مرايا –
أصوات المطارق وهي تدك رؤوس المسامير كانت قد أغرقت تفاصيل المكان، بالشراكة مع جلجلة لبعض مناشير الخشب وأصوات الباعة المتجولين بالقرب من المنجرة، تلوث سمعي لم يأتِ أوكله مع معاذ العمري 43 عاما، فهو يعاني من إعاقة سمعية منذ صغره، أفقدته القدرة على الحديث أو السمع.
لأكثر من ربع قرن اعتاد العمري على العمل في مهنة النجارة، حتى ذاع صيته في منطقة طبربور في عمّان، وأصبح يحج إليه كل من يبحث عن تصاميم خشبية فريدة من نوعها، لكن خبرته ونجاعته في عمله لم تشفع له بأن يشتري شقة سكنية تخلو من العيوب الإنشائية، أو الخفية.
بحركات إيقاعية بين يديه وجسده جلس العمري يشرح لفريق “المملكة” شراءه لمنزله قبل سنوات، ويقول: “لقد شاهدت شقيقتي أحد الإعلانات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حينها اتصلت مع صاحب الشقة وذهبت لرؤيتها، للوهلة الأولى أصبت أنا وزوجتي بحالة من الدهشة، فكل شيء بالمكان رسم بدقة، الطلاء المميز، الإضاءة الساحرة، حتى أن الديكورات الخشبية كانت تطغى على جميع التفاصيل المعمارية”.
بعد أشهر قليلة استيقظ أبناء معاذ العمري على صوت وجود تماس كهربائي في قواطع الكهرباء الرئيسية للشقة، بعدها اندلع حريق بسيط، وانتشرت رائحة الحريق في المكان، ليتبين بعد الكشف عليها من قبل مهندس مختص وجود مشكلة في التوصيلات الكهربائية للمبنى.
“يلجأ عدد من التجار إلى استيراد مواد أولية، أو بضائع مختلف تتعلق بتشطيبات الكهرباء، أو السباكة، أو النجارة ذات جودة متدنية من بلدان عديدة، لغاية استخدامها أثناء مراحل البناء، أو التشطيب، ولا يوجد لهذه المواد عمر افتراضي، أو مواصفة محددة تتعلق بجودتها، ويترك الأمر للمستهلك الذي تمارس عليه ضروبا من التجارب دون وجود أدنى رقابة من الجهات المختصة”، كما يقول حازم بلعاوي صاحب مكتب هندسي.
تقسم المشاريع السكنية إلى قسمين، الأول يتعلق بأعمال البناء والعظم، والثاني أعمال التشطيبات، وفق ما يقول رئيس هيئة المكاتب الهندسية عبدالله غوشة، الذي يضيف “سنويا يتم إصدار ما يقارب 35 ألف رخصة بناء من أمانة عمان الكبرى، أو من البلديات، في حين لا يتجاوز عدد الشكاوى من 60-70 شكوى سنويا بما يخص أعمال العظم، لكن المشكلة الرئيس لدينا تتعلق بأعمال التشطيبات وهي تشمل تمديدات الكهرباء والمياه والعزل والتبليط …”.
تكشف “المملكة” عبر برنامجها الاستقصائي “قيد التحقيق”، عن تلاعب بعض شركات الإسكان بالمواصفات الخرسانية للمباني السكنية، كما توثق تلاعبا بالمواد الأولية المستخدمة، والكودات الهندسية، ومواد التشطيبات الخارجية، وسط ضعف أدوار الجهات الرقابية التي أبقت المنشآت المعمارية السكنية حبيسة المخططات الورقية.
وصلت في 5 آذار/مارس 2013، شكوى رسمية إلى مكتب خدمة الجمهور في وزارة الأشغال العامة والإسكان، مفادها أن هناك عيوب خفية ظهرت في إحدى العمارات السكنية في منطقة طارق، رغم عدم مرور عام على شراء هذه الشقق. استطاع فريق المملكة الحصول على أوراق رسمية أثناء العمل على هذا التحقيق، تؤكد أن هذه الشكوى لم تكن الأولى من نوعها، فوجد أن هناك بعض من الشقق السكنية ظهر بها عيوب خفية، إضافة إلى تصدعات وشقوق، كما وصل الحد إلى وجود انهيار في الجدار الاستنادي لبعض منها.
في ذات العام ينتهي أحد المقاولين من بناء عمارة سكنية في منطقة الجبيهة، ويحاول أن يصوب أنظار الراغبين بشراء الشقق إلى ملامحها الداخلية، فيجود في هندسة الديكورات ووضع مساحيق الطلاء على الجدران، والصدفة هي من جعلت المهندس أيمن حمادات يشتري إحدى الشقق.
