مرايا – ما كان للفكر السياسي العربي أن يتفتق عن بناء دولة مركزية تلملم شتات العرب إلا بفضل الفكر الهاشمي الذي ربط المهد الحجازي للإسلام بالقدس، بصفتها أولى القبلتين المطهرة أرضها بمعراج الرسول الكريم إلى السماء، لتنبثق دولة بآفاق إمبراطورية، حجر زاويتها وثاق مقدس بين الشام والحجاز.
هكذا، قال التاريخ وأملى حقائقه على السياسة والجغرافيا، ما شكل سندا وأرضية للخطاب السياسي الأردني الذي يستلهم قوته من هذه الحقائق الموضوعية التي صاغها الصراع، فاستقرت فلسطين وقلبها القدس في محنتها تحت الاحتلال، ثابتا لا تحيد عنه السياسة الأردنية منذ عقود طويلة.
وليس غريبا، أن يتوقف مؤتمر ميونخ للأمن العالمي، المنتهية أعماله للتو، عند الوصاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، واضعا بصمته المهمة تحت هذه الوصاية بصفتها عنوانا كبيرا لا يمكن تجاوزه في مفترق الصراع ومقترحات الحلول لقضية العرب والمسلمين المركزية.
ويرى محللون سياسيون أن في الخطاب السياسي الأردني بوصلة تقود إلى الهدف الذي وضعته القيادة الهاشمية نصب أعينها، وهي تنافح عن القدس وفلسطين، مؤكدين أن هذا الخطاب لم يعرف ترددا، بل كان مثابرا في اقتفاء أهدافه لتحقيقها على الأرض.
أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس عبد الله كنعان، يقول لوكالة الأنباء الأردنية (بترا) إن الحالة السياسية العالمية تشهد دعوات ومساعي نحو تعزيز الأمن والسلام الشامل، ولا شك أن القضية الفلسطينية وجوهرها القدس، تمثل المحور الأساسي للسلام والاستقرار الدولي، لذا كانت لها مساحة للنقاش في مؤتمر ميونخ الدولي للأمن والاجتماع الوزاري المنعقد على هامشه، باعتبارها القضية الأكثر تعقيدا في الدبلوماسية الدولية، والأكثر قرارات على صعيد هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.
وتابع، بأنها تعنى بالشعب الفلسطيني صاحب الحق التاريخي والمتضرر من أشد أنواع ممارسات الأبرتهايد والعنصرية التي تنفذها إسرائيل “السلطة القائمة بالاحتلال”، ضاربة بالشرعية الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها ومنظمة العفو الدولية وجميع المنظمات الحقوقية والقانونية الدولية عرض الحائط، الأمر الذي يهدد منظومة السلام في العالم.
وبين أنه انطلاقا من الدور الأردني المحوري والتاريخي تجاه القضية الفلسطينة، والمتمثل بالتمسك بحل الدولتين والاستمرار بجهود الوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وما تتضمنه من شؤون الإعمار والرعاية المتنوعة، جاءت الدبلوماسية الأردنية النشطة في الاجتماع الوزاري على هامش مؤتمر ميونخ وبتوجيهات مباشرة من جلالة الملك عبد الله الثاني، بدعوة المجتمع الدولي إلى تفعيل سبل الحل السلمي للقضية الفلسطينية ودعم مسار المفاوضات المتعثرة، ضرورة ملحة لإلزام إسرائيل بالشرعية الدولية المتضمنة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.
ويوضح كنعان أن ذلك الأمر يستلزم مضاعفة الجهود الدولية والعمل الفوري الجماعي لإنهاء العنف والقتل والاستيطان والأسر واعتقال الأطفال والشيوخ والنساء ومصادرة الأراضي وهدم البيوت واقتحام الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة، وخاصة المسجد الأقصى المبارك، واتخاذ كل ما يلزم تجاه التعنت الإسرائيلي الذي سيقود العالم نحو تبعات مقلقة، خاصة في إطار التذمر الكبير من خرق إسرائيل للشرعية والقانون.
وأشار إلى أن المكانة البارزة للسياسة الأردنية، والتقدير الكبير والثقة التي يحظى بها جلالة الملك لدى مختلف القيادات العالمية، جعلت من دعوات جلالته المتزنة للسلام وطرحه القانوني بضرورة نصرة وإنصاف الشعب الفلسطيني وإعادة حقوقه المسلوبة، تجد من ينصت لها في العالم، وفي مقدمة هذه الدعوات الملكية إنهاء الاحتلال وحل الدولتين والحفاظ على الوضع التاريخي القائم في مدينة القدس، والحفاظ على تطلعات الأجيال نحو السلام والعيش في مناخ تسوده العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.
وأكد أن الإجماع الدولي في مؤتمر ميونخ للأمن والاجتماع الوزاري الذي جرى على هامشه، وتركيزهما على ضرورة السلام العالمي، وبروز دور أردني مميز خلال المباحثات شمل دعم وزراء الخارجية للوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ما يدلل على مركزية الوصاية ومحوريتها في دعم صمود أهلنا في القدس والحفاظ على هويتهم وحمايتها من التهويد الممنهج وممارسات العنف والاعتداء التي تنفذها إسرائيل يوميا، وما هذا الاجتماع إلا رسالة دولية عاجلة لإسرائيل مفادها ضرورة إنهاء الاحتلال ووقف الانتهاكات والالتزام بالقرارات الدولية ذات العلاقة بفلسطين والقدس.
