يصادف اليوم الحادي والعشرون من آب/ أغسطس، الذكرى الـ55 لإحراق المسجد الأقصى المبارك.
في مثل هذا اليوم من عام 1969، اقتحم يهودي متطرف أسترالي الجنسية إرهابي يدعى مايكل دينيس المسجد الأقصى، وأشعل النيران عمدا في الجناح الشرقي للمسجد، حيث أتت على واجهات المسجد وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة وكل محتوياته من المصاحف والأثاث، وتضرر البناء بشكل كبير، ما تطلب سنوات لإعادة ترميمه وزخرفته كما كان.
ومن ضمن المعالم التي أتت عليها النيران، مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ويمثل ذكرى دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس وفتحها، إضافة إلى تخريب محراب زكريا المجاور لمسجد عمر، ومقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا، وثلاثة أروقة من أصل سبعة ممتدة من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخرفة، وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق، وعمودين مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد، و74 نافذة خشبية وغيرها.
وكما تضررت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والجدران الجنوبية، وتحطمت 48 نافذة في المسجد مصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترقت الكثير من الزخارف والآيات القرآنية.
وآنذاك تم إنقاذ ما تبقى في المسجد الأقصى قبل أن تجهز عليه النيران، بعد أن هُرعت مركبات الإطفاء من الخليل، وبيت لحم، ومناطق مختلفة من الضفة والبلديات العربية لإنقاذ المسجد الأقصى، رغم محاولات سلطات الاحتلال الإسرائيلي منعها من ذلك، وقطعها المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد في يوم الحريق نفسه، كما تعمدت مركبات الإطفاء التابعة لبلدية الاحتلال بالقدس التأخر، حتى لا تشارك في إطفاء الحريق.
وجاء هذا العمل الإجرامي في إطار سلسلة من الإجراءات التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 وما زال، بهدف طمس الهوية الحضارية الإسلامية لمدينة القدس.
حظي المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرَّفة بمكانة خاصة لدى الهاشميين عبر التاريخ، فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل المحافظة عليهما، وحرصوا على أن تظلّ القدس رمزاً لوحدة الأمة، وعنواناً لرقيّها وازدهارها، وسدّاً منيعاً ضد الغزاة والمعتدين.
وكان الشريف الحسين بن علي أول المتبرعين لإعادة إعمار المسجد الأقصى في الحملة التي انطلقت عام 1924 لهذه الغاية، إذ بادر مع ابنه الأمير (الملك المؤسس لاحقاً) عبدالله بن الحسين، بالتبرع بمبلغ 26677 جنيهاً من ماله الخاص (حوالي 50 ألف ليرة ذهبية) لتُصرَف على إعمار المقدَّسات الطاهرة، وهو ما سُمّي “الإعمار الهاشمي الأول”.
وقدم الشريف الهاشمي هذا المبلغ في وقتٍ كان فيه بأمسّ الحاجة إليه وهو يقود أحرار الأمة لتحقيق الحرية والوحدة، ولكن القدس ظلّت لديه في بؤرة الاهتمام، وظلّ حبّه للأقصى وما حوله يدفعه لكل مظاهر البذل والعطاء. إذ تشير الوثائق المحفوظة في القدس الشريف إلى أن الحسين بن علي -طيب الله ثراه- قد أولى الحرم الشريف وبيت المقدس كلَّ رعايةٍ وعناية، وكان يتابع بنفسه أعمال المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين ولجنة عمارة الحرم القدسي، ويواصل توجيهاته لهما، وأوصى أن يُدفن في رحاب الحرم الشريف ليقوم أنجاله وذرّيته من بعده بكل ما يستطيعون لرعايته والمحافظة عليه وفاءً للراحل العظيم الذي يرقد في رحابه الطاهرة.