يقول حمادات “لم أكن أعلم قبل شراء الشقة، أنه لا بد من البحث عن تفاصيل بنائها، والحصول على استشارة هندسية من قبل أحد المختصين للكشف عن الشقة بكامل تفاصيلها، وفحصها، لقد أكتفيت بالشكل الخارجي للمبنى والشقة، وما شجعنا أكثر هو تعاون صاحب الإسكان بقبول تقسيط المبلغ المتبقي من ثمن الشقة”.
“تمارس الكثير من الحيل الذكية، ويتم استغفال من يبحثون عن منزل أحلامهم، من خلال الإكسسوارات الخارجية للمبان السكنية، والإضاءة المخفية، والديكورات، والمساحات، لكن لا يخطر في بال أحد منهم أن يقوم بفحص المكونات التي تم استخدامها في العمليات الإنشائية، أو أن يستفسر عن مواد البناء التي استخدمت ومكان استيرادها”، كما يقول طارق الهريني أمين عام نقابة المقاولين.
أما المطور العقاري محمود فراش، فيقول: “لو توجهنا لفحص عينات لبية من بعض العمارات السكنية في عمان، سنجد أن هناك خلطات خرسانية غير ناجحة، وأن بعض العمارات السكنية تخلو من الصبات خلف الحجر، قد نجد بعضها يخلو من الباطون، وهذه بعض الأسباب التي تؤدي إلى حدوث تشققات أو رطوبة خلال فصل الشتاء”.
ويشرح حمادات: “أشهر قليلة كانت كفيلة بأن تكشف عن وجود عيوب خفية داخل الشقة السكنية: التشققات الأفقية في أغلب الغرف، ورائحة الرطوبة تنتشر في المكان، حتى وصل الأمر إلى سقوط بعض من اللوائح السيراميك داخل أحد المراحيض”.
ويقول حمادات إنه حاول مرارا الاتصال بصاحب الإسكان، الذي قطع له وعود متكررة بكفالة الشقة حال ظهور أي مشاكل، لكن جميع النداءات باءت بالفشل، حتى أجبر في نهاية المطاف إلى تقديم شكوى رسمية.
بحسب استطلاع أجرته شركة “بلدنق رانك” المتخصصة في فحص المباني والعقارات، تبين أن “أكثر من 60% من مشتري الشقق والعقارات غير راضين عن الشقة، وواجهوا العديد من المشاكل بعد مرور أقل من عام على السكن”، بعضها “غير قابلة للحل، أو تحتاج إلى دفع مبالغ طائلة لإصلاحها”، بحسب مدير عمليات الشركة ثائر المومني.
لكن “مشاكل الشقق السكنية لن تنتهي” بحسب حازم بلعاوي صاحب مكتب هندسي، الذي يقول: “لا يتم تهيئة الظروف المناسبة للبناء، فتبنى العاصمة حاليا بتراكمات خرسانية دون مواصفة، بدءا من حفر الأرض، وعدم معالجة التربة المفككة على سبيل المثال، ومرورا بمراحل العزل الداخلي والخارجي للمبنى، وعزل القواعد، هذه الانعكاسات نراها اليوم، تعود سلبا على المواطن إذ ترتفع فواتير الصيانة الدورية، كذلك الفواتير العلاجية نتيجة الأمراض التنفسية …”.
ويعزي أمين عام نقابة المقاولين طارق الهريني سبب عدم تهيئة ظروف البناء، إلى “لجوء بعض مكاتب الاستشارات الهندسية إلى الاستعانة بفحوص مبان قائمة مجاورة للمبنى المزمع تنفيذه، بدلا من إجراء فحوص جديدة للمباني المنفذة، رغبة في تقليل التكاليف”.
لا تتوقف مراحل بناء العمارات السكنية على المخططات الورقية فحسب، كما يقول أيوب أبو دية صاحب مكتب هندسي منذ أكثر من 40 عاما، ويضيف “تبدأ رحلة الحصول على الموافقات الرسمية بعد موافقة صاحب الإسكان على التصميم الهندسي المعد من قبل أحد المكاتب الهندسية المرخصة والمعتمدة، ثم يتم عمل مخططات ورقية يوضع بداخلها مواصفات البناء، والكودات الهندسية الموافق عليها من كود البناء الوطني، بعد ذلك يتم الشروع بالعمل تحت إشراف مهندس متخصص، وبعد الانتهاء من البناء يتم إصدار شهادة مطابقة يتعهد فيها المكتب الهندسي المشرف بأن البناء قد تم الإشراف عليه وإنجازه وفق المخططات والمواصفات المطلوبة”.
وصل الاحتياج النسوي للوحدات السكنية في الأردن إلى 65 ألف وحدة جديدة أو إحلال بدل من وحدة قديمة بحسب تقديرات، في حين وصل عدد شركات الإسكان العاملة في القطاع إلى نحو 500 شركة.