وفي هذا الصدد، لفت كنعان إلى الجهود الأردنية المتواصلة على الأصعدة كافة لإنهاء معاناة أهلنا في حي الشيخ جراح، والسعي لتعزيز الوضع التاريخي القائم في المسجد الأقصى المبارك/ الحرم القدسي الشريف بزيادة أعداد حراس المسجد المعينين من قبل وزارة الأوقاف الأردنية، فضلا عن جهود أخرى تبذل على مدار الساعة لمساندة الأهل في فلسطين والقدس مهما كان الثمن والتضحيات.
من جهته، يقول الخبير والمحلل السياسي، الدكتور أمين المشاقبة، إن الأردن يتمسك على الدوام بهذا الدور الشريف وفق ما جاء به القانون الدولي، واتفاقية السلام التي تلزم إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، احترم الوصاية الهاشمية والدور الخاص في رعاية الأردن للمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، والتأكيد على ذلك عبر المحافل الدولية بما في ذلك مؤتمر ميونخ.
وأكد خبير العلاقات الدولية الدكتور حسن المومني، إن علاقة الهاشميين والأردنيين بفلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، علاقة متجذرة تاريخيا ودينيا ووجدانيا عبر قرن من التعاطي مع هذه المشكلة التي بدأت في وعد بلفور عام 1917، وتفجرت في عام 1948.
ويشير إلى أن الأردن بذل جهودا كبيرة في سياق الشرعية الدولية لحل القضية الفلسطينية والحفاظ على المقدسات الإسلامية، وشارك بشكل فاعل في صياغة قرارات مجلس الأمن التي صدرت في سياق القضية الفلسطينية كقرار 242 و338، وأيضا القرارات المتعلقة بالقدس والأماكن المقدسة، واستمر في اعتبار القدس قضية رئيسة، وتباحث بشأنها في مساره التفاوضي مع الجانب الإسرائيلي، لذا نجد في البند التاسع لمعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، إشارة واضحة إلى الدور التاريخي الأردني الهاشمي.
ويستذكر مدير مركز الوثائق والمخطوطات ودراسات بلاد الشام في الجامعة الأردنية الدكتور سلامة النعيمات، كلمات جلالة الملك عبد الله الثاني عند افتتاحه الدورة غير العادية لمجلس الأمة التاسع عشر في العاشر من كانون الأول لعام 2020، “نحن لم، ولن نتوانى يوما عن الدفاع عن القدس ومقدساتها وهويتها وتاريخها، فالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية واجب والتزام، وعقيدة راسخة، ومسؤولية نعتز بحملها منذ أكثر من مئة عام، فالقدس هي عنوان السلام، ولا نقبل أي مساس بوضعها التاريخي والقانوني، والمسجد الأقصى، كامل الحرم القدسي الشريف، لا يقبل الشراكة ولا التقسيم”.
وبين أن الوصاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس تعود إلى حكم الشريف الحسين بن علي الذي تبرع بمبلغ 24 ألف ليرة ذهبية لإعمار المقدسات الإسلامية، تجسيدا للعهدة العمرية التي حملها الهاشميون عبر التاريخ، كما تكرس مع تأسيس الدولة الأردنية عهد جديد من الوصاية والرعاية الهاشمية على المقدسات الدينية.
ولفت إلى أن فلسطين والقدس خاصة ودرتها المسجد الأقصى حظيت بعناية الهاشميين عبر تاريخهم المشرف الطويل، منذ مطلع القرن الماضي إلى يومنا هذا؛ فقد واصل جلالة الملك المؤسس عبد الله الأول، طيب الله ثراه، الرعاية الهاشمية للقدس، وحرص على متابعة صيانة المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وزيارتها بشكل مستمر حتى اختاره الله شهيدا في يوم الجمعة في 20 تموز عام 1951 على أبواب الأقصى.
ولفت إلى أنه في عام 1954 صدر قانون شكلت بموجبه لجنة إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة لتتخذ رعاية المقدسات صفة الثبات والدوام والاستمرارية، وتتابع الاهتمام باللجنة الملكية التي حرصت على الإعمار الشامل لمبنى قبة الصخرة وترميم وصيانة المحاريب والقباب والمساطب في ساحة الحرم الشريف، كما حرصت اللجنة على ترميم مصلى النساء والأبنية المحيطة بساحة الحرم الشريف، استمرارا لدور الهاشميين في رعاية القدس ومقدساتها وتأكيدا للوصاية والدور الهاشمي وسيرا على خطى الأجداد والآباء.
وتابع، وبعد أن تسلم جلالة الملك عبد الله الثاني سلطاته الدستورية، تشرف في الأول من كانون الأول عام 2002 بوضع اللوحة الزخرفية لمنبر صلاح الدين ليعود هذا المنبر في أداء دوره الحضاري والديني في رحاب المسجد الأقصى المبارك، كما صدرت التوجيهات الملكية لإعداد المخططات والدراسات اللازمة لبناء المئذنة الخامسة المسجد الأقصى المبارك، وتجديد فرش مسجد قبة الصخرة المشرفة بعناية فائقة من حيث اللون والمواصفات وبما يتلاءم مع طبيعة وقدسية المسجد المبارك.
وأوضح أن مركز الوثائق والمخطوطات ودراسات بلاد الشام في الجامعة الأردنية، يضم صور مخطوطات المسجد الأقصى وسجلات المحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية في فلسطين ومجموعة عن وثائق الحرم الشريف، بالإضافة إلى سجلات البلديات التي تكشف عن جوانب حية في التاريخ الإداري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعمراني لمدينة القدس الشريف.