في أيلول (سبتمبر) عام 1975 وقبيل زيارته المرتقبة لباريس، صرح الرئيس العراقي صدام حسين أن “البحث عن التكنولوجيا ذات الامكانات العسكرية هو رد على التسلح النووي الصهيوني، وأن الاتفاق الفرنسي – العراقي هو الخطوة العربية الأولى لامتلاك أسلحة نووية، حتى لو كان هدفنا المعلن هو بناء مفاعل وليس انتاج قنابل ذرية”.و فق ما نشرت صحيفة النهار العربي.
ويصادف يوم الاثنين 7 حزيران (يونيو) الذكرى الأربعين للعملية التي قامت بها وحدة “أبوكاليبس” أي نهاية العالم، التابعة لجهاز الموساد الصهيوني لتدمير المفاعل النووي العراقي “تموز” حيث نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت”الصهيونية تقريراً مطولاً يكشف عن تفاصيل دقيقة للمرة الأولى عن “عملية أوبرا” التي تعتبر من أهم العمليات العسكرية الصهيونية تدميراً وأكثرها جرأة حسب وصفها، بعد لقاء أحد أعضاء الفريق ورجل الاستخبارات السري أيجال بالمور.
انضم أيجال بالمور كجندي في وحدة الإنذار المركزية في آب (أغسطس) عام 1979، الى إحدى القواعد العسكرية الرئيسية على قمة أحد الجبال على الحدود الشمالية، وكان يأمل بأن ينضم الى قسم أبحاث الاستخبارات خلال خدمته، لكن لأنه ان أحد أقدم الدبلوماسيين الصهاينة أليعازر بالمور وأكثرهم خبرة ولأنه أمضى طفولته ومراهقته في أوروبا بحكم عمل والده، وكان يجيد اللغتين الإنكليزية والفرنسية بطلاقة، فقد كان لدى مركز التجنيد الاستخباراتي خططاً أخرى له، وتم إدراجه في وحدة التنبيه كمترجم للمحادثات باللغات الأجنبية، وصدر أمر بنقله الى الوحدة 8200 الى قاعدة أخرى داخل مجمع مغلق ومعزول الى جانب جنود ومجندات آخرين، أخبرهم هناك ضابط المخابرات رافي كنافو “أن مهمتهم ستكون التجسس على المكالمات الهاتفية الأجنبية، تسجيلها وتصفيتها وتلخيصها ونسخها” بحسب بالمور.
وأضاف بالمور أن مهمتهم السرية كانت تنحصر في الاستماع الى المحادثات الهاتفية بين العراقيين والفرنسيين حول موضوع المفاعل النووي الضخم الذي بناه الفرنسيون. كانوا يستمعون لكل شيء وقاموا بتسجيل كل المكالمات بما في ذلك الكلام البذيء، وجمعوا المعلومات الأكثر دقة وحساسية عن المفاعل، تلك المعلومات سمحت لجهاز الموساد تفجير أجزاء من المفاعل والتجسس على العلماء العراقيين.
وسرعان ما ادرك الجنود أن التكنولوجيا الجديدة ربطت جزءاً كبيراً من بدالات الهاتف الدولية بأنظمة اتصالات جديدة تنقل المكالمات الهاتفية من دولة الى أخرى، كما تعامل الجنود مع جهاز غريب بحجم “الثلاجة” قيل لهم أن بعض الحكام في الشرق الأوسط يمتلكون مثله ويستخدمون جهاز “الفاكس” الذي يقوم بمسح المستندات ضوئياً ونقلها الى مكان أخر عبر خطوط الهاتف الدولية، إضافة الى 17 جهاز تسجيل مع بكرات، كل جهاز متصل بخط مخصص للربط الهاتفي بين العراق وفرنسا.
وقام القادة بتسليم الجنود قائمة بأسماء الشركات الفرنسية والمسؤولين والمهندسين والعلماء العراقيين الذين بمجرد ورود اسم أحدهم في مكالمة أو محادثة يتعين عليهم على الفور تحرير زر التسجيل والنسخ.
فهم الجنود ما يدور حولهم بالضبط ولماذا كان مهماً للموساد إحضارهم الى هناك وقاموا بتسمية الفريق “أبوكاليبس” أي نهاية العالم، في إشارة الى نشاط الفريق وما قد يحدث بسبب القضية التي كانوا يتعاملون معها، فسلاح الجو الصهيوني سيقصف المفاعل النووي في العراق والعملية خطرة وحساسة، وبدأوا برسم خريطة للأقسام المختلفة لتحديد من كان يتحدث الى من، وأصوات المتحدثين المهمين، وبحسب طبيعة المحادثات كانوا يقومون بترجمتها إلى العبرية ونشر معلومات مفصلة عنها، كما اعترضوا آلاف عمليات إرسال التلكس ليتم فحصها في وحدة (أمان).
