مرايا –

“صدمة أصابت بعض ذوي طلاب ثانوية عامة في مدينة الكرك، بعد انتشار فيديوهات لأبنائهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي تظهر تعرضهم للضرب، والسباب، والابتزاز، من قبل أحد أصحاب مكاتب الخدمات الطلابية في تركيا أثناء دراستهم هناك قبل سنوات”، على ما يقول أحد وجهاء العشائر في مدينة الكرك لـ”المملكة”.

 

ويضيف: “تلقيت العديد من الاتصالات الهاتفية من أبناء جلدتي لتقديم المساعدة واحتواء خطر فضحهم بشكل علني وبطريقة أوسع، حينها تم التواصل مع مختلف الأطراف، واستدعينا الجهات الرسمية لتقديم شكوى بحق المتضررين، وعشائريا تم اخذ عطوة عشائرية من قبل ذوي الطلاب لحقن الدماء.

 

كانت هذه الفيديوهات الصاخبة نقطة الصفر لفريق قيد التحقيق، للتقصي والسؤال عما يحدث مع طلاب الثانوية العامة بعد وصولهم إلى تركيا، وكيف تدار العملية التعليمية من قبل أصحاب المدارس هناك.

 

التوجيهي يكبل أحلام الطلاب

 

توقفت احلام وسام الغزاوي قبل سنوات بعد فشله في الحصول على شهادة الثانوية العامة، حينها قرر اعتزال التعليم وتوجه برفقة والده إلى افتتاح محال لبيع الملابس في مدينة إربد.

 

لكن رغبته بدراسة تخصص طب الأسنان في إحدى الجامعات الأردنية، جعله يجدد رغبته بالدراسة من جديد، بالتزامن كان أصدقاء له سبق لهم الدراسة في تركيا يرون حكايا أمامه عن سهولة الدراسة هناك، وقدرته على الحصول على شهادة ثانوية عامة من إحدى المدارس الدولية بسهولة ويسر، لكن المقابل دفع مبالغ طائلة لمناديب الدراسة.

 

خلال أشهر كان وسام قد استطاع التسجيل داخل إحدى المدارس الدولية في تركيا، لكن لظروف عائلية قاهرة أجبر على الرجوع لذويه و استنكاف الدراسة.

 

لم يكن الغزاوي وحده من يعاني، فخلال عملنا على هذا التحقيق التقينا بعشرات من طلبة الثانوية العامة، وجلهم كانت لديهم رواية واحدة، أن أحلامهم توقفت بعد فشلهم في حصولهم على شهادة الثانوية العامة، حتى قرروا الهجرة للحصول على الشهادة.

 

“قبل 12 عاما كانت دراسة الثانوية العامة تسير وفق خطوط يسيرة، لم يكن الطلبة يواجهون صعوبات خلال مراحل تقديم الامتحانات وما قبلها، لكن مع التغييرات الوزارية التي حدثت لوزارة التربية والتعليم بالعمل على تجويد العملية التعليمية، أصبح الطلبة يواجهون الكثير من المعوقات للحصول على شهادة الثانوية العامة، أو الحصول على معدلات مرتفعة، ومن هنا جاءت ظاهرة دراسة الثانوية العامة في دول غير الأردن”، كما يؤكد رئيس لجنة التربية والتعليم والثقافة النيابية سابقا إبراهيم البدور.

 

غياب العدالة التعليمية، والمنهجية المنطقية كان سببا في هروب الطلبة الأردنيين من دراسة الثانوية العامة في الأردن، على ما يقول الخبير التربوي ذوقان عبيدات ويضيف:” يجب أن تتوقف المهازل التي تحدث بين حين وآخر من قبل واضعي الأسئلة في وزارة التربية والتعليم، فليس من المنطقي أن توضع اسئلة خاطئة في امتحان الثانوية العامة، أو أن يحمل السؤال أوجه إجابات غامضة لا يستطيع الطالب فهم سياقه، أو الاجابة بطريقة صحيحة عليه، وهذا ما دفع بالطلبة في نهاية المطاف للسفر للدراسة في تركيا.

 

“تقسم أنواع المدارس في تركيا إلى أقسام مختلفة، منها المدارس العربية التي تسجل خارج بلدها الأصلي منها اليمنية، العراقية، الليبية، أيضا هناك المدارس التركية وهي تتنوع ما بين حكومية وخاصة، وهي تقدم التعليم بغير اللغة التركية الإنجليزية منها، والعربية”، وهذا النوع كان يحتضن أغلب طلبتنا الأردنيين” على ما تقوله رئيس قسم معادلة الشهادات الأجنبية في وزارة التربية والتعليم وضحة موسى.

