مرايا – يمتلك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كل الحظوظ للفوز في الانتخابات القادمة. وهو يحكم، من قلعته في موسكو، التي يفضّلها على هدوء محلّ إقامته في منتجع سوتشي على ضفة البحر الأسود. وهو ما يعتبر في حد ذاته، “ثورة صغيرة” على البروتوكولات الرئاسية، كما تقول مجلة “لوفيغارو” الفرنسية.
في شهر مايو/أيار 2000، قام رئيس الفدرالية الروسية بأول مخالفة للقواعد البروتوكولية. إذ خلافًا لسابقه، بوريس يلتسين، قرر أن تكون احتفالات تنصيبه في القصر الكبير في الكرملين، وليس في قصر الدولة.
“إنها لعبة رموز”، تكتب الصحيفة؛ فإذا كان قصر الدولة، الذي ترفعه قوائم من المرمر على الطريقة السوفييتية، والذي تم تشييده في حكم الرئيس نيكيتا خروتشوف، سنة 1961، محلاّ لانعقاد مؤتمرات الحزب الشيوعي، فإن القصر الأول؛ قصر الكرملين الكبير، الذي تم تدشينه سنة 1838، في ظل حكم نيكولا الأول، كان يشهد حفلات تنصيب القياصرة.
في منتصف نهار هذا اليوم، من سنة 2000، ومع أول دقة للساعة، اجتاز الرئيس السابق للأجهزة السرية الروسية جدران الكرملين عبر باب سباسكي، المُقابِل لكاتدرائية القديس باسيل، وعبرَ قاعتي القديس جورج والقديس ألكسندر، على إيقاع موسيقى تشايكوفسكي (مسيرة التتويج الرسمية)، قبل أن يلتحق بمنصة قاعة القديس أندريه. وهنا ألقى بوتين، الذي ينحدر من مدينة سان بطرسبرغ، حيث كان مركز حكم القياصرة من بطرس الأكبر إلى نيقولا الثاني، خطابَه الذي قال فيه: “نحن مجتمعون هنا، اليوم، في هذا المكان المقدس بالنسبة لشعبنا. إذ هنا توجد ذاكرتُنا الوطنية، وداخل جدران الكرملين اكتمل، خلال قرون، تاريخُ بلدنا”.
ويحرص الرئيس بوتين، حين يكون في مكتب العمل بالكرملين، وأمام كاميرا التلفزيون الرسمي، على أن يبدو لامبالياً أمام الديكور. ويكشف أنّ الكرسيّ “لا يضغط عليه”، كما أنه لا ينظر من خلال النوافذ التي تطلّ على الساحات، مُبرِّراً الأمرَ بأنه لا يترك الأشياء، التي لا يعتبرها مُهمّةً، تشغله. فخامة الدولة تتجسد من خلال الكرملين، الذي يمنح للمكان رمزيته الأصليّة. أما “خادمها”، بوتين، فيفضّل الرزانة.
وبعد مرور 18 سنة، وعشيّة الولاية الرابعة لفلاديمير بوتين، فإن رموز وشعارات السلطة لم تتغير، ولكنّ مكان ممارسة السلطة انتقل إلى مكان آخَر وتوزَّعَ. وقد توجَّبَ، من الآن فصاعدًا، قطع ساعتين بالطائرة، في اتجاه الجنوب، من أجل اكتشافه. وما إن يصل المرء إلى عين المكان، فإن عليه تتبع طريق تلتفّ على طول سياج مصفح بكاميرات، قبل أن تصل إلى حاجز. وخلف الحاجز يمكن رؤية بنايات المُركَّب السكني الواسع، وبعيدًا، وعبر نباته الزاخر، يشعّ ماءُ البحر الأسود.
ذاك المكان لا يقل في أهميته الاستراتيجية عن المركز الحسّاس في العاصمة الروسية، واسمه بوتشاروف روتشيه، على اسم العَيْن التي تجري على مقربة منه. هناك إحدى إقامات الرئيس بوتين الرسمية الثلاث، الواقعة في سوتشي، المدينة التي شهدت الألعاب الأولمبية لشتاء 2014.
ونظرًا لسحر المكان، وأيضًا الأذواق الشخصية للرئيس، فإن بوتشاروف روشيه يفرض نفسَه باعتبارها المكان المفضل لديه، والذي قضى فيه 66 يوماً بالتمام سنة 2017؛ أي أكثر من شهرين. وإذا أضيف إلى هذا المكان، الوقت الذي يقضيه الرئيس في إقامته الثانية؛ نوفو أوغاريفو، التي تقع في ضاحية موسكو الراقية، فإنّ قصر الكرملين سيبدو شاحبًا في الجغرافيا الجديدة للسلطة الروسية، التي أصبحت مقتصرةً، من الآن فصاعدًا، على المراسيم الرسمية.
وفي قاعة سان-أندريه الباذخة والمزهوّة بالطلاء الذهبي، وفي نفس المكان الذي تمّ تنصيبه فيه 2000، استقبل بوتين، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الملك سلمان بن عبد العزيز، في أول زيارة لملك سعودي إلى روسيا. وفي العام الماضي، تمّ توشيح شخصيات مدنية روسية في قاعة كاترين، بينما يختار الرئيس قاعة سان-جورج لتوجيه الخطاب السنوي إلى الأمّة الروسية.
ويفسّر ديميتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئيس بوتين، تنقلات الرئيس بين هذه الأمكنة، بالقول: “في الكرملين توجد متاحف وكاتدرائيات مفتوحة أمام الجمهور. وهنا، أيضًا، تشتغل مجموعة من المستشارين، ومن الأقسام التقنية. ولكن بفضل وسائل الاتصال الحديثة، فإن الرئيس لا يميّز بين نوفو-أوغاريفو والقرم وسوتشي. العمل يتمّ على مستوى عال، وبطريقة مشابهة، في أي نقطة في البلد”.