وواصل جلالة الملك المؤسس المغفور له الشهيد عبدالله بن الحسين المسيرة الطيبة والرعاية الهاشمية للقدس والمقدسات فيها. وحرص جلالته على متابعة صيانة المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، وبقية المعالم المقدسة الإسلامية والمسيحية في المدينة، كما واظب على زيارة القدس وإقامة الصلاة في مسجدها باستمرار، وشارك في إطفاء الحريق الذي شبّ في كنيسة القيامة عام 1949، وتولّى بنفسه رئاسة عمارة الحرم الشريف بالقدس، ولشدة تعلُّقه بالبقاع الطاهرة اختاره الله تعالى شهيداً يوم الجمعة 20 تموز 1951 على أبواب الأقصى رمزاً للفداء وعنواناً لحبّ العطاء.
وما إن تولّى الحسين بن طلال، طيّب الله ثراه، سلطاتِه الدستورية، حتى وضع بيت المقدس ودرّته، المسجد الأقصى المبارك، وما يشتمل عليه من معالم إسلامية في طليعة اهتماماته، وقد تجلّى ذلك في التوجيهات الملكية السامية إلى الحكومات المتعاقبة بمنح القدس ومقدساتها العناية التي تليق بها وبمكانتها لدى أبناء الأمتين العربية والإسلامية، وترميم قبة الصخرة التي أخذت في فقدان بريقها بفعل عوامل الطقس والزمن، وبعد أن أخذت المياهُ تتسرب إلى الداخل.
ولتحقيق الرغبة الملكية السامية، صدر القانون رقم (32) لسنة 1954، والذي شُكّلت بموجبه لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرّفة، لتتخذ رعايةُ المقدسات صفةَ الثبات والدوام والاستمرارية، ولتكون الرعاية الهاشمية للمقدسات حقاً ثابتاً تاريخياً وقانونياً.
وتَتابع الاهتمام بالقدس ومقدساتها في عام 1956، ثم في عام 1959 الذي بدأ فيه الإعمار الهاشميّ الثاني الذي موّله الأردن إلى جانب دعمٍ قدمته بعض الدول الإسلامية، واستمرت المرحلة الأولى من هذا الإعمار حتى عام 1964، حيث رعى الحسين احتفالاً كبيراً أقيم في بيت المقدس يوم 6 آب 1964 بمناسبة الانتهاء من هذه المرحلة التي شهدت أوسع عملية إعمار في تاريخه الحافل منذ أن بناه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان قبل ثلاثة عشر قرناً.
وألقى الحسين خطاباً سامياً بهذه المناسبة بيّن فيه مكانة القدس لدى الهاشميين، مشدداً على ضرورة تكاتف المسلمين لاستعادتها. وقال جلالته: “إننا ونحن نغتبط اليوم إذ نمد أبصارنا من خلالكم فنرى الملايين من العرب والمسلمين في آسيا وإفريقيا وقد اجتمعت من حول فلسطين هذه الساعة، نحب أن نذكّر بأن إعمار مسجد الصخرة المشرفة إنْ بدأ فوق أرض المسجد وفي حدودها الضيقة، فإن إنقاذ الصخرة والحفاظ على مسجدها وصون قبّتها تنتهي كلها هناك، في الأرض السليبة، في الأرض العربية الحبيبة، وفي استرداد حقوقنا فيها كاملة غير منقوصة”.
وأضاف جلالته: “لقد كان الإنجاز الذي نحتفل اليوم، أيها الإخوة، بإتمام المرحلة الأولى منه، مَظهراً نبيلاً لوشائج القربى والمودة التي تصل شعوبَ العرب والمسلمين بعضها ببعض، وتجعل منها، إنْ هي التقت كلمتها، واتّحدت إرادتها، قوة جبارة تعرف كيف تبني لنفسها وتشيد، وكيف تهدي الكثير لأجيالها المقبلة وتعطيه، وتمنح الدنيا وتهب الخير للناس أجمعين”.
