مرايا – لم يكن المشهد طبيعاً، طيلة يوم الأحد في العاصمة السودانية الخرطوم، وعدد من المدن الأخرى، التي خرج فيها محتجون ضد زيادة أسعار الخبز والسكر وغيره من السلع الضرورية، فيما تجاوزت شعاراتهم حدود تلك الزيادات إلى المطالبة بإسقاط الحكومة. ومنذ نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، عمّ سخط شعبي الشارع السوداني، حينما كشفت الحكومة عن مؤشرات الموازنة الجديدة لعام 2018، والتي احتوت على بنود بزيادة الرسوم والضرائب في قطاعات مختلفة وزيادة تعرفة الكهرباء للقطاع الصناعي بنسبة 30 في المائة. لكن البند الذي كان له التأثير الأكبر يتعلق ببند رفع سعر الدولار الجمركي المتحكم في كُلفة استيراد السلع، من 6 جنيهات لـ18 جنيهاً، وهذا البند تحديداً ما قاد إلى موجة صعود كبيرة في أسعار مختلف السلع الضرورية.
بناءً على ذلك، ارتفع سعر الخبز (الذي يعتمد عليه السودانيون في غذائهم خاصة في المدن)، إلى جنيه للقطعة الواحدة بزيادة بلغت مائة في المائة. وسبق ارتفاع سعر الخبز، ازدياد مماثل في أسعار سلع أخرى ضرورية، فقد وصل سعر كيلوغرام السكر إلى 18 جنيهاً بعدما كان قبل أشهر سعره 9 جنيهات فقط. كما ارتفع كيلوغرام الدقيق من 7 إلى 15 جنيهاً، ولتر الزيت من 25 إلى 35 جنيهاً. أما الألبان فقد ارتفع سعر الكيلوغرامين من الحليب المجفف من 250 إلى 400 جنيه.
وقابل السودانيون، خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي، تلك الزيادات بحالة من الرفض والسخرية والغضب، لتحاول بعد ذلك أحزاب المعارضة الاستثمار في الرأي العام المناهض للحكومة، بتبنيها بيانات تدعو أنصارها خاصة، والمواطنين عموماً، للخروج إلى الشارع والتنديد بالموزانة، في حين حددت سقفاً لآمالها بإسقاط النظام. وكان لافتاً صدور بيان في هذا الاتجاه من حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، وهو حزب ظل في حالة هدنة مع الحكومة رغم اصطفافه في صف المعارضة. لكن صدور بيانات عنيفة كان أمراً طبيعياً بالنسبة لأحزاب أخرى معارضة مثل الحزب الشيوعي وحزب المؤتمر السوداني والبعث السوداني وغيرها.
غير أن السلطات الحكومية، استبقت استجابة المواطنين للدعوات الحزبية باعتقال رئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، وأمين أمانة حقوق الإنسان جلال مصطفى. كما أنها صادرت يوم الأحد نفسه 5 صحف سياسية وصحيفتين إضافيتين يوم الاثنين. وعلى الرغم من أنها لم تقدم تفسيراً للخطوة، إلا أنه يُرجح أن تكون تغطيتها الصحافية لموضوع زيادة الأسعار هو السبب، وهذا ما يرفضه خالد فتحي، مدير تحرير صحيفة التيار إحدى الصحف التي تعرضت للمصادرة، والذي فسر في حديث لـ”العربي الجديد” خطوة الحكومة بأنها “نابعة من الخوف من تكرار احتجاجات سبتمبر/ ايلول 2013″، وفيها لقي حوالي 85 شخصاً مصرعهم حسب الإحصاءات الحكومية، وأكثر من 200 شخص حسب ما تقول المعارضة.
اللافت أن تظاهرات اليومين الماضيين، بدأت بعيداً عن الخرطوم، وتحديداً في مدينة سنار، وأسفرت عن اعتقال نحو ثمانية طلاب جرى إطلاق سراحهم لاحقاً، بعد أن قيدت بلاغات ضدهم بتهمة إثارة الشغب. ويبدو أن المدينة حفزت في اليوم التالي مدناً أخرى مثل نيالا (غرب) والدمازين (شرق)، في حين صمتت الخرطوم العاصمة حتى عصر يوم الاثنين ليحاول طلاب جامعة الخرطوم، أعرق الجامعات السودانية، الخروج إلى شوارع المدينة قبل أن تمنعهم الشرطة بعد استخدامها للغاز المسيل للدموع، وهذا ما تعاملت به في كآفة المدن التي شهدت احتجاجات من دون وقوع ضحايا، باستثناء مدينة الجنينة، إحدى مدن إقليم دارفور، حيث أصيب 4 طلاب مدراس ثانوية إصابات متفاوتة بينما لقي طالب خامس حتفه برصاص مجهول تنصلت الحكومة من مسؤوليته.
