مرايا – في زمن مضى كان العدوّ يُرسل فرق الموت ويستهدف المثقفين الثوريين أولاً، كُلنا نعرف “لائحة غولدا” وكيف جرى اغتيال وتصفيّة عقول فلسطينية وعربية رائدة واستئنائية في حقول الفكر والأدب والفن والترجمة والتنظيم والعمل الثوري الأممي.. لكن العدوّ كان يقول للعالم “هذا رد على عملية اللد” أو “عملية ميونخ” أو أيّ شيء والسلام. المهم أن “يقطف الرؤوس الحامية” على حد تعبيره. وأكثر الأوقات لا يقول ولا يُعلق..
وكان الهدف الصهيوني كما هو معلوم تجرّيف الثورة من العقل العلمي الرّصين، تجريف المؤسسة الفلسطينية من الرؤية الوطنية/ العلمية والشاملة، منع هذه العقول الفلسطينية من ترّسيخ وتكرّيس ما يُمكن تسميته (الاستراتيجية الفلسطينية الشاملة للتحرير).
وكان المرحوم د.أنيس صايغ بمثابة “الأب الحنون الصارم” لهذه المجموعة المميزة من الباحثين الفدائيين. حاول الموساد استهدافه أكثر من مرّة.. تقريبا نجح في إحدى تلك المحاولات .. أراد صايغ أن يكرّس قانونًا واضحًا لا يقبل النقاش: المثقف في خدمة العمل الفدائي وليس العكس.
فيما أراد ياسر عرفات أن تكون كل المؤسسات الفلسطينية في خدمة القيادة ورؤية الزعيم.. وحصل الخلاف المعروف بينهما.. مثل أي خلاف في التاريخ قرأنا عنه، ينشأ بين سلطان جائر وشاعر ثوري أو بين سياسي سلطوي ومثقف ثوري حُر.
كان د.صايغ لا يضع خلفه صورة زعيم أو قائد، يعتبر أن المثقف أكبر وأهم، واستطاع أن يجعل من مركز الدراسات والأبحاث مكانًا للعمل والإنتاج الفكري والتوثيق والترجمة وليس لطق الحنك. علّق خلفه يافطة تحمل مقولة لرئيس الوكالة اليهودية العالمية يقول فيها “إذا أرادت إسرائيل أن تنتصر وتبقى عليها أن تتعلم من الفلسطينيين في مركز الأبحاث الفلسطيني” واعتبر صايغ أن هذه شهادة للمركز ولدور الثقافة الوطنية الفلسطينية في المعركة.. لأن شهادة العدوّ أهم من شهادة الزعيم.
كان الشهيد كمال عدوان ـمثلاـ يطلب من مركز التخطيط دراسة حول منطقة ما في فلسطين يريد أن يعرف تضاريسها، طبيعتها، مصادر الماء فيها، النباتات التي تنمو في تلك المنطقة إلى آخره.. كانوا يعدّون له دراسة علمية وافية هدفها تطوير العمل الفدائي، ونقله من حيز الارتجالية والعفوية إلى حيز التخطيط والتنظيم.
إن معظم الانتاج الفكري الفلسطيني تحقق بين العام 1967 و1973 وهذه 6 سنوات يمكن وصفها بـ “الثورة” وما بعدها قصة أخرى.. وما عجزت عنه “إسرائيل” ولم تقوى على قطفه جرى طرده من منظمة التحرير فتكاملت عملية التجريف من الخارج ومن الداخل، وهكذا احتلت مجموعة أطلقت على نفسها اسم “العرفاتين” كل المؤسسات الفلسطينية.
اليوم يريد العدوّ أن يُجرّف المقاومة الفلسطينية من عقولها ورؤوسها الميّدانية الحامية ويستهدف أسماء بعينها باعتبارها “مشاغبة ولا تفهم إلا لغة القوة” غير أن الفدائي اليوم مثل الأمس، لا تنقصه شجاعة ولا الاستعداد للتضحية.. ما ينقصه أن تكون المؤسسة الفلسطينية مُوحدة وتعمل في خدمة الناس والعمل المقاوم، وهذه اليوم مؤسسة فاسدة لن تنصره إلا اذا تحررت من سطوة وهيمنة العرفاتين!.
لقد خان المثقف الفلسطيني مُهمته ودوره المطلوب والحيوي في مسيرة النضال التحرري، ولا يحق له أن يصدر الفتاوي “الوطنية” خاصة هذا الذي يدافع عن محمود عباس الفاسد، أو ذاك الذي يذهب إلى دول النفط، أو من تحول إلى بوق للمحاور ومن يدفع له أكثر.
ولو عاد اليوم غسان كنفاني وأنيس صايغ وكمال ناصر وعز الدين قلق ومحمود الهمشري، وبو ديه، وباسل الكبيسي، وأبو شرار، وناجي العلي، ونعيم خضر، و..و..وقلنا لهم هذه هي القصة وهذا ما جرى للشعب على أيدي العرفاتين لبصقوا علينا أولا ثم