واشتركت في الاحتفال تلبيةً لدعوة جلالته، وفودٌ تمثل أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسيادة رؤساء ثلاث وعشرين دولة عربية، والأمينُ العام لجامعة الدول العربية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وكبار العلماء في العالم الإسلامي ورجال الدولة.
وتضمّنت عملية الإعمار: تقوية القبة من الداخل، فاستعيض عن خشبها القديم الذي تآكل بفعل السوس بخشبٍ صالح وجيد، ورُفعت ألواح الرصاص التي كانت تغطي القبةَ من الخارج، ورُكبت بدلاً منها قبة مصنوعة من الألمنيوم المذهَّب، ورُفع الهلال القديم وكان مصنوعاً من النحاس، ووُضع مكانه هلالٌ مصنوع من الألمنيوم المذهَّب تعلوه مانعةٌ للصواعق من البلاتين، وقُوِّيَت الجدران من الخارج بالخرسانة المسلّحة، ووُضعت دعامات له من الداخل، ورُفعت ثلاثة أعمدة جديدة: اثنان من الناحية الشرقية القِبْلية للصخرة نفسها، والثالث إلى الشمال. كما جرى إصلاح الفسيفساء في القبّة من الداخل، والرخام والقاشاني في جوانب أخرى من المسجد.
وفي 21 آب 1969 اقتحم أحد المتعصّبين اليهود المسجدَ الأقصى وأشعل النار فيه، ما أدى إلى تدمير معظم أجزاء المسجد. ومن بين الأجزاء التي أتى عليها الحريق: منبر صلاح الدين، ومسجد عمر الموجود في الزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى، ومحراب زكريا، ومقام الأربعين، والمحراب الرئيسي للمسجد، والقبة الخشبية الداخلية، ونوافذ المسجد، والجدار الجنوبي، والسجاد الذي يغطي أرض المسجد.
وعلى إثر ذلك وجّه الحسين رسالة إلى ملوك ورؤساء العرب والمسلمين قال فيها: “إنّ هذا الحادث المروِّع الذي يجري بعد أن احْتُلَّت فلسطين كلها، وأجزاء واسعة لدول عربية محيطة بها، والذي يهزّ ضمير كل عربي ومسلم وضمير الإنسانية جمعاء ويستثير تاريخنا، لا بد أن يهيب بنا -ملوكاً ورؤساء وقادة- للدفاع في هذه اللحظة الحالكة عن ديننا ومقدساتنا وتراثنا”.
وأضاف جلالته: “توجّهتُ إليكم في هذا اليوم الأسود لتتنادوا مع ضمائركم فتلتقوا على الفور لتتحمّلوا مسؤولياتكم أمام الله وشعوبكم”، داعياً إلى المشاركة الفعّالة العاجلة في العمل من أجل القدس مهوى الأفئدة.
وأصدر الحسين توجيهاته السامية للجنة الإعمار لتتولّى مسؤولياتها التاريخية والقانونية، فبدأت عمليات الإعمار الهاشميّ الثالث الذي استمر إلى عام 1994، بعد أن وُضعت المخصصات اللازمة لإزالة آثار الحريق المشؤوم، وإعادة البناء الحضاري إلى ما كان عليه ببهائه ورونقه وشموخ عطائه ليواصل أداء رسالته الخالدة في الدعوة إلى الله ونشر مبادئ الخير والعدل.
وبعد جهود فنية كبيرة، تمكّنت اللجنة من إزالة آثار الحريق في عام 1978، وبتكلفة بلغت ما يقارب 19 مليون دينار.
