لا يمكن للعقل البشري تخيل إجراء العمليات الجراحية وبتر الأطراف دون تخدير سوى في أفلام الرعب التي تنتج بأحدث أجهزة التصوير التي تظهر الصورة وكأنها حقيقية ولكنها تكتب تحذيرا ممنوع حضوره لمن هم أقل من 18 عاما وأصحاب القلوب الضعيفة.
ولكن في قطاع غزة ونظرا للحرب الدموية التي يتعرض لها وفي ظل الحصار الخانق وعدم دخول المواد الطبية وخاصة مواد التخدير المستخدمة لإجراء العمليات، فقد تم إجراء العديد من العمليات الجراحية في مستشفيات القطاع وخاصة في الشمال دون تخدير، وفق ما أكدت منظمة الصحة العالمية بما في ذلك بتر الأطراف.
وأكدت المنظمة في بيان صحفي أن 160 من العاملين في مجال الرعاية الصحية لقوا حتفهم أثناء الخدمة في غزة، بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع.
وقال طبيب التخدير في المستشفى الأوروبي نبيل الأسطل، إن الأطباء في مستشفى الشفاء الطبي وقبل استيلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي عليه وإخلائه من المرضى والأطباء أجروا عمليات بدون تخدير للمصابين نظراَ لأعدادهم الكبيرة ولنفاذ مواد التخدير.
وأفاد بأنه وفقا لشهادات زملائه أطباء الجراحة تم إجراء عدة عمليات جراحية، منها عمليات قيصرية لسيدات بدون بنج على الإطلاق، وكذلك إجراء عمليات للجرحى وأحيانا يصل الأمر لبتر الأطراف، مشيراً إلى أن الألم الذي يشعر به الأطفال أكبر من أعمارهم.
وأكد الأسطل أن مستشفيات القطاع وخاصة في الشمال والتي خرجت معظمها عن الخدمة في الوقت الحالي، نظراً لسيطرة الاحتلال على بعضها بشكل كامل وقصف وحصار البعض الآخر، عانت من نقص شديد في مواد التخدير الضرورية في العمليات الجراحية.
وقال “كانت هناك فترة في بداية الحرب نفدت فيها إمدادات التخدير بالكامل في مستشفيات الجنوب حتى سُمح لشاحنات المساعدات بالدخول”.
وأوضح الأسطل أن الأطقم الطبية بذلت قصارى جهدها لتخفيف آلام المرضى بأدوية أخرى أضعف تأثيرا لكنها لم تكن كافية، وأن هذا ليس الحل الأمثل لمريض داخل غرفة العمليات لأنه يجب إجراء العملية له تحت التخدير الكامل”.
ولقد شاهد العالم، كيف كانت طفلة صغيرة تبكي من الألم وتصرخ “ماما.. ماما”، بينما يخيط الممرض جرحا في رأسها دون استخدام أي مخدر لأنه لم يكن متوفرا، في مستشفى الشفاء.
من جانبه أكد طبيب الجراحة عبد العزيز عادل والذي عمل في أكثر من مستشفى داخل القطاع في الشمال والجنوب أن مجرد تصور إجراء عملية جراحية لشخص واعي أمر مرعب للطبيب والمريض الذي تجرى له العملية على حد سواء.
وأوضح أن العملية التي تحتاج لفتح الطبقات الستة لجلد المريض للوصول لموضع العملية أمر مؤلم ومرعب للطبيب، حيث يشكل ذلك ضغطاً عصبياً عليه فلا يتمكن من إجراء عمله بالدقة المطلوبة وخاصة مع قلة الأدوات وانعدام التعقيم تقريباً.
وأكد عادل أن الجروح والحروق من الدرجة الثانية قد تؤدي إلى حالة إغماء للمرضى من شدة الألم، متسائلاً “فماذا يحدث إن كانت عملية معقدة في أماكن صعبة أو لها علاقة بالكسور المعقدة في العظام”.
وأشار إلى أن تلك التدخلات الجراحية أو العمليات قد تؤدي إلى دخول المريض في صدمة عصبية وعدم استقرار بالعلامات الحيوية بجسمه مثل هبوط حاد بالضغط مما يؤدي إلى حالة إغماء واعياء بسبب الألم الشديد.
وأوضح أنهم عند إجراء عمليات جراحية حاولوا قدر المستطاع التخفيف من معاناة المرضى باستخدام ما توفر من مواد مخدرة وإن كانت تعتبر موضعية أو مؤقتة وذلك في محاولة لتخفيف ألمهم.