رأى صدام حسين نفسه زعيماً عربياً تاريخياً من شأنه أن يجعل من العراق قوة إقيليمية موازية لإيران وقد وصف إسرائيل “أنها كيان صهيوني عدواني وسرطان رهيب في المنطقة”، وفهم أن العراق لن يكون ابداً قوة من دون مخزون كبير من الأسلحة، وأن الطريقة الوحيدة لغزو الشرق الأوسط هي امتلاك القدرة على تدميره.
كان صدام ثاني أهم رجل في باريس في ذلك الوقت بسبب المال الوفير الذي كان في جعبته، ما شكل اغراءً لفرنسا والولايات المتحدة للتحكم في الجغرافيا السياسية وقواعد اللعبة السياسة، وكان رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جاك شيراك وراء سلسلة من الصفقات الضخمة بين فرنسا والعراق على رأسها بيع مفاعلين نوويين، مفاعل تدريبي “أيزيس” صغير بقدرة 5 ميغاواطات أطلق عليه (تموز 2) سيستخدمه الفرنسيون لتدريب كوادر لتنفيذ العمل على المفاعل الرئيسي “أوزوريس” الأكبر بكثير بقدرة 40 ميغاواطاً مع إمكان التوسعة ليصل الى 70 ميغاواطاً وأطلق عليه (تموز 1). ويحتوي المفاعل الكبير على 12 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 93 في المئة وبذلك يمكن انتاج قنبلة نووية منه، لذلك في حال أوفت فرنسا بوعودها واستبدلت بين الحين والآخر قضبان الوقود المستخدمة، فيمكن للعراقيين ببساطة تحويل بعضها الى سلاح نووي، وأطلق العراقيون اسم “أوزيراك” على المفاعل النووي، حيث كان العلماء الفرنسيون يدركون أن حكومتهم كانت تكذب في تصريحاتها للعالم من أن المشروع لم يكن لديه أي امكانات ليتحول نحو الاتجاه العسكري.
وبحسب التقرير فإن الفرنسيين فهموا أن الصفقة كانت مثالية للاقتصاد الفرنسي وأشبه بحلم تحقق حيث دفع العراقيون مبلغاً أعلى من قيمة المفاعل كما حصلوا على حسم كبير وشروط مواتية لواردات النفط من العراق.
وشارك في المشروع الضخم عدد كبير من الشركات الفرنسية وتم انشاء إدارة مشتركة بين باريس وبغداد وبناء آلاف المباني السكنية الخاصة للمهندسين والفنيين الفرنسيين بالقرب من المشروع سميت بالعشتار. وبدوره قام جهاز الموساد الصهيوني بتشكيل فريق يضم افراداً من وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي أطلق عليه اسم “العصر الجديد” وطُلب منه بذل جهود خاصة ومركزة للتغلب على المحاولات العراقية لتحقيق أي قدرة نووية بطلب من نائب رئيس الموساد في ذلك الوقت ناحوم أدموني، علماً أن المشروع بدأ في فرنسا حيث تصنيع المكونات الرئيسية وحيث يتلقى قادة المشروع تدريباتهم، ليتم بعدها استكمال المرحلة الثانية في مركز أبحاث التويثة بالقرب من العاصمة بغداد، وتم إقرار مراقبة كل المحادثات بخاصة بالفرنسية.