ونُفذ الإعمار بعد رفع الأنقاض وإجراء الدراسات والمخططات اللازمة للعمل، وإنشاء شبكة كاملة للإطفاء بالمياه، وإنشاء شبكة إنارة أمنية للمحافظة على الحرم الشريف. وقُسِّم مشروع العمل إلى مرحلتين: مرحلة إنشائية هُدِم فيها الجزء الجنوبي الشرقي وأعيد بناؤه، ومرحلة الأعمال التكميلية والزخرفة. وأعيدت خلال العملية تكسية قبة المسجد الخارجية بمادة الرصاص كما كانت عليه قبل عام 1964 بدلاً من ألواح الألمنيوم الأبيض. ونُفذت أعمال لتجديد وترميم وصنع شبابيك جصّية داخلية وخارجية في جميع فتحات المسجد، بلغ عددها حوالي مائتي شباك، وكذلك تبليط وترميم جامع عمر ومحراب زكريا ومقام الأربعين. ورُممت المصاطب والقباب، ومن أبرزها: قبة السلسلة، والمحاريب، والسبل وفي مقدمتها سبيل قايتباي. كما رُمِّم المتحف الإسلامي، وضريح الشريف الحسين بن علي، وجامع المدرسة الأرغونية، والرواق الغربي.
ولم يقتصر الاهتمام الهاشمي بالقدس على إعمار الأماكن الإسلامية المقدسة، بل امتدّ بتوجيهات من الحسين ليشمل إنشاء الكليات والمدارس الدينية ومراكز حفظ التراث، ومنها: ثانوية الأقصى الشرعية (أنشئت عام 1958)، والمدرسة الشرعية في الخليل (أنشئت عام 1962)، والمدرسة الشرعية في نابلس (أنشئت عام 1962)، وكلية العلوم الإسلامية في القدس (أنشئت عام 1975)، والمدرسة الشرعية في جنين (أنشئت عام 1975)، وقسم الآثار الإسلامية بالقدس (أنشئ عام 1977)، وقسم إحياء التراث الإسلامي بالقدس (أنشئ عام 1978)، وكلية العلوم الإسلامية في قلقيلية (أنشئت عام 1978)، وكلية الدعوة وأصول الدين في القدس (أنشئت عام 1978).
وفي 11 أيار 1992، وجّه الحسين رسالة سامية إلى سماحة رئيس لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرّفة، تتضمّن تبرُّعَ جلالته بمبلغ 8.249 مليون دولار لاستكمال الدراسات وطرح العطاءات المتعلّقة بعملية إعادة ترميم وإعمار قبة الصخرة المشرفة، انطلاقاً من التزامه بحماية المقدسات الإسلامية في بيت المقدس وسيراً على نهج الآباء والأجداد.
واستذكر الحسين في رسالته ما كان يردّده المغفور له الملك المؤسس عبدالله بن الحسين، طيّب الله ثراه، حول مسؤولية آل البيت “الذين إذا شاهدوا ثلمة في حائط البناء الإسلامي، دعوا إلى رتق الفتق وتشييد البناء”.
وقد وُجّه التبرُّع السامي لإتمام عملية تكسية القبة المشرَّفة بألواح النحاس المذهَّبة، وتكسية الأروقة بألواح الرصاص، ووضع أجهزة حديثة للإنذار والإطفاء.
وفي 28 آب 1993، ومع قرب الانتهاء من أعمال التكسية وحلول ذكرى المولد النبوي الشريف، وجّه الحسين إلى رئيس الحكومة آنذاك د.عبدالسلام المجالي، رسالة تضمّنت أن تقوم لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرّفة باتخاذ الخطوات الكفيلة لإعادة صنع منبر صلاح الدين الأيوبي، وأن تحشد المهندسين المحتسبين والفنيين البارعين حتى يعود المنبر كما كان وعلى صورته الحقيقية المتميزة ببالغ الحسن والدقة والإتقان في مكانه من المسجد الأقصى المبارك، مهما كلف هذا العمل الإسلامي من جهود، ومهما استدعى هذا المشروع من أموال.
وقد تحقّق هذا الحلم للراحل الحسين في عهد صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله، سيراً على خُطى الآباء والأجداد، فتم إنجاز المنبر في جامعة البلقاء التطبيقية، وأُرسل للقدس في 23 كانون الثاني 2007، حيث تم تركيبه في مكانه بالمسجد الأقصى.
وبمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من الإعمار الهاشمي الثالث للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، ألقى جلالته خطاباً يوم 19 نيسان 1994، قال فيه: “إن هذا الإنجاز الذي نحتفل به لَمن أعزّ الإنجازات عندي.. وهو انتهاء الإعمار الهاشمي الثالث للمسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرَّفة…. وقد يسّر الله لي ما أعانني على القيام بالتزاماته ابتغاء مرضاته سبحانه”.
وذكّر جلالته بالاحتفال بالمرحلة الأولى للإعمار الهاشميّ الثاني للمسجد الأقصى وقبّة الصخرة يوم 6 آب 1964، قائلاً: “نذكّر بأن إعمار مسجد الصخرة وقبّتها المشرفة، إن بدأ فوق أرض المسجد وفي حدودها الضيقة، فإنّ إنقاذ الصخرة والحفاظ على مسجدها وصون قبتها، تنتهي كلها هناك: في الأرض السليبة، في الأرض العربية الحبيبة، وفي استرداد حقوقنا فيها كاملة غير منقوصة”.
وعندما تناهى إلى علْم الحسين أن السجّاد الموجود في مسجد قبة الصخرة المشرفة قد عَدَتْ عليه عوادي الزمن وأصاب بعضَه التلف، أمر جلالته يوم 15 شباط 1996 ميلادية، أن يُعاد فَرْش المسجد على نفقة جلالته الخاصة، تقرُّباً إلى الله في شهر رمضان الكريم (سنة 1416 هجرية)، وتسهيلاً للرُّكَّع السّجُود وحضّاً للناس على عمل الخير واستكمالاً للإعمار الهاشمي للحرم الشريف.
الملك عبدالله الثاني والقدس
حظيت المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس باهتمام بالغ في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، وأضحت جزءا لا يتجزأ من برامج عمل الحكومات في عهد جلالته، فقد أشار جلالته إلى ضرورة الاهتمام بها والعناية بمرافقها والتعهد بحمايتها، في كتب التكليف السامي للحكومات التي تشكلت حتى الآن في عهد جلالته.
هذا الاهتمام الكبير بالمقدسات الإسلامية في القدس من قبل جلالة الملك، شكّل استمرارية للنهج الهاشمي في رعاية هذه المقدسات منذ أمد بعيد، وأخذت تلك الرعاية إطارا مؤسسيا تمثل في إنشاء الصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، بموجب قانون صدر عام 2007 بعد تعديل قانون إعمار المسجد الأقصى رقم 32 لسنة 1954، ويشرف على الصندوق مجلس أمناء برئاسة سمو الأمير غازي بن محمد المبعوث الشخصي، المستشار الخاص لجلالة الملك.
وقد أولت لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، المشكلة بموجب القانون الأردني رقم 32 لسنة 1954م، جُلّ عنايتها بالمسجد الاقصى المبارك، وما يشتمل عليه من مساجد وقباب ومحاريب وغيرها من المعالم الحضارية، وقامت بشكل متواصل وعمل دؤوب بصيانة وترميم هذه المعالم، وأزالت آثار الحريق الذي جاوز أكثر من ثلث مساحة المسجد، بالإضافة إلى إعمار مسجد قبة الصخرة المشرفة الأول، الذي يعود تاريخه إلى عام 691م.
شملت مشاريع الإعمار في المسجد الأقصى في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني ما يلي:
منبر المسجد الأقصى المبارك “منبر صلاح الدين”:
تشرف جلالة الملك عبدالله الثاني بوضع اللوحة الزخرفية الأولى على جسم المنبر في 26 رمضان 1423هـ، الموافق الأول من كانون الأول/ديسمبر 2002م، وتصدر العمل في عملية التصنيع الاهتمام والمتابعة المستمرة، ليعود المنبر على صورته الحقيقية المميزة ببالغ الحسن والدقة والإتقان، كما أراد له أن يكون جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، عندما أبدى توجيهاته بإعادة صنع منبر صلاح الدين الأيوبي في 10 ربيع أول 1414هـ الموافق 28 آب/أغسطس 1993م.
الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى.
الحائط الشرقي للمسجد الأقصى المبارك.
مشروع نظام قضبان الشد والربط لجدران المصلى المرواني.
نظام الإنذار وإطفاء الحريق في المسجد الأقصى المبارك.
البنى والمرافق التحتية.
قبة الصخرة المشرفة: وشملت الرعاية الهاشمية في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، ترميم الأعمال الفنية في مختلف مرافق قبة الصخرة المشرفة، إذ تعد هذه الواجهات الفنية الزخرفية من كنوز الإنجاز الفني الإسلامي الذي يعود للعصر الأموي، ومنها إعادة الرخام الداخلي لجدران القبة.
مهد عيسى عليه السلام.
مشاريع الإعمار المقترح تنفيذها: وتسعى الحكومة إلى إتمام عمليات التحديث والترميم التي أمر بها جلالة الملك عبدالله الثاني، ووضعت أمام أعينها تنفيذ عدد من المشاريع المستقبلية ومنها: مشروع الإنارة، وشبكة الهاتف، وتطوير الصوتيات المركزية، ومشروع المئذنة الخامسة للمسجد الأقصى المبارك.
ترميم القبر المقدس: في الرابع من نيسان/ابريل عام 2016 م وبمكرمة ملكية سامية، تبرع جلالة الملك عبد الله الثاني، وعلى نفقته الخاصة، لترميم القبر المقدس في كنيسة القيامة في القدس، وأبلغ الديوان الملكي الهاشمي البطريركية الأورشليمية في القدس بمكرمة جلالته، برسالة خطية أرسلت إلى غبطة البطريرك كيريوس ثيوفيلوس الثالث، بطريرك المدينة المقدسة وسائر أعمال الأردن وفلسطين.
ترميم كنيسة الصعود على جبل الزيتون عام 2017، وترميم الزخارف الفسيفسائية في المسجد القبلي/ الأقصى وقبة الصخرة. كما تبرّع جلالته بجزء من القيمة المالية لجائزة تمبلتون التي تسلّمها في عام 2018، لإنجاز أعمال الترميم في كنيسة القيامة بالقدس.
ترميمات للقدس
وشملت مشاريع الإعمار للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، في عهد جلالة الملك، إعادة بناء منبر المسجد الأقصى المبارك “منبر صلاح الدين”، وتركيبه في مكانه الطبيعي في المسجد يوم 25 تموز/يوليو2006، وترميم الحائط الجنوبي والشرقي للمسجد الأقصى، وأحد عشر مشروع ترميم وصيانة لمختلف مرافق وأقسام المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة.
وأجريت الدراسات لتنفيذ ستة مشاريع أخرى، تتعلق بتركيب أنظمة حديثة ومتطورة للإنارة والصوت والأعمال الميكانيكية والصحية والانذار المبكر للحريق، إضافة إلى مشروع المئذنة الخامسة للمسجد الأقصى المبارك على السور الشرقي، بجانب دار الحديث القائمة شمال مبنى الباب الذهبي.
إنقاذ منبر صلاح الدين
على مدى قرون، حمل الهاشميون أمانةً خاصة، هي أمانة حفظ ورعاية المواقع الإسلامية المقدسة في مدينة القدس. وعندما تسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني مسؤولياته الدستورية، بعد وفاة والده المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، حمل معها تحديا زاد عمره على ثلاثين عاماً: وهو كيف يمكن إعادة بناء منبر صلاح الدين ، ليأخذ مكانه ثانية في المسجد الأقصى المبارك في القدس.