وخلال يوم الاثنين، بدت المدن السودانية هادئة ولم يرد ما يفيد باحتجاجات جديدة، في الوقت الذي أقدمت فيه السلطات السودانية على مصادرة صحيفتي الجريدة المستقلة والبعث الموالية لحزب البعث السوداني.
وتضع الحكومة السودانية وسيلتين حسب تصريحات مسؤوليها للتعامل مع الواقع بشكله الكلي: الوسيلة الأولى، عبّر عنها وزير التجارة، حاتم السر، في تصريح صحافي تعهد خلاله بتدخل الحكومة للحد مما سماه “فوضى السوق” أو فوضى ارتفاع الأسعار، مشيراً إلى أن سماسرة ووسطاء يستغلون الموقف الحالي لمضاعفة أسعار السلع. ولم يفوّت الوزير الفرصة باتهام أحزاب المعارضة باستغلال الموقف لخدمة أجندتها السياسية، فيما مضى، أحمد سعد عمر، وزير رئاسة مجلس الوزراء، في اتجاه آخر بدعوته للمعارضة للجلوس مع الحكومة لتقديم مقترحات لحلول اقتصادية، وهذا أمر كثيراً ما رفضته المعارضة. أما وزير الدولة بالداخلية، بابكر دقنة، فقد لوح بدوره بالوسيلة الثانية الأمنية، حينما قال في تصريح إن الشرطة ستتعامل بالقمع مع التخريب، قبل أن يستدرك بقوله: “لا مانع من التعبير السلمي لأنه حق”.
وعلى صعيد حزب المؤتمر الوطني الحاكم، فإنه قلل كثيراً مما حدث ومن دعوات الأحزاب السياسية لإسقاط النظام. واعتبر أن تلك الأحزاب “تفتقد للقدرة على صنع الفعل وتنتظر فقط ردة فعل”، على حد تعبير أمين التعبئة السياسية في الحزب عمار باشري، في حديث لـ”العربي الجديد”، على قاعدة أن تلك الأحزاب “لا تستطيع غير تعبئة أعضائها”. وينفي باشري تعامل الحكومة بعنف مع التظاهرات، جازماً بأن كل أفعالها “تأتي وفق الدستور والقانون وتتخذ سياسة ضبط نفس كبيرة”.
في المقابل، لا تجد تصريحات الحزب الحاكم القبول في أوساط المعارضة التي ترى أنها ماضية في هدفها لإسقاط النظام مهما كان الثمن. ويرى العضو القيادي في حزب المؤتمر السوداني، قرشي عبد الحميد في حديث لـ”العربي الجديد”، أن الحراك الجماهيري ماض حتى النهاية وأن الاعتقالات والمصادرة لن تحل أزمات النظام، ولن تخفف من الضغط الجماهيري الناقم على الفشل في إدارة الدولة وتوفير احتياجات المواطن.
وما بين الصوت الحكومي والصوت المعارض، تخرج أصوات مراقبة في منطقة وسطى، ترى أمرين: أولاً، عدم التقليل من الحراك الجماهيري، كما تفعل الحكومة، ولا تضخيمه، كما تفعل المعارضة. ومن أولئك يقول الخبير في العلوم السياسية، البروفسور عبد اللطيف البوني، إن احتمال تمدد الاحتجاجات مرجح، لأن القرارات الاقتصادية الأخيرة “مست عصب معيشة المواطن”. ويتوقع البوني أن تكون النتيجة النهائية إجبار الحكومة على تغيير سياساتها الاقتصادية، مستنكراً فكرة تضخيم ذلك الحراك وتصويره كأنه سيتمكن من إسقاط الحكومة كما تردد أحزاب المعارضة. ويختم البوني حديثه لـ”العربي الجديد” بالإشارة إلى أن كتلة كبيرة من الشعب السوداني تعارض السياسات الحكومية، “لكنها غير راغبة في التغيير الجذري خوفاً من المستقبل الذي تراه أخطر من الحكومة الحالية”.