مرايا – بقلم السفير/ إيلدار سليموف

استعاد الشعب الأذربيجاني تقاليد دولة مرة أخرى في شهر مايو من عام 1918 بعدما أقام أول جمهورية ديمقراطية – جمهورية شعبية – في المشرق الإسلامي. غير أن هذا الطريق ما كان سهلاً، إذ أن الثورة التي هبّت في فبراير عام 1917 في روسيا، قد قرّبت من سقوط الإمبراطورية الروسية، وعزّزت منازع الابتعاد عن السلطة المركزية. فقد أسّس نواب مجلس الدولة الروسية عن منطقة جنوب القوقاز، أولاً اللجنة الخاصة، ثم مفوّضية منطقة ما وراء القوقاز في شهر نوفمبر. في 23 فبراير عام 1918، اجتمعوا النواب من مؤسسي المجلس الروسي في مدينة تيفْليس وشكّلوا أولاً برلمان منطقة ما وراء القوقاز الذي ضمّ في صفوفه الأذربيجانيين والجورجيين والأرمن، ومن ثم الجمهورية الاتحادية المستقلة لمنطقة ما وراء القوقاز في 22 أبريل. وكان الإجماع في برلمان منطقة ما وراء القوقاز يتزايد عُسراً بحكم العوامل الخارجية والداخلية، الأمر الذي أدّى إلى انعقاد جلسته الأخيرة في 26 مايو التي أعقبها إعلان المجلس الوطني الأذربيجاني على أيدي الكتلة المسلمة بالمفوّضية المذكورة في مايو 27، وجرى اختيار الهيأة الرئاسية والرئيس للمجلس الوطني.
ومع إعلان الاستقلال حول استقلال الدولة في 28 مايو، الذي وقّعه 26 عضو من أصل 44 عضو لدى المجلس الوطني الأذربيجاني، وُضعت أسس قيام الجمهورية البرلمانية في العالم التيوركي الإسلامي. وبعد يومين، (في 30 مايو)، تمّ بعث الرسائل الهاتفية الموقّعة من قبل فاتالي خان هُويْسكي (رئيس الحكومة) حول إعلان استقلال أذربيجان إلى المراكز السياسية الأساسية في العالم. وبسبب عدم التمكن من اعتماد الدستور بوصفه قانوناً رئيسياً أثناء الفترات اللاحقة، ظل إعلان الاستقلال بمثابة الدستور لغاية انهيار الجمهورية الشعبية. ومع قيام الجمهورية الشعبية فُتحت صفحة جديدة في تاريخ دولة أذربيجان. وهكذا أصبح 28 مايو عام 1918 – تاريخ إعلان الاستقلال – يوماً باعتباره يومَ استعادة استقلال الدولة – يوم الجمهورية.
لقد كانت جمهورية أذربيجان الشعبية تتمتع بنظام جمهوري برلماني، وعاشت 23 شهراً فحسب في الظروف العسيرة والمعقّدة السائدة آنذاك. إلا أن هذه الفترة اتّسمت بتشكيل أول برلمان وحكومة، الجهات الحكومية، وبتحديد حدود البلاد، وبتكوين رموز الدولة – العلم والنشيد والشعار، وبإعلان اللغة الأذربيجانية لغةً رسميةً. وازت ذلك الإجراءات الجادّة في مجال بناء الدولة، وتوفير السلامة الإقليمية والأمن الوطني للبلد، واتخاذ الإجراءات الهادفة للحفاظ على ناختشيوان كأرض أذربيجانية، وتشكيل الوحدات العسكرية ذات القدرات القتالية العالية خلال فترة وجيزة، وإنشاء الجهات الحكومية طبقاً للمتطلبات الوطنية والمبادئ الديمقراطية، وتأسيس أول جامعة أذربيجانية، وتأميم التعليم وتكريس لأرضية الارتقاء الثقافي للشعب في الفترات اللاحقة.