رئيس جمعية المستثمرين في قطاع الإسكان كمال العواملة، يرى أن مشاكل قطاع الإسكان “محدودة، وأن ما يحدث على أرض الواقع قد يكون خطأ غير مقصود ولا يمكن أن يرتقي إلى ظاهرة”، ويضيف: “قد تحدث مشاكل عديدة تتعلق بتهبيط البلاط، حدوث تشققات داخل الجدران، ظهور الرطوبة، والعفن داخل بعض الغرف، وهذه تحدث نتيجة أخطاء بشرية تتعلق بثقافة تهوية الشقق خلال فصل الشتاء، أو بشكل يومي”.
ويتفق رئيس هيئة المكاتب الهندسية عبدالله غوشة مع حديث العواملة، ويؤكد “وجود سوء مصنعية في بعض الأحيان، ولا يصل إلى مرحلة التلاعب بالمواد المستخدمة في البناء، أو حتى الكميات”، ويوضح: “جميع المواد التي تدخل إلى المملكة يتم فحصها من قبل الجهات الرسمية، فمن الصعوبة بمكان أن يتم إدخال مواد غير مطابقة للمواصفات والمقاييس، إضافة إلى أن نقابة المهندسين تفرض على جميع أصحاب المشاريع القائمة إلى ضرورة وجود مختبر هندسي معتمد، لغايات فحص المواد والتأكد منها”.
لكن أمين عام نقابة المقاولين طارق الهريني، يرى أن “بعض التجاوزات تحدث داخليا من خلال بعض ملاك هذه الإسكانات، فقد يحدث أن توجد كميات كبيرة من الإسمنت منتهي الصلاحية يستخدم خلال مراحل بناء أحد المباني، أو أن يقوموا بالحصول على المواد متدنية الجودة من خلال استيرادها من دول مختلفة، ناهيك عن التمديدات الصحية، والكهربائية متدنية الجودة التي يتم استخدامها في بعض الأحيان”.
وبالنسبة لمدير عمليات شركة “بلدنق رانك” ثائر المومني، فإن “المشكلة تكمن في الانفتاح على استيراد مواد بناء، دون وضع مواصفة مناسبة للسوق الأردني، بدءا من الحديد، والخشب المستخدم وصولا إلى التمديدات الكهربائية … وهنا نفتقد إلى العملية الرقابية فلا يتم متابعة هذه الخطوات بطريقة فعالة من قبل الجهات المسؤولة، فيمارس الغش بالخفاء وبعيدا عن أعين الرقابة”.
عاملون في قطاع الأبنية السكنية تحدثوا عن “وجود سوق سوداء” تدار من قبل بعض العمالة الوافدة، تتولى مهام بناء العمارات السكنية دون مراعاة لأي اشتراطات هندسية أو مواصفات معمارية.
يقول المطور العقاري محمود فراش إن “مقاولين يلجؤون إلى شراء عقود المقاولات مقابل مبالغ مادية بسيطة، من خلال الاتفاق مع بعض المقاولين الحاصلين على الرخص، من أجل إنهاء عمليات الحصول على الأوراق الرسمية، ثم يقوم المقاول غير المرخص باستدراج مقاولين فرعيين من العمالة الوافدة أو سوق العمالة بطريقة عشوائية، لمتابعة تنفيذ أعمال البناء والإشراف عليها”.
“يعمل المقاول الفرعي على تسريع مراحل البناء، واختصار ما يمكن من خطوات، ومواد خلال مراحل البناء”، كما يقول صاحب المكتب الهندسي حازم بلعاوي الذي يضيف: “أصبحنا نشاهد عمارات سكنية تبنى خلال أشهر معدودة دون مراعاة للقواعد الفنية، أو الكودات الهندسية، وهذا ما سينعكس سلبا على جودة هذه المباني، وظهور العيوب الخفية، والتشققات خلال مراحل بسيطة”.
وترفض جمعية المستثمرين في قطاع الإسكان “ظاهرة المقاول الفرعي”، ويبين كمال العواملة أن “مستثمرين يقومون بهذا العمل وليس المقاولين فحسب، وأن هذه التجاوزات قد تؤدي في نهاية المطاف إلى حدوث انهيارات داخل المباني السكنية، أو مشاكل لا يمكن حلها”.
أواخر العام الماضي، قامت لجان التفتيش الرقابية بالكشف عن 1150 مشروعا، لتجد ما يقرب 700 مشروع تحدث بداخله مخالفات عدة، وقد تم تصويب ما يصل إلى 350 مشروع، بحسب أمين سر مجلس البناء الوطني جمال قطيشات، ويضيف “حاليا توجد بعض المشاريع قيد التصوير، وفي بعض الأحيان كانت تبنى بعض المشاريع دون الحصول على تراخيص، وقد تم إيقافها وتحويل أصحابها إلى الادعاء العام، وقد تم معاقبة البعض منهم”.