وخلال فترة طويلة، ساد غموضٌ حول موقع بوتشاروف روتشوي، وحول سيد المكان، بوتين. إذ قضى فيه، خلال ولايتيه الأوليين، كل فصول الصيف تقريبًا، دون أن يتسرّب خبرٌ في الصحافة. وهناك استقبل بوتين الرئيسين الأميركيين الأسبقين، جورج بوش الأب والابن، ما بين سنتي 2003 و2008، بينما استقبل خلفهما باراك أوباما سنة 2009 في نوفو-أوغاريفو. وتُظهِرُ صُوَرٌ معروضة في متحف المدينة، ابتسامات فلاديمير بوتين العريضة، وهو برفقة الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، والمستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر.
وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قام بشار الأسد، بزيارة سرية إلى سوتشي، من أجل توجيه الشكر لمضيفه على دعمه العسكري في سورية. وفي الأسبوع الماضي، اضطُرّ الرئيس بوتين، حسب الرواية الرسمية، إلى إلغاء إقامته في سوتشي بعد حادث سقوط الطائرة الروسية، الذي تسبب في مقتل 71 شخصًا، وهو ما اضطره إلى أن يستقبل في العاصمة، يوم 12 أكتوبر/تشرين، الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بعد أن كان منتظَرا في بوتشاروف روتشيه.
وترى المجلة الفرنسية أن الرئيس الروسي يفضّل شمس البحر الأسود على جوّ موسكو الرمادي، وهو ما يدفعه إلى التواجد على شاطئ البحر الأسود، في فصل الربيع وفي نهاية الصيف.
وفي شهر مايو/أيار 2017، حطّمت إقامة بوتشاروف روتشيه رقمًا قياسيًا من حيث تردد الرئيس عليها. فقد أقام الرئيس فيها من 30 إبريل/نيسان إلى 3 مايو/أيار، قبل أن يعود إليها يومي 10 و11 مايو/أيار، وأخيرًا ما بين 16 و22 مايو/أيار، حيث استقبل رئيس الحكومة الإيطالي، أنجلينو ألفانو، وفي شهر يونيو/حزيران، استقبل ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة.
وحتى لا يمنح هذا الأمرُ للروس الانطباعَ بأن الرئيس بوتين في عطلة، لا تتوقف التلفزيونات، خلال هذه الأيام، عن بثّ لقاءات، يتم تصويرها مسبقًا وبعيدًا عن سوتشي، تجمع الرئيس مع حُكّام مناطق.
وتنقل المجلة الفرنسية عن مديرة متحف التاريخ في المدينة، ألاَّ كوسيفا، أن بوتين يسير على خطى سابقَيْه الشهيرَيْن، نيقولا الثاني وجوزيف ستالين. فالأول أسس مدينة سوتشي وأمر التجار الأثرياء وعائلات النبلاء بشراء الأراضي والاستثمار في عين المكان، على الرغم من أنه لم تطأها قدَماه؛ بينما أمر الثاني بتشييد “داتشا” (بيتًا ريفيًا) سريّة له، على مرتفعاتها، كما أمر، أيضًا، ببناء “مدينة سعيدة” مُخصَّصة لاستراحة العمال، وكان يزروها، باستمرار، وفيها ألّف كتبه المختصرة حول التاريخ، واتخذ فيها قرارات استراتيجية أثناء الحرب العالمية الثانية.
وفي هذه المدينة، التي يقطنها 500 ألف شخص، يكاد لا يفطن أحدٌ لحضور بوتين. ولا يُرى سوى الرئيس السابق للاستخبارات، ميكائيل فرادروف، أو رئيس الإدارة الرئاسية، سيرغوي كيريينكو. ولا يرى المواطنون سببًا لإزعاج الرئيس، الذين يشاهدونه في التلفزيون. وبينما تُعبّر مواطنة عن سعادتها لغياب “الهوليغانز”، تعترف أخرى أن “الناس تأتي بأعداد كبيرة، وأحيانًا، من مكان بعيد، لنقل رسالة إلى فلاديمير بوتين”.
ويعزو سكرتير بوتين للصحافة، دمتري بيسكوف، السر في نفور الرئيس من العاصمة إلى “مشاكل الزحام”، فيما يرى مدير راديو “صدى موسكو”، أليكسي فينيديكتوف، أن “بوتين، رجل سان بيترسبورغ، لا يحب موسكو”، وهو في هذا “يشبه بيير الأكبر”، إذ إن “سان بيترسبورع تنتمي لأراضي الشمال الباردة، والقيصر الجديد اختار سوتشي، في الجنوب”، ويضيف: “إن موسكو مدينة المعارَضة، وبوتين يتصور أنها معادية له، وممتلئة بأعداء محتملين”.
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس لم يحصل في موسكو سوى على 47 في المائة، من الأصوات سنة 2012، بعد أن واجه، قبل أشهر، مئات الآلاف من المعارضين. بينما حصل على 63 في المائة في سوتشي.
وتختم المجلة اليمينية الفرنسية، التي غالبًا ما تبدو مواقفها من القيادة والسياسة الروسيتَين متسامحة، على غرار مواقف اليمين الفرنسي، المتطرف والكلاسكي، من روسيا، أن هذه الأخيرة مدينة “غير سياسية”، كما أن مستوى العيش فيها مرتفع، وبالتالي فهي تجذب الاستثمارات، وهو ما يجعلها خالية من الاحتجاج، كما يقول مسؤول محليّ في المعارضة، التي لا يَخفى على أحد ضعفها المزمن وتشتّتها. العربي الجديد