سبق لجمهورية أذربيجان الديمقراطية أن لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ دولتنا من حيث استعادة الدولة، وإنشاء هيكل ديمقراطي. وقال القائد العظيم حيدر علييف آخذا هذه الأمور بعين الاعتبار: “إن قيام جمهورية أذربيجان الشعبية أعاد لنا دولتنا التي كانت مفقودة في ذلك الوقت. فقد لعب إنشاء ووجود هذه الجمهورية، وإن كان لفترة قصيرة، دورًا تاريخيًا في استعادة دولة الشعب الأذربيجاني، وفي طريق تحقيق استقلال دولة أذربيجان، وفي اتجاه إنشاء هيكل ديمقراطي. وفي الوقت نفسه، قد كرّس تأسيس جمهورية أذربيجان الشعبية لقيام دولة وحكومة أذربيجان المستقلة على أساس المبادئ الديمقراطية لأول مرة في تاريخ أمتنا”.
ويفخر الشعب الأذربيجاني، وعن حق، بهذا التاريخ لأنه شارك في إقامة أول جمهورية ديمقراطية في العالم الإسلامي. غير أن هذا التاريخ المجيد لم يدم طويلا، بسبب جرائم القوات البلشفية – الدشناق وقادتها، وسقطت جمهورية أذربيجان الديمقراطية بعد 23 شهراً.
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي – أثناء قيادة القائد العظيم حيدر علييف للجمهورية- تمّ تنفيذ أعمال مهمّة في اتجاه تحقيق الفكرة الوطنية – استقلال دولة أذربيجان في المستقبل. كما أشار رئيس جمهورية أذربيجان إلهام علييف، قائلا: “منذ السبعينيات من القرن المنقضي، تهدف البرامج الواسعة النطاق المنفّذة في جمهوريتنا وفقًا لاستراتيجية حيدر علييف، الإبن الكبير لأذربيجان، إلى تشكيل الإمكانات الاقتصادية الحديثة، وتنشيط الحياة الاجتماعية والثقافية، وإحياء القيم الوطنية والأخلاقية، وضمان استقلالنا في المستقبل. ومهّدت الأرضية لتحقيق ذلك”. ومن هذا المنطلق، يمكن القول بأن شهدت السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم وضع أساس استقلال دولتنا بالفعل.
لقد كانت السنوات 1990-1993، عندما عاش زعيمنا الوطني وعمل في جمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي، الفترة التي اتُخذت فيها تدابير حقيقية من أجل استقلال الدولة. بالعودة من موسكو إلى ناختشيوان في 22 يوليو 1990، اتخذ الإبن الكبير لشعبنا قرارات مصيرية وحاسمة فيما يتعلق باستقلالنا في أرضنا القديمة (ناختشيوان)؛ إذ ارتفع علمنا ذو ثلاثة ألوان لأول مرة في المجلس الأعلى لجمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي في عام 1990، يعني قبل عام من استعادة الاستقلال في البلاد، وشُطبت عبارة “الاشتراكية السوفياتية” من إسم جمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي، وسُحبت القوات السوفيتية من ناختشيوان، وأنشِئت أول مفرزة حدودية وطنية ووحدات للجيش. ولم تشارك جمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي في استفتاء العام على مستوى الاتحاد الذي عُقد في 17 مارس 1991 لغاية الحفاظ على الاتحاد السوفيتي. على ما يبدو، فقد بدأ القائد العظيم مسيرة تحرير أذربيجان واستقلالها من ناختشيوان. كما قال رئيس البلاد إلهام علييف: “إن القرارات التاريخية التي اتُخذت في جلسة المجلس الأعلى لجمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي بقيادة حيدر علييف في التسعينيات، قد حددت استقلال دولة أذربيجان. في تلك الجلسة، اعتُمد علم أذربيجان ثلاثي الألوان كعلم وطني بينما كان علم أذربيجان السوفيتية في ذلك الوقت يظل مرفرفاً في أذربيجان. لم يفكّر أحد حينذاك في انهيار الاتحاد السوفيتي. في تلك اللحظات العسيرة والمعقّدة، جاءت هذه القرارات الحاسمة لتحم ناخشيوان، وتحدّد مستقبل استقلال أذربيجان”.
