولا يمكن أن يكمن السبب في أن الكيان هي الحليف المفضل للغرب، فكذلك هي المملكة العربية السعودية. لعله يكمن ببساطة في أن الاحتلال الصهيوني استمر حتى الآن لما يقرب من أربعة وخمسين عاماً، مع أن تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لم تلبث تشن حرباً على الكرد منذ مدة لا تقل عن ذلك تقريباً.
بطريقة ما، قد يعتبر البحث عن تفسير لهذه الظاهرة أمراً ثانوياً، لأن الأهم من ذلك هو العواقب والتداعيات. فالجاليات اليهودية تعلم أن عليها أن تكون على أهبة الاستعداد كلما نشبت جولة جديدة من العنف، فهذه الجولة الأخيرة نجم عنها زيادة ستة أضعاف في حجم التقارير التي تدون وقوع أحداث من معاداة السامية في بريطانيا، وذلك بحسب ما صرحت به جمعية “وقف أمن المجتمع”. بالطبع، معظم النشطاء المؤيدين للفلسطينيين يؤكدون أنهم لا يحملون ضغينة ليهود الشتات، إلا أن المشاعر التي يثيرها هذا الصراع يمكن أن تحتد وتبلغ درجة عالية من السخونة، بحيث لا يسهل دوماً السيطرة عليها.
بالنسبة للكيان، أن يشكو زعماؤها من التدقيق الذي يتعرضون له، وكما قيل في الأثر، فإن حالهم كحال البحار الذي يشكو من البحر. يحتاج هؤلاء بدلاً من ذلك إلى التكيف مع حقيقة أنهم قد يواجهون قريباً جداً واقعاً استراتيجياً جديداً يطرأ فيه تغير على سياسة أقرب حلفائهم، الولايات المتحدة الأمريكية، بشكل خاص. لم يعد الأمر يقتصر على نعت الكيان بأنها “دولة أبارتايد” من قبل أليكسندرا أوكازيو كورتيز، بل بلغ الأمر بأعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين طالما كانوا من المناصرين للكيان إلى الدفع هذا الأسبوع باتجاه تأخير تزويد الكيان بحزمة مقررة من الأسلحة والمعدات العسكرية.
يمكن حالياً بسهولة التقليل من أهمية ذلك واعتباره أمراً عابراً – وملاحظة أنه حتى لو حصل تحول في موقف الكونغرس فإن الكثير من السياسيين في القارة الأوروبية ماضون في الاتجاه المعاكس، إذ أنهم يغدون أكثر، لا أقل، تعاطفاً مع الكيان. ولكن يتوجب على الكيان قراءة اللوحات التحذيرية. فنحن الذين طالما نددنا بالاحتلال لم نتوقف عن القول بأنه ما لم تفعل الكيان الشيء الصواب وتقوم بإنهائه، فسوف يتم تصنيفها في نهاية المطاف دولة منبوذة. وإذا ما أخذنا أحداث الأسبوعين الماضيين دليلاً، فإن ذلك اليوم غدا أقرب وأقرب.