وفي المقابل، قام ضباط من وحدة “تسوميت” لتجنيد العملاء، بالتخفي في فرنسا تحت ستار رجال أعمال وقاموا بالتقرب من العراقيين في محاولة لتجنيدهم ليصبحوا جواسيسهم وأعينهم داخل العراق. أحد الفنيين الذين عملوا في المفاعل نقل لمشغله الضابط يهودا جيل معلومات داخلية عن المفاعل الذي كان يجري بناؤه، حيث أخبر جيل الفني إن هذه المعلومات يحتاجها للتنافس على المناقصات النووية في العراق، وبحسب التقرير فإن النجاح كان نادراً لأن صدام حسين نجح في بث الخوف والرعب في قلوب العاملين في المشروع، لذلك عمل ضباط الموساد على الاتصال بالجانب الفرنسي ونجحوا في تجنيد فنيين وسكرتيرات وموظفي الخدمات اللوجستية سواء لأسباب ايديولوجية او بدفعهم مبالغ مالية ضخمة. هكذا تمكن الكيان من الحصول على المخططات التفصيلية ووثيقة كتبها علماء فرنسيون تلخص كل الاتفاقيات الموقعة مع العراق، كما تم تجنيد عالم فيزياء نووية من جامعة بن غوريون هو الدكتور رفائيل أوفك، وعقد مجلس الوزراء الصهيوني سلسة من الاجتماعات بعد فشل الكيان في مساعيه الدبلوماسية، وتقرر اتخاذ الإجراءات الضرورية لتقويض المشروع النووي العراقي ومنح الموساد الضوء الأخضر للعمل.
ليلة 5 و6 من نيسان (أبريل) من عام 1981 رصد حراس مجموعة “سينم” المتخصصة في انتاج الأجزاء المعدنية الضخمة للمفاعلات النووية سيارة فيات 127 تقترب من المنشأة في لا سين سور مار غرب مدينة تولون الفرنسية، حيث كانت الشركة تستعد لإرسال شحنة لمركز التوثية. ادعت سيدتان انهما سائحتان بريطانيتان تعطلت سيارتهما وبعد أن فتح الحراس البوابة وساروا باتجاه السيارة تسلق خمسة رجال يرتدون ثياباً سوداء السياج ودخلوا بهدوء وربطوا خمس رزم من المتفجرات القوية حول الشحنة وضبطو أجهزة التوقيت ثم تسللوا الى الخارج واختفوا في عتمة الليل، لم يستغرقهم الأمر أكثر من خمس دقائق بين الدخول والخروج، بعد بضع دقائق هز انفجار هائل مخازن المجموعة واحرقت ألسنة النار المكان، بما في ذلك الغطاء الأساسي المخصص للمفاعل الذي من المفترض أن تمر من خلاله أنابيب مياه التبريد. بعد ساعات قليلة أعلن المتحدث باسم مجموعة “الخضر الفرنسيين” مسؤوليتها عن الانفجار بحجة حماية البيئة، إلا أن الشرطة الفرنسية توصلت لاستنتاج مفاده أن الموساد قد قام بالعملية.
وعلى الفور أوعز صدام لعلمائه بعدم تأخير التقدم في المشروع بأي شكل من الأشكال وأرسل وزير دفاعه عدنان خير الله الى باريس مطالباً الفرنسيين بإصلاح الأضرار وإرسالها على الفور الى العراق. كانت تعليمات صدام سريعة وواضحة، هنا أوصى رئيس الوزراء الصهيوني مناحيم بيغن بالانتقال الى أساليب أكثر عدوانية، وهنا بدأ تعقب العلماء العراقيين.
لم يفهم القادة العسكريون أي شيء من المواد التي تم جمعها، لكن سرعان ما ظهرت أسماء العلماء العراقيين الذين كان الموساد يبحث عنهم، وعلى رأس القائمة حيدر حمزة وجعفر ضياء جعفر، وهذا الأخير كان عقل المشروع وأهم عالم حاصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة مانشستر وعمل باحثاً في معهد الفيزياء النووية في امبريال كوليدج في لندن، كما استعان العراق بعلماء مصريين أهمهم يحي المشهد، خريج قسم الفيزياء النووية من جامعة الاسكندرية، وكان يتنقل باستمرار بين مصر والعراق، حيث بدأ الموساد يتتبع تحركاته في فرنسا الى أن تمت تصفيته على يد ضابط ومقاتل من الموساد باستخدام منفضة سجائر من الزجاج داخل غرفته في الفندق.
أما المهندس العراقي البارز عبد الرحمن رسول الذي أدار الجزء المدني من المشروع وبعد أن حضر مؤتمراً رسمياً للوكالة الفرنسية للطاقة الذرية مباشرة بعد حفل الكوكتيل والاستقبال الرسمي أصيب بما بدا كأنه تسمم غذائي توفي بعدها بخمسة أيام في المستشفى في باريس وفشل التشريح في تحديد سبب الوفاة. وأدت هذه الحوادث لتأخير المشروع نحو عام ونصف العام، لكن صدام عزم على تنفيذ المشروع إلى النهاية.