حينما كان القائد العظيم ينكبّ على تنفيذ هذه الإجراءات، كانت بلادنا بشكل عام شاهدةً على التدهور الاجتماعي-السياسي والاقتصادي، والحرب الأهلية، والصراع على السلطة، واحتلال أراضينا. واستلزم هذا المشهد المُريع إنقاذ أذربيجان من الكوارث التي كانت تتربص بها والنوايا الخبيثة للقوى الداخلية والخارجية ومساع نحو تدمير الدولة الحديثة الاستقلال.
وأشار رئيس أذربيجان إلى أننا “فقدنا الاستقلال الذي حصلنا عليه عامَ 1918 في عام 1920، يعني في غضون عامين. وفي هذه المرة، كنّا على وشك تكرار نفس المصير بعد عامين من استقلالنا الثاني. لو لم يكن حيدر علييف قد وصل الى السلطة في ذلك الوقت الحرج تلبيةً لطلب الشعب لكان مصير أذربيجان مأسوياً ومُحزناً”.
في 18 أكتوبر 1991، جرى إقرار القانون الدستوري “حول استقلال جمهورية أذربيجان”، حيث تضمّن الإشارة إلى إعلان الاستقلال التاريخي عن 28 مايو 1918 وإعلان المجلس الأعلى لجمهورية أذربيجان “حول استعادة استقلال جمهورية أذربيجان” بتاريخ 30 أغسطس 1991، وثبّت أن جمهورية أذربيجان هي وريثة جمهورية أذربيجان الديمقراطية. وهكذا، استعاد الشعب الأذربيجاني استقلاله في 18 أكتوبر 1991 وفقًا للقانون الدستوري “حول استقلال جمهورية أذربيجان”.
ولم تكن السنوات الأولى بعد استعادة استقلال جمهورية أذربيجان سهلةً؛ إذ سادت الأجواء المتوترة جرّاء أزمة السلطة، وصال وجال التعسف والعنف في جميع مجالات الحياة العامة. وكاد الشعب على قاب قوسين أو أدنى من فقدان الاستقلال الذي نالوه عبر آلاف المشقة والمعاناة بسبب عدم الكفاءة وانعدام الخبرة لدى قادة البلاد آنذاك.
وبعدما عاد القائد العظيم حيدر علييف إلى السلطة في أذربيجان في عام 1993 بإصرار من شعبه العزيز، تمكن من الحفاظ على استقلال دولتنا. في غضون فترة وجيزة، حُيّدت القوات التخريبية داخل البلاد، وتمّ التوصل إلى وقف إطلاق النار على الجبهة، وأرسِيت دعائم الاستقرار والسلام.
بفضل العمل الجاد والدؤوب الذي قام به حيدر علييف، الذي وضع أذربيجان المستقلة على طريق جديد من التنمية المبنية على أسس متينة، انطلقت أعمال بناء الدولة الضخمة. في عام 1995، جرى اعتماد دستور أذربيجان المستقلة، وأعقبه اتخاذ خطوات استراتيجية خاصة بمستقبل الدولة. ومع مضي الزمن يثبت مدى صحة هذا المسار الحكيم. خلاصة القول أن حيدر علييف الذي أعلن بفخرٍ كبير أن الاستقلال نعمة لا تقدر بثمن ويلعب دورًا مهمًا للغاية في المصير التاريخي للشعب، قدجعل استقلال أذربيجان خالداً ولا رَجعة فيه.
