مرايا – تواجه القيادة الفلسطينية استحقاقاً مفصلياً تتشابك فيه ثلاثة مؤثرات: صفقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والتوازن الدولي المرافق لها، الانقسام الداخلي وأبعاده المرتبطة بالصراع الإقليمي، وإعادة بناء منظمة التحرير والمؤسسات الداخلية المرتبطة بالخيارات المصيرية.

ولعل السؤال عن قواسم مشتركة يمكن أن يتوحّد حولها الموقف الفلسطيني في ظل تلك التحديات أصبح يرتبط بما ستؤول إليه نتائج المسارات الإقليمية والدولية والموقف العربي من كل ذلك.

وفي العنوان العام فقد توحّد الفلسطينيون في مواجهة مشروع ترامب كلٌ بطريقته وأدواته، لكن فعلياً ذلك بقي في حدود العجز عن ترجمته داخلياً.

وبالعكس فنجاح الفلسطينيين في مواجهة مشروع ترامب قابله فشل في إنهاء الانقسام وانتقال التركيز إلى احتواء تداعيات ذلك بعدما كان النقاش الداخلي يدور حول جدوى الخيارات المتاحة والبحث عن استراتيجيات جديدة بعد تراجع فرص حلّ الدولتين.

وكان الموقف من “أوسلو” يقع في القلب من هذا النقاش، أتعلّق الأمر بمكاسب تآكلت مع الوقت أم بخسائر تمثلت بانسداد أفق الحل وتفاقم الاستيطان الذي غيّر معالم الاتفاق.

لكن كل هذا النقاش أبعدته شراسة التحديات التي تعرّض لها الفلسطينيون وتفاقُم الصراع الداخلي وتبدُّد الخيارات المُتاحة أمام استعادة وحدة المؤسّسات الفلسطينية.

ولا شك أن محاولات مصر المتكررة لإنتاج مصالحة حقيقية بين حركتي “فتح” و”حماس” لا زالت تصطدم بكثير من العوائق التي تعكس جزءاً من مشهد الاصطفاف الإقليمي.

وقد افترضت مقاربة ترامب وصهره في البداية أن المصالحة قد تُيَسِّر لهم تمرير الصفقة وعلى أثر ذلك تقدّمت الجهود المصرية وصولاً إلى إبرام اتفاق القاهرة (12 أكتوبر/تشرين أول 2018)، لكن رفض الرئيس أبو مازن للصفقة وذهابه بعيداً في رد الفعل على نقل السفارة الأميركية إلى القدس أعادت تحويل المقاربة الأميركية الإسرائيلية نحو تعزيز الانقسام وتوظيفه في خدمة الصفقة.

استعصاء المصالحة يعني أن يصبح التعايش مع هذا الانقسام بمثابة الأمر الواقع الذي تستغله إسرائيل في مصلحتها البعيدة المدى، والأخطر من هذا كلّه أن ذلك يعطي إشارة قوية لانقسام جيو سياسي مُستدام يتكفل بإنهاء معالم القضية برمّتها، وذلك لأن فصل غزة عن الضفة هو المدخل الأساسي لفرض صفقة ترامب، أو أي تسوية تشبهها، على الفلسطينيين وإنهاء حق اللاجئين بالعودة وتصفية مسألة القدس، وأيضاً كسياق يتماهي مع تشظي الوقائع الجيوسياسية في كل المنطقة.

من هنا تبرز الحاجة إلى إنهاء الانقسام باعتباره المعبر الطبيعي للتصدي لتجزئة الحل ولعدم تحويل غزة إلى دولة فعلية ذات شرعية مستقلة عن منظمة التحرير، أو صاحبة قرار منفصل عن الضفة الغربية، وذلك في ظل استمرار إسرائيل والولايات المتحدة في تقويض وإضعاف مقومات الدولة هناك بموازاة تسويق الحل الاقتصادي والأمني في غزة.

