مرايا – بصرف النظر عن رمزيّة الدوافع والأسباب الشخصيّة التي وقفَت وراء امتناع رئيس الوزراء اللبنانيّ المكلَّف سعد الحريري عن مصافحة السفير السوريّ في بيروت علي عبد الكريم علي أثناء حفل الاستقبال الذي أُقيم نهار أوّل من أمس الخميس في قصر بعبدا بمناسبة الذكرى السنويّة الخامسة والسبعين لعيد الاستقلال، على غرار ما فعلَه العام الماضي عندما انسحَب للحظاتٍ معدودةٍ من صفّ تقبُّل التهاني ريثما يمرّ السفير والوفد المرافِق له قبل أن يعود مجدَّدًا إلى مكانه، فإنّ طبيعة التطوُّرات والمواقف المتسارعة في الآونة الأخيرة حيال واقع الحال المستجدّ على الساحة السوريّة، سواءٌ من حيث حسم مسألة بقاء الرئيس بشّار الأسد في منصبه، ولو إلى حينٍ، أم من حيث ظهور المؤشِّرات تِباعًا على بدء مرحلة قبول الأسرة الدوليّة بهذا الأمر الواقع، ولو على مضضٍ، كان يُفترَض أن تكون كافيةً لكي يقرأها المتوجِّسون منها في لبنان بتمعُّنٍ شديدٍ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، حتّى ولو تمَّ ذلك في أسوأ الحالات والظروف على قاعدةِ “مُكرَهٌ أخاكَ لا بطَل”، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ تكاثُر التحدّيات الأمنيّة والاقتصاديّة والديموغرافيّة الناجمة عن استمرار وجود ما يزيد عن مليونٍ ونصفِ المليونِ نازحٍ سوريٍّ في مختلف المناطق اللبنانيّة، للسنة السابعة على التوالي، باتت تستوجب الإسراع في فتح قنواتِ اتّصالٍ رسميّةٍ بين بيروت ودمشق من أجل إعادتهم إلى ديارهم سالمين وآمنين، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقَّق من دون توفُّرِ إجماعٍ لبنانيٍّ على الاعتراف بأنّ الإدارة السوريّة الحاليّة، شئْنا أم أبيْنا، هي الجهة الشرعيّة الوحيدة المخوَّلة بتسوية هذه الإشكاليّة الشائكة والمرشَّحة للتفاقُم بكلِّ تأكيدٍ مع مرور الوقت.
هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي على أيِّ رغبةٍ في إعطاء القيادة السوريّة شهادة حُسنِ سلوكٍ على ما لعبَته من أدوارٍ مريبةٍ على الساحة اللبنانيّة في مراحلَ سابقةٍ، ولا على نواياها المبيَّتة والمفتوحة على كلّ الاحتمالات حيال اللبنانيّين في المراحل المقبلة، ولكنّ الغرض الأساسيّ من ورائه يتمثَّل في وجوب التذكير بأنّ الرئيس الحريري، على وجه الخصوص، كان قد تمكَّن في الماضي من تجاوُزِ قطوعاتٍ أصعب بكثيرٍ من القطوع الحاليّ في مجال علاقته الشخصيّة مع الرئيس الأسد، سواءٌ عندما قام بزيارته التاريخيّة الجريئة لدمشق يوم التاسع عشر من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) عام 2009 إيذانًا بانتهاء مرحلة القطيعة مع سوريا التي كانت قد بدأت في أعقاب ما نُسب عن تورُّط مسؤولين أمنيّين سوريّين في تنفيذ جريمة اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري في بيروت يوم الرابع عشر من شهر شباط (فبراير) عام 2005، أم عندما وقف إلى جانب كلٍّ من الرئيس اللبنانيّ السابق ميشال سليمان ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي على مدرَّج المطار لاستقبال الرئيس السوريّ نفسه لدى وصوله إلى لبنان على متن طائرةٍ واحدةٍ بمعيّة العاهل السعوديّ (الراحل) الأمير عبد الله بن عبد العزيز يوم التاسع والعشرين من شهر تمّوز (يوليو) عام 2010، الأمر الذي يعني في إطار ما يعنيه أنّ مسار تدهوُر العلاقات مجدَّدًا