وخوفاً من أن يكون لدى صدام أسلحة نووية قابلة للتشغيل ووسائل لإطلاقها حتى نهاية العقد، بدأ الكيان تستعد لتنفيذ عملية “أوبرا”. التقى مسؤولون في الموساد مع طيارين في سلاح الجو بعد أن حصل الموساد على صور جوية من خلال موظف كان جاسوساً للكيان في قلب المشروع استخدم مروحية لالتقاط الصور. الخلافات داخل الحكومة الصهيونية كانت على أشدها حتى أن بيغن توقف عن دعوة رئيس لجنة الطاقة الذرية عوزي عيلام، فقام أحد مساعدي عيلام البروفسور عوزي ايفين بتسريب خطة الهجوم الى زعيم المعارضة في ذلك الوقت شمعون بيريز، والذي حاول منع العملية المخطط لها في اليوم التالي فأرسل لبيغن ملاحظة بخط صغير كتب فيها، “أشعر هذا الصباح بأن من واجبي أن أنصحك بكل جدية بالامتناع عن القيام بذلك…”.
كان بيريز يخشى من الهجوم على العراق وأن أي عملية ضد العراق ستجعل الكيان معزول عالمياً، لكن بيغن ورئيس هيئة الأركان رافائيل ايتان (رافول) رفضا أي حجة.
وحسب أقوال بالمور فإن المستوى السياسي والأمني في الكيان كان يعتقد أنه يجب مهاجمة المفاعل في أسرع وقت قبل أن يصبح ساخناً، أي قبل أن تصل قضبان الوقود. في يوم 4 من حزيران (يونيو) عام 1981 تم إلغاء عطلة “نزول التوراة” واخبار الجميع أن مرافق الوحدة كافة ستكون مغلقة تماماً أمام الدخول والخروج، وتم إصدار أمر بمضاعفة الورديات. يوم 7 من حزيران (يونيو) عند الساعة 4 مساءً اقلعت ثماني طائرات من طراز (أف- 16) من مطار عتصيون في سيناء لمهاجمة المفاعل، وأقلعت خمس طائرات أخرى من طراز (أف -15) الى جانب 60 طائرة أخرى شاركت في العملية، بما في ذلك طائرات بوينغ للتزود بالوقود ولتسهيل الاتصالات بين القيادة والاستخبارات، وطائرة هليكوبتر مروحية للدعم في حال الاشتباك او الحاجة لإنقاذ طيارين.
كان الهدف هو تدمير كامل للمفاعل وتدمير البركة الداخلية التي من المفترض أن تستثمر فيها قضبان اليورانيوم. حلقت الطائرات المهاجمة على ارتفاع أقل من 300 قدم للتهرب من أنظمة الرادار في الأردن والسعودية والعراق، واجتازت مسافة 1100 كيلومتر تم اختيارها بعناية شمال المملكة العربية السعودية، وجنوب الأردن مرت بطريق الخطأ فوق يخت العاهل الأردني الملك حسين الذي كان على متنه في خليج العقبة الذي لاحظ الطائرات وفهم بأي اتجاه كانت تطير، لكن من غير المعروف ما اذا كان قد أبلغ السعوديين أو العراقيين.
وصلت الطائرات الى وجهتها عند غروب الشمس حوالى الـ 5:30 مساء من ذلك اليوم، عندها ارتفعت طائرات (أف -16) الى 10000 قدم وأجرت مناورات متدحرجة وفقاً لآليات القصف التي تم تكييفها لاختراق قبة المفاعل، وقصفت المفاعل بزاوية 35 درجة… كل طائرة أسقطت قنبلتين بوزن طن، تم تصميم نصف القنابل لتنفجر عند ملامستها لقبة المفاعل ونصفها الأخر لتنفجر عند توغلها في عمق الهيكل، واخترقت 12 قنبلة من أصل 16، أصاب 7 من أصل 8 طيارين الهدف. عند منتصف تلك الليلة تم فك رموز شرائط الكاميرا الموجودة أسفل أجنحة الطائرات التي أظهرت أضراراً جسيمة في موقع المفاعل، ووزع قادة المستوى السياسي والاستخبارات بياناً مفاده “أن المفاعل دمر بالكامل”.
بعد ثلاثة أسابيع من العملية احتفل بيغن بفوزه في الانتخابات العامة، وبعد شهر ونصف الشهر تم تفكيك الفريق وغادر الجنود الوحدة، وأصبح صدام أكثر تصميماً على تحقيق هدفه وتحول مشروع بقيمة 400 مليون دولار مشروعاً بـ 10 مليارات دولار، و 400 عالم أصبحوا 7000.