وأكد أن المرضى الذين تعرضوا لتلك التجربة سيعانون أعراضا نفسية شديدة تضاف إلى ما يعانوه بسبب فقدهم أطرافهم، وكذلك من تضرر عنده عضو مهم جدا مثل الكبد، والطحال قد يصاب بنزيف حاد يضطر الأطباء لاستئصاله وذلك دون الأساليب العلمية المعروفة عالميا وأهمها التخدير وتعقيم المعدات المستخدمة بشكل دائم ودقيق.
وأوضح أن بعض العمليات الصعبة والتي تكون مثل الكسور المعقدة والعمليات التي تكون في الأمعاء وتحتاج لفتح البطن لا يمكن إجرائها بدون تخدير مهما كانت الظروف لأنه يتم فتح عدد كبير من طبقات الجلد للوصول للمكان المطلوب وكل طبقة بها خلايا عصبية توصل الألم الذي لا يمكن أن يتحمله المريض.
وأشار عادل إلى أن العمليات الطارئة لإنقاذ حياة المرضى أو الكسور التي تحتاج لتركيب بلاتين لإنقاذ أطراف المريض من البتر فمن الممكن إجرائها بدون بنج فقط لإنقاذ الموقف.
وحول متى يضطر الأطباء لبتر الأطراف، قال “الكسور المعقدة ألمها شديد ويزداد في حال التدخل الجراحي واستخدام آلات حادة، وفي حال تأخر التدخل الطبي يزداد الأمر تعقيدا مما يجعل البتر هو الحل الوحيد أمام الطبيب كي لا يزداد الأمر سوءً في الجسم كله”.
بدوره بين الطبيب الصيدلي العامل في مجال الصحة بغزة محمد الفرا، أنه في العمليات الصغرى الموضعية والتغريز وخياطة الجروح وتخفيف الألم يستخدم المخدر الموضعي مثل الليدوسين.
وتابع، أن أدوية التخدير الكلي أو العام والتي تعتبر مهمة جدا لإجراء العمليات للحفاظ على المريض هادئ ومنع شعوره بالألم الشديد خلال العملية والحفاظ على حياته، يعاني القطاع الصحي في غزة نقصا حادا بها مثل بروبوفول، فينتنانيل، كيتامين، ميدازولام، ثيوبينتال، أيزوفلوران وسيفوفلوران.
بدوره أكد الطبيب البيطري فايز الحداد أنه في التعامل مع الحيوانات وفي حال إجراء عمليات جراحة لها يستخدم المخدر الموضعي والكلي حسب حجم العملية، مبينا أنه يرفض إجراء العمليات بدون مخدر كي يخفف الألم.
وقال عندما فقدت مواد التخدير حاولت إجراء عمليات لحيوانات بدون مخدر ولكنني استخدمت طرق بدائية بديلة تخفف من الألم مثل ربط الأعصاب أو ضربه على مركز الوعي برأسه كي لا يشعر بالألم.
وأضاف الحداد: “إذا كان الحيوان يجب تخديره ومحاولة جعله لا يشعر بالألم عند إجراء عملية جراحية له فمن الأولى الحفاظ على حياة الإنسان وحصوله على الرعاية المطلوبة، مؤكدا أن الطرق البدائية لإجراء العمليات لم تعد مجدية والعلم الحديث لا يدرسها لأن المواد المخدرة كانت الحل الأمثل التي أنهت تلك المأساة”.
ويقول الممرض أحمد خالد الذي كان يعمل بمستشفى الشفاء وانتقل إلى مستشفى ناصر بخان يونس، “من أسوأ اللحظات التي نمر بها كممرضين في وقت نضطر فيه للتعامل مع تدفق لم يسبق له مثيل للجرحى وندرة أدوية تخفيف الألم منذ بدء الحرب على غزة.
وأضاف “غالبا ما نعطي المريض الشاش المعقم لكي يقوم بالعض عليه لتخفيف الألم الذي يشعر به، ونحن نعلم أن الألم الذي يشعر به هو أعلى مما يتصور، خاصة الأطفال”.
وأشار خالد إلى أنه ولدى وصوله إلى مستشفى الشفاء لتغيير الضمادات وتطهير جرح في ظهر أحد الجرحى أصيب به في غارة جوية إسرائيلية وهو رجل في منتصف العمر، لم يحصل على أي مسكنات للألم عندما تمت خياطة جرحه وأنه ظل يقرأ القرآن حتى انتهوا منه.
وتؤكد هذه المجريات أن أهالي غزة يعانون الألم بشكل متسلسل بدءا من الإصابة ومرورا بالنقل وانتهاء بالعمليات الجراحية دون تخدير، ما يضاعف الألم المستمر ما دام المجتمع الدولي يقف متفرجا ويعجز عن وقف آلة القتل الإسرائيلية ومحاسبة الجناة.