 

مكاتب غير مرخصة تستغل الطلبة وذويهم

 

بعد عودة كريم ” اسم مستعار” من الدراسة في تركيا، تواصل معه أحد المكاتب غير المرخصة لتقديم الخدمات الطلابية في عمان بقصد استدراجه للعمل معهم على إقناع الطلبة في دراسة الثانوية العامة في تركيا مقابل حصوله على عمولة.

 

عمل كريم برفقة المكتب لأشهر كثيرة، لكن بعد أن تسلل له أن أصحاب المكاتب يقومون بابتزاز ذوي الطلبة في عمان بطرق التفافية قرر التوقف عن العمل، يقول كريم:” يبدأ استغلال الطلبة منذ لحظة وصولهم إلى تركيا، وتتم مضاعفة الأجور عليهم، منها السكن، والإقامة، والأوراق الرسمية، كذلك يصل بهم الأمر إلى رفع الأقساط المدرسية دون سابق إنذار، وحينها لا يملك الطالب خيار إلا الدفع لهم.

 

بعد وصول الطلبة إلى تركيا يمحو الليل ما كتب النهار على ما قاله لنا نادر ” اسم مستعار”، ويضيف “دبر حالك” هذه أكثر جملة تسمعها من أصحاب المكاتب والمناديب في تركيا، بعض الطلبة تركوا في العراء لأيام حتى استطاعوا ان يؤمنوا سكن لهم بعد أن تخلى عنهم المسؤولين هناك، ونقضوا العهد مع ذويه بتأمينه بسكن ومواصلات.

 

لكن وفق المدير العام لمكتب الاتحاد لتقديم الخدمات الطلابية ناصر خريسات، فان دورهم يقتصر على الحصول على أوراق الطلبة سواء أكانت ثانوية عامة، او بكالوريوس، او ماجستير، وإرساله إلى الدولة التي يرغب الطالب بالالتحاق بها، ويتم هناك تسجيله بالمدرسة أو الجامعة، وبحسب الشروط المطلوبة.

 

خلف الأبواب المغلقة يجرى الاتفاق مع ذوي الطلبة ما قبل السفر إلى تركيا، ويتعهد أصحاب المكاتب غير المرخصة لهذه الغاية بالوقوف إلى جانب الطلاب وتأمين كل احتياجاتهم حتى لحظة عودتهم إلى عمان، كذلك يتم الأتفاق بحسب بعض الروايات التي حصلنا عليها من الطلبة على معدلاتهم، وفي حال رغبتهم الحصول على معدلات مرتفعة، يشترط دفع مبالغ طائلة تصل إلى 10 آلاف دولار.

 

وما ما كان لافتا في هذا التحقيق، حصول فريق قيد التحقيق على عشرات الشهادات قيد المعادلة التي تعود لطلبة أردنيين عائدين من مدارس في تركيا، وما كان خطيرا أن جميعهم حصلوا على علامات مرتفعة لا تقل عن 90%.

 

مضاربات وسوق سوداء تدار من خلالها علامات الطلبة كما يروي الطالب وسام الغزاوي، ويقول:” تواصلت مع 3 مناديب للحصول على معدل 93، الأول طلب مني خمسة آلاف دينار، والثاني 4500 دينار، إلى أن استطعت الوصول الى المندوب الثالث وتم الاتفاق معه على مبلغ ثلاث الاف دينار.

 

“شو بتدفعي شو بتاخدي” يقول مندوب تسجيل طلاب ثانوية عامة في تركيا سابقا محمد السعدي، بعد أن عمل لسنوات مع أصحاب مكاتب، ومدارس خاصة ودولية في تركيا، ويضيف” في بعض الأحيان يصل سعر العلامة إلى 100-200$، فلا حدود واضحة لتوقف أصحاب المدارس عن التلاعب في علامات الطلبة حتى بعد وصولهم إلى عمان، ورغبتهم برفع المعدل.

 

” تجارة مربحة، واستثمار داخلي، وخارجي” هكذا وصف رئيس لجنة التربية والتعليم والثقافة النيابية سابقا إبراهيم البدور دراسة الطلبة في تركيا وحصولهم على معدلات مرتفعة، ويضيف” من يقوم بهكذا فعل لا يهتم لأي بلد، أو تعليم، أو دراسة، همه الأوحد أن يجمع الأموال فحسب، فالعملية الرقابية هناك غير مجدية، على عكس ما يحدث في الأردن، هنا توضع مناهج تعليمية واضحة، ويتم التدقيق على دوام الطلبة من عدمه، وفي نهاية المطاف ما يزرعه الطالب يحصده من معدل”.