إنّ الفترة 1993-2003، عندما عاشت أذربيجان تطورها واستقرارها، يُعدّ الفترة الثانية لاستقلالنا. بعد عام 2003، فُتحت صفحة جديدة في تاريخ استقلالنا. في عام 2003 ، اتخذ شعبنا قرارًا تاريخيًا حول المسار المستقبلي للبلاد، بناءً على تأكيد القائد العظيم ب”أنني أؤمن به بقدر ما أؤمن بنفسي”، وعهد بمستقبل أذربيجان إلى رئيس دولتنا إلهام علييف. والتاريخ العظيم الذي بدأ منذ ذلك الوقت هو الفترة الثالثة لاستقلال دولتنا وهو استمرار منطقي للفترة الثانية.
لقد حافظ رئيس جمهورية أذربيجان إلهام علييف على كل الإنجازات التي تحققت في السنوات الماضية، وأتى ببلدنا إلى أقوى مرحلة في تاريخ الدولة الوطنية على أسس متينة أسسها القائد العظيم حيدر علييف. مع الحرب الوطنية التي استمرت 44 يومًا، قامت أذربيجان بتطهير أراضيها من العدو، واستعادت وحدة أراضيها، وأجبرت الدولة المحتلة على التوقيع على وثيقة الاستسلام، وكتبت اسم القائد الأعلى للقوات المسلحة إلهام علييف إلى الأبد في ملحمة دولتنا الوطنية كقائد منتصر، مما يُعتبر أعظم إنجاز في تاريخ استقلالنا.
اليوم تشهد المناطق المحرّرة من الاحتلال الأرمني عملية إعادة البناء والإصلاح وإنشائ البنى التحتية الضرورية، حيث تمّ إلى اليوم تعبيد أكثر من 800 كم من الطرق والأنفاق ومواصلة تنفيذ المشاريع الخاصة ب”القرى والمدن الذكية” وتوفير فرص عمل وعودة تدرّجية للنازحين إلى أراضيهم الأم وذلك إلى جانب تشغيل المطاريْن الدولييْن مع تشييد الثالث في محافظة لاتشين. غير أن أكبر عائق في سبيل الإسراع في إستكمال المشاريع التي في طور التنفيذ، هو عملية إزالة الألغام التي زرعتها أرمينيا خلال فترة الاحتلال وحتى بعد تحرير أراضينا، والتي لا تزال قائمة بغض النظر عن تقديم الجانب الأرمني خرائط المناطق الملغّمة، حيث لا تعكس تلك الخرائط الواقع.
ختاماَ يجب الإشارة إلى أن احتفاءنا بيوم الاستقلال هذا العام، يصادف مرور الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الوطني للشعب الأذربيجاني حيدر علييف الذي وضع مع جلالة الملك الحسين بن طلال ،طيب الله ثراهما، أثناء لقاءهما التأريخي على هامش القمة الإسلامية في مدينة دار البيضاء المغربية في عام 1994، وضع قاعدة قوية لعلاقات الصداقة والتعاون بين بلدينا الصديقين، التي تستمر اليوم في ظل القائديْن الحكيميْن والصديقيْن الكبيريْن فخامة إلهام علييف وجلالة الملك عبدالله الثاني. كما ينبغي ألا ننسى أن هذا العام شهد كذلك مرور 30 عاماً على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين بلدينا الصديقين، وعقد الجولة الأولى من المشاورات السياسية بين وزارتي الخارجية، التي آمل أنها سوف تسهم إسهاماً ملحوظاً في المزيد من تعزيز العلاقات السياسية بين بلدينا الصديقين مع الارتقاء بمستوى العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية والتعليمية في مستقبل منظور .
وانتهازاً لهذه الفرصة السانحة، أهنئ المملكة الأردنية الهاشمية الصديقة دولةً وحكومةً وشعباً بمناسبة العام السابع والسبعين من نعمة الاستقلال، حيث أتمنى لدولتينا أن يخلد استقلالهما، وأن يرفرف العلمان الأردني والأذربيجاني شامخيْن إلى الأبد.