والمنبر، وهو درج مزخرف يصعد عليه الإمام ليلقي منه خطبته، وكان منبر صلاح الدين واحداً من أعظم الأعمال الفنية للحضارة الإسلامية في أوج مجدها. وفي القرن الثاني عشر للميلاد، كانت القدس ما تزال تحت الاحتلال الصليبي. إلا أن نور الدين زنكي، استدعى أمهر الحرفيين في الدولة لبناء منبر رائع أخّاذ للمسجد الأقصى المبارك. وكان هذا المنبر رمزاً لعظمة الحضارة الإسلامية، وإخلاصها لله، وتطلعها إلى استعادة السيادة على المدينة، التي تأتي في المرتبة الثالثة بين الأماكن المقدّسة لدى المسلمين.
وفي عام 1187م، عندما أعاد الناصر صلاح الدين الأيوبي فتح بيت المقدس مبتدئاً عهد الدولة الأيوبية، أحضر منبر نور الدين زنكي من حلب ووضعه في المسجد الأقصى المبارك. وقد ظلّ قائماً هناك حوالي 800 عام.
وفي عام 1969، ألقى أحد المتطرفين الصهاينة قنبلة حارقة داخل المسجد الأقصى المبارك، فاشتعلت فيه النار وكادت أن تدمّر المبنى، وكان من نتائج الحريق أن تحوّل منبر صلاح الدين إلى رماد.
وبعد هذا التفجير، تعهّد جلالة الملك الحسين الله طيب الله ثراه، بإعادة بناء المنبر – وهو عمل عظيم ثبت في ما بعد أنه أصعبُ كثيراً مما قدّر له في البداية-.
فما تبقى من المنبر الأصلي قليل جداً، ولم تكن هناك رسوم وسجلات مفصلة للمنبر تبيّن عملية بنائه، وأبعاده، والمواد المستعملة فيه أو هيكله الداخلي. وما عُثِر عليه هو قطع خشبية متفحمة، ولوحات فنية قديمة، وصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، غدت الأدلة الوحيدة المتوافرة للجنة التي شُكّلت للإشراف على هذا العمل الجليل. وبدا أيضاً وكأن المعرفة بتصميم وبناء أجزاء المنبر الدقيقة قد فقدت.
إن إعادة بناء المنبر ستكون أكثر من مجرّد اختبار للمهارات، فهي ستصبح جُهْداً رئيسياً عظيماً لحماية التراث الفكري والفني والإبداعي للعالم الإسلامي، هذا التراث المميز الذي بدأت معالمه تختفي بسرعة.
وعندما اعتلى جلالة الملك عبدالله الثاني العرش، عاود وصاحب السمو الملكي الأمير غازي بن محمد، الجهود لترميم المنبر.
وبدعم ملكي هاشمي، أُسّس مشغل في مدينة السلط جُمع فيه حشد من أفضل المبدعين في النقش على الخشب من سائر أرجاء العالم الإسلامي، لإتمام المنبر الجديد، بحيث يكون نسخة طبق الأصل عن المنبر الذي دمره الحريق. وحتى بوجود فريق يضم 12 من الحرفيين الماهرين، فإن بناء المنبر استغرق حوالي أربع سنوات كاملة. وما إنْ أُنجز بصورة نهائية ونقل إلى القدس في 2 شباط/فبراير 2007م، حتى استقر في مكان المنبر الأصلي بصورة رائعة دون زيادة أو نقصان.
وقد قام الهاشميون بدور مهم في الحفاظ على الثقافة والعمارة الإسلامية في القدس، حيث كانوا على الدوام الأمناء على الأماكن الإسلامية المقدسة فيها، يرعون هذه الأماكن ويحافظون عليها. إن إعادة بناء منبر صلاح الدين ليس إلاّ أحد الأعمال المهمة العديدة التي قام بها الملوك الهاشميون للحفاظ على الأماكن المقدسة وصيانتها على مدى العقود الأخيرة، وقد وضع هذا الأردن في مركز الصدارة في مجال البحث العلمي الإسلامي، والحفاظ على المعالم الثقافية في أيامنا هذه.