والخوف من انحلال فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة، التي تجمع غزة والضفة وتحتضن الداخل والشتات، هو خوف حقيقي في ظل التركيز على قطاع غزة كأساس لدولة فلسطينية في حين يُصاغ للضفة الغربية، التي تختزن الأبعاد التاريخية والثقافية للصراع مع العدو، أفكاراً تشبه حكم السكان الذاتي أو الكونفدرالية أو غيرها من المقترحات.

الذهاب بعيداً في ذلك هدفه أن تصل القيادة الفلسطينية إلى خيار يتشكل أمامها كأمر واقع، وبأيدي فلسطينية أحياناً.

وفي ظل الاستقطاب الإقليمي الذي يرخي بظله على الفلسطينيين ويؤجج الخلاف الداخلي فذلك يمكن أن يعيدهم إلى مربع القرار الذي يتجاوز رأيهم، ويزجهم في المدى الإيديولوجي وصراع المحاور الذي يستثمر تضحياتهم ويذيب شخصيتهم المستقلة التي تشكّلت عقب الانتقال إلى الداخل.

طبعاً كل ذلك بعنوان الحل الإقليمي للموضوع الفلسطيني بعد إنهاك كل الأطراف وبحضور مباشر للقوى العظمى في المنطقة.! لقد راهن الرئيس الأميركي دونالد ترامب على ترهّل رئاسة محمود عباس الذي ظهر أنه لن ينهي حياته السياسية باستسلام مهين لشعبه وأمته.

وذهب ترامب بعيداً في قضية القدس من دون أن تواكبه دول العالم وبقيت خطواته معزولة وجرّب ضرب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين وراهن على حاجة العرب للولايات المتحدة في مواجهة إيران كعامل ضاغط على الفلسطينيين.

الرئيس ترامب تعاطى مع القضية الفلسطينية بالمقلوب وعزّز حاجة الفلسطينيين إلى أبو مازن الذي اكتسب مصداقية استثنائية في قيادة هذه المواجهة وعززها باعتماده دبلوماسية ناشطة أربكت الإدارة الأميركية وأبعدتها عن الاستفراد برعاية التسوية.

وبقي الموقف الرسمي لأهم الدول العربية يقضي بعدم تجاوز الإرادة الفلسطينية في أي مشروع يُطرح عليهم.

لقد تلقى ترامب عدد من الخيبات التي تُحسب كإنجاز للقيادة الفلسطينية لكن كيف تم استثمار ذلك داخلياً؟ وحركة “حماس” على طريقتها شغلت الاحتلال في غزة وحققت إنجازات أربكته حتى على المستوى السياسي الذي تسبب باستقالة وزير الدفاع والدعوة لانتخابات مبكرة، لكن كيف تم استثمار ذلك داخلياً في الساحة الفلسطينية؟ تُمثل العودة إلى تفعيل مؤسّسات منظمة التحرير خياراً جدياً في هذه المرحلة بالرغم من المآخذ على شكل المشاركة وحجمها في الاجتماعات التي عقدتها المنظمة خلال العام الماضي.

فإعادة إحياء المؤسسات التمثيلية لمنظمة التحرير هي بمثابة التعويض الطبيعي لتآكل مؤسسات السلطة وتَعطُّل العملية الديمقراطية، وهي الإطار الذي يمكن عبره تجاوز الانقسام.

فالمنظمة هي مصدر الشرعية الشعبية التي انطلقت في ظلها الثورة وصولاً إلى فكرة الدولة الواحدة، وهي جوهر المسار القانوني الذي عزز شكل العضوية الفلسطينية في الأمم المتحدة، وهي القالب التمثيلي الذي يجمع النسيج الفلسطيني في الداخل والشتات.

والواقع أن المآخذ التي تعيق انخراط الجميع في الإطار السياسي للمنظمة تبدو شكلية في هذه المرحلة الدقيقة من عمر القضية الفلسطينية، ولا شك أن كل هذه المآخذ قابلة للحل. عن الحياة اللندنية