بين الرجليْن، أيْ الحريري والأسد، لم يأخُذ منحاه التصاعُديّ في الأصل إلّا بعد تفجُّر الأزمة السوريّة في سياق إرهاصات وتداعيات ما اتُّفق على تسميته بـ “ربيع العرب” عام 2011، وخصوصًا لدى اتّخاذ “تحالُف قوى 14 آذار” قراره الحاسم بشأن الانحياز عمليًّا لصالح فصائل الثورة ضدّ مؤسّسات النظام، من دون الأخذ في الاعتبار أيِّ حيثيّةٍ من حيثيّات البديهيّة القائمة على حقائقَ راسِخةٍ وشواهدَ تاريخيّةٍ مؤدّاها أنّ رموز تلك الفصائل الثوريّة السوريّة غالبًا ما كانوا يؤازرون النظام السوريّ، سواءٌ خلال عهد الأسد الأب أم خلال عهد الأسد الابن، على حساب كلّ لبنان، علمًا أنّ القاصي والداني يعرف تمام المعرفة أنّ قرار الانحياز المذكور، مادّيًّا ومعنويًّا وإعلاميًّا ولوجستيًّا، كان قد اتُّخذ في الأصل خدمةً لأجنداتِ دول الارتصاف الأميركيّ – الأوروبيّ – الخليجيّ – التركيّ الذي ما لبث أن أُصيب بالتصدُّع لاحقًا جرّاء الدخول السياسيّ والعسكريّ الروسيّ المباشِر على خطّ الأزمة، وبالتالي، نكايةً بممارسات “قوى 8 آذار” ومن يقف وراءها على خطّ المحور الإيرانيّ – السوريّ الذي لا يزال ثابتًا ومتينًا لغاية يومنا الراهن.
وإذا كان سيْل الأمثلة على تجلّيات الكيديّة السياسيّة التي اتّسمت بها لغة تخاطُب الأفرقاء اللبنانيّين مع بعضهم البعض على خلفيّة تداعيات الأزمة السوريّة له أوّلٌ وليس له آخِر، فإنّ البيت في القصيد هنا، وعلى قاعدة “خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ”، يتمثَّل في وجوب الدعوة بصريح العبارة إلى ضرورة إجراء مقارباتٍ براغماتيّةٍ جديدةٍ تلحَظُ كافّة تفاصيل المشهد السوريّ العامّ في ضوء مختلف المعطيات الدوليّة والإقليميّة المائلة باضطرادٍ في هذه الأثناء لصالح خيار بقاء نظام الرئيس الأسد على حاله، أقلّه في المستقبل القريب، بحيث تنتفي مبرِّرات الرئيس الحريري للامتناع عن مصافحة السفير السوريّ في لبنان، وبحيث تنتفي بالتالي مبرِّرات “حزب الله” للاستمرار في تأخير مخاض ولادة التشكيلة الحكوميّة العتيدة في ظلّ ما يُشاع عن إصرار الرئيس المكلَّف على عدم إدراج أيِّ فقرةٍ تدلّ إلى وجودِ اعترافٍ لبنانيٍّ رسميٍّ بشرعيّة النظام السوريّ الحاليّ، لتبدأ إثر ذلك الإجراءات العمليّة لإزاحة عبء أزمة النازحين السوريّين عن صدر اللبنانيّين، سواءٌ وفقًا للأعراف الدوليّة المعمول بها أو بموجب المبادرة الروسيّة المعدَّة مسبَّقًا لهذا الغرض، وليُصار في الموازاة إلى الشروع في إجراءات إعادة بناء الثقة بين بلديْن جاريْن على أساس قواعد الاحترام المتبادَل وأصول العلاقات الديبلوماسيّة للدول المتحضِّرة، اللهمّ إلّا إذا توافرت معطياتٌ جديدةٌ من شأنها أن تدلّ إلى أنّ نشوة انتصار الرئيس الأسد على معارضيه في الداخل ستُسْكرُه، وستدفعُه مجدَّدًا إلى إعادة فرض وصاية أبيه في الخارج على لبنان، فحسبي أن أقول عندئذٍ إنّ الرئيس سعد ابن رفيق الحريري على حقٍّ في كافّة مواقفه جملةً وتفصيلًا، وإنّ الالتفاف حوله والوقوف معه سيُصبح في هذه الحالة واجبًا وطنيًّا بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى… وحسبي أنّ رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون يعرف قيمة هذه الكلمة ورمزيّتها ودلالاتها في القواميس الوطنيّة اللبنانيّة أكثرَ من غيره بكثيرٍ… والخير دائمًا من وراء القصد.