سخّر ناجى العلي موهبته لمراقبة التغيرات السياسية ولخدمة قضيته الفلسطينية وفضح الاحتلال الصهيوني
“اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرّف حاله: ميت”، بهذه الكلمات تنبأ رسام الكاريكاتير الفلسطيني المغدور ناجي العلي بوفاته.
كان ناجي سليم العلي يتمشى في شارع آيفز في منطقة نايتس بريدج، وسط لندن، متجها إلى مكتب جريدة “القبس” الكويتية، في ظهيرة يوم 22 يوليو/تموز من عام 1987 حين تلقى عدة رصاصات أصابت إحداها عنقه فيما أصابت أخرى أسفل عينه اليمنى، وغاب عن الوعي واستمر في غيبوبته نحو 37 يوما حتى أُعلنت وفاته رسميا في 29 أغسطس/آب.
ورغم مضي 34 عاما على غياب العلي، فلم يعلن حتى الآن عن هوية الشخص المجهول الذي أطلق الرصاص عليه، ولم يتم الكشف عن الرابط بين إجباره على الرحيل إلى لندن عام 1985 وبين حادث الاغتيال، حتى بعدما فتحت الشرطة البريطانية التحقيق مرة أخرى في عام 2017.
حنظلة.. طفل خالد في العاشرة من عمره
سخّر ناجى العلي موهبته لمراقبة التغيرات السياسية ولخدمة قضيته الفلسطينية وفضح الاحتلال. لم ينس يوما علاقته بلبنان، رحل ناجي إلى لبنان عقب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين 1948، في العاشرة من عمره، واستقر حينها في مخيم “عين الحلوة”. وحينما اجتاح الاحتلال الإسرائيلي لبنان حتى وصل بيروت عام 1982، في هذه الفترة خرجت لوحته الشهيرة “صباح الخير يا بيروت”، حيث يقدم “حنظلة” صاحب الـ10 أعوام وردة إلى بيروت التي رسمها في شكل فتاة جميلة تخرج رأسها من فجوة جدار محطم بينما يكسو الحزن عينيها.
وفي أعقاب الاعتداء الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في مايو/أيار 2021، عادت شخصية “حنظلة” للظهور في المجال العام رمزا للاعتراض على ما حدث، كما عاد “حنظلة” في مباراة كرة قدم مصرية، إذ رفع أحمد حمدي عبد القادر لاعب فريق سموحة لكرة القدم إصبعيه لأعلى واضعا يده اليسرى خلف ظهره، مثلما يظهر حنظلة في وضعيته الشهيرة التي رسمها ناجي العلي قبل نحو 25 عاما من ميلاد اللاعب، ما يظهر كيف يستقر حنظلة في وجدان المهتمين بالقضية الفلسطينية وكيف استمر رمزا لها رغم تعاقب السنين.
كيف عاشت شخصية حنظلة؟
رغم ابتكار ناجي العلي لشخصيات عدة في لوحاته لانتقاد عدد من القيادات الفلسطينية والعربية، مثل فاطمة العربية، وشخصية جندي الاحتلال طويل الأنف، الذي يظهر مرتبكا أمام حجر صغير في يد طفل فلسطيني، فإنها جميعها لم تنل شهرة “حنظلة”.
“حنظلة” طفل يبلغ من العمر 10 سنوات، ويظل في العاشرة من عمره مهما تعاقبت السنون، ولن يكبر حتى يعود لفلسطين، ورغم تجمد عمره فإن أفكاره وسبل اعتراضه كانت تتطور بتطور الأحداث السياسية، فقد ظهر لأول مرة في لوحات ناجي العلي عام 1969 بجريدة “السياسة الكويتية”، وأدار ظهره للعالم مكتفا يديه خلف ظهره في أعقاب حرب 1973، رفضا للسياسات الأميركية لتسوية القضية الفلسطينية.
ومثّل حنظلة نموذجا مصغرا لمبتكره المغدور، وحفظ بقاءه في وجدان المشغولين بالقضية الفلسطينية، إذ إن عمر حنظلة هو نفسه عمر ناجي العلي عندما غادر فلسطين، ولم يكن حنظلة ليكبر حتى يعود ناجي إلى أرض الوطن، حينها فقط كنا سنشهد هذا الصبي يكبر وربما يظهر بوجهه أمام العالم. اتخذه العليّ بمثابة توقيع له على لوحاته، وحصدت الشخصية ثناء الجماهير العربية، وصارت رمزا للصمود الفلسطيني.
قال عنه ناجي العلي “ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”.
وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي “كتفته بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبعا”.
وأسهم هذا الموقف في رسوخ “حنظلة” معبرا عن موقف كثيرين حول مستجدات القضية الفلسطينية، فالطفل مقيد اليدين حاضر في كل ما يستجد على ساحة القضية الفلسطينية، فقد ظهر معبرا عن رفضه لكل ما يحدث من حلول التسوية، الاتفاقيات والأنظمة، سياسات الداخل، وسياسات الخارج.
لحنظلة وجه آخر يمثل الطفل الفلسطيني الذي يمثل عصب القضية الفلسطينية وشعبها، طفل يواجه الاحتلال ويواجه مصاعب الحياة تحت حكم الاحتلال، وسيظل حنظلة حيا في العاشرة من عمره إلى أن يعود الفلسطينيون إلى وطنهم، تنفيذا لوصية مبتكره ناجي العلي الذي دفن في أرض غريبة بعيدا عن وطنه.