 

تقول رئيس قسم معادلة الشهادات الأجنبية في وزارة التربية والتعليم وضحة موسى:” لم تعطي وزارة التربية والتعليم، ولن تعطي أي مكتب لتقديم الخدمات الطلابية رخصة لمزاولة هذه الأعمال، فعمل هذه المكاتب ينحصر في تسهيل خروج الطلاب لدراسة الجامعات في الخارجة، لكن ليس بغرض إرسال الطلاب لدراسة الثانوية العامة وغيرها من الصفوف.

 

دراسة مع وقف التنفيذ

 

بعد وصول بعض الطلبة إلى تركيا يعطى خيار الدراسة من عدمه له، فبعضهم يذهب بزيارات محدودة إلى المدرسة، وإذا أرادوا للعلم سبيل يمكنهم تعلم اللغة التركية من خلال مكاتب خاصة، وذلك وفق شهادات الطلبة الذين التقينا بهم أثناء العمل على هذا التحقيق.

 

يقول مندوب تسجيل طلاب ثانوية عامة في تركيا سابقا محمد السعدي:” الطالب في تركيا يبقى في منزله أغلب الأوقات ويتناول الطعام والشراب، وفي حال رغبته بالذهاب إلى المدرسة في وقت الامتحان يمكنه ذلك، أو يعطى خيار إضافي بأن يقوم شخص آخر بالإجابة عن أسئلة الامتحان بدلا منه.

 

حالة من الصدمة أصابت الطالب محمد الربيعي بعد وصوله للدراسة في تركيا، فكان المعتقد السائد في نفسه أنه سيذهب الى مدرسة مشابهة لمدرسته في عمان، لكنه وجد أمامه بعض القاعات المغلقة داخل مجمع كبير، يقول الربيعي:” لا ترتقي جودة التعليم في بعض المدارس في تركيا للحد الأدنى من أسس التعليم لدينا، فتغيب المتابعة والرقابة والمسؤولين هناك، أذكر أن الكثير من الطلبة الذين التقيت بهم لم يصلوا إلى المدرسة، ولم يحصلوا على أي منهج، أو معرفة، أثناء وجودهم هناك.

 

خيارات عدة أعطيت للطالب القاسم الخالدي وشقيقه التوأم من قبل أحد المناديب في تركيا حال رغبته في الذهاب الى المدرسة بشكل يومي، يقول الخالدي:” منذ اليوم الأول قال لنا المندوب ان قرار الدوام في المدرسة يعود لنا، فالدراسة هي “تحصيل حاصل”، بنهاية المطاف سيحصل جميعكم على شهادة ثانوية عامة معادلة بالمعدل المتفق عليه دون عناء الدراسة، لكنه وفق ما أكد لفريق قيد التحقيق أنه دأب على الذهاب الى المدرسة بشكل يومي.

 

يستذكر البدور لقاءات عدة عقدها مع الطلبة العائدين من تركيا للتأكد من حصولهم على المعرفة، لكن ما كان واضحا له أن بعضهم لم يحصلوا على أي تعليم هناك، يقول البدور:” بعض الطلبة الذين التقيت بهم لا اعتقد أنهم ذهبوا إلى أي مدرسة هناك، أو حصلوا على منهاج تعليمي، وهذا ما قاله لي بعضهم أيضا، فلم يعرفوا لطريق العلم سبيل، فدراستهم كانت مع وقف التنفيذ.

 

ما يؤكد شكوك البدور ما قالته رئيس قسم معادلة الشهادات الأجنبية في وزارة التربية والتعليم وضحة موسى حول الطلاب العائدين من تركيا:” بعد مراجعة الطلبة لنا شعرنا من خلال بعض الاسئلة الموجه لهم إنهم لم يحصلوا على الحد الأدنى من التعليم، فمعلوماتهم، وقدراتهم المعرفية ضعيفة جدا، وذلك يمكن كشفه بكل بساطة من قبل أي شخص، فالطالب يتوه بين أوراقه ولا يميز بين الشهادات، وهذا ما دفع الوزارة إلى تجديد المعايير ووضع أسس أكثر شدة للحد من ظاهرة إقبال الطلبة على الدراسة في تركيا.

 

خلال العمل على هذا التحقيق استطاع فريق قيد التحقيق الحصول على معلومات سرية، تفيد بأن السفارة الأردنية في أنقرة أرسلت كتب رسمية إلى وزارة التربية والتعليم تتحدث عن بعض المدارس هناك بأنها لا ترقى الى الحد الأدنى من التعليم وجودته، وتعاني من ضعف الرقابة من قبل الجهات التركية، بالاضافة إلى أن ملاك هذه المدارس يحملون جنسيات عربية، أو أردنية.

 

ماذا يجري خلف الجدران في تركيا!

 

الآلاف من الطلبة الأردنيين حصلوا على شهادات ثانوية عامة تركية على مدار السنوات الماضية معظمها كانت صادرة عن مدارس عربية، أو تركية خاصة، ولا يوجد رقم محدد من قبل الجهات الرسمية لهم، هنا قام فريق قيد التحقيق بالسفر الى تركيا للتأكد من مجريات التعليم وإعطاء حق الرد للجهات الرسمية حول إعطاء شهادات دراسية بغير استحقاق.

 

يقول رئيس جمعية المدارس الدولية في تركيا ياسر مسعود:” سارت العملية الرقابية على المدارس في تركيا في مراحل عدة، ما قبل عام 2017 كان هناك الكثير من المدارس خاصة من الجاليات السورية التي تواجدت في هذا الوقت، وكانت تعمل للاسف بلا رخصة وليس بلا رقابة، لكن بعد عام تنبهت وزارة التربية والتعليم التركية وأوقفت هذه المدارس واشترطت عدد كبير من الإجراءات لك يستطيع الشخص أن يفتح مدرسة بطريقة نظامية، ثم عام 2020-2021 وبالتزامن مع جائحة فيروس كورونا تم افتتاح عدد كبير من المدارس وهو ما أعاق وصول الجهات الرقابية لها، بالتزامن مع صعوبة تحدث المفتشين باللغة العربية.

 

إجراءات صارمة تقوم بها وزارة التعليم في تركيا للحد من التلاعب في الشهادات الدراسية وفق ما قاله مدير عام المؤسسات التعليمية الخاصة فتح الله غونر، ويضيف: قبل البدء بخطوات افتتاح المدارس الدولية لدينا نطلب منها تقديم تعهد خطي بتدريس مناهجها، وبهذا نكون قد حفظنا حقوق الطلاب بحصولهم على “شهادة المعادلة” من دولتهم بعد تخرجهم من هذه المدارس، كذلك نحن نطلب منهم كفاءة الوسط المحيط بالمدرسة، من مدرسين، وبنية تحتية مشابهة لمدارسنا وهي يشهد لها بالكفاءة والجودة، كذلك الفرق الرقابية لنا تعمد على زيارة المدارس بشكل دوري.

 

هنا جاءت الروايات متضاربة مع ما قاله لنا الطلبة، اذ أكد لنا بعضهم أن زيارات اللجان التعليمية تسير وفق أوقات مخطط لها، فيطلب من الطلبة الحضور إلى المدرسة قبل موعد قدومهم بساعات.

 

يستذكر الطالب كريم ” اسم مستعار”، أحد المواقف لنا فيما يتعلق بزيارة اللجان، أنه قام أحد المندوبين في يوما ما بارسال رسالة للطلبة عبر تطبيق الواتسآب بأنه يتوجب الذهاب الى المدرسة بأسرع وقت، ومن يمتنع عن ذلك سيحرم من الحصول على الشهادة، وبعد وصولهم تبين أن فريق من وزارة التعليم التركي كان قد وصل في زيارة للمدرسة لتفقد أوضاعها.

 

يعمل بعض مُسوق المقاعد الدراسية في تركيا بطرق التفافية، وفق شهادات من التقينا بهم، حتى وصل الأمر بالسلطات الرسمية التعليمية إلى إجراء تحقيق موسع حول آليات حصول الطلبة الأردنيين على شهادة الثانوية العامة وفق ما قاله لنا رئيس جمعية المدارس الدولية في تركيا ياسر مسعود.

 

ويضيف مسعود:” قبل عامين اكتشفت السلطات الرسمية في الأردن بعض التجاوزات في شهادات طلابها، وعلى أثره قامت بمخاطبة الحكومة التركية، وهي بدورها عمدت على إجراء تفتيش موسع تناول أكثر من 150 مدرسة ممن يدرس بها الطلبة الأردنيين، وفعليا وجدوا هناك مخالفات في بعض المدارس، لكن لم يعلن عن نتائج التحقيق بشكل كلي إلى هذه اللحظة.

 

بينما ينشر هذا التحقيق، ما يزال بعض أصحاب مكاتب الخدمات الطلابية يغشون الأهالي بحكايا وأوهام، وقصص نجاح سابقة في دول مجاورة لطلبة حصلوا على معدلات مرتفعة، بينما ما يزال قرار استثناء بعض الدول معلقا لدى الجهات الرسمية، بعد أن غُلقت الأبواب على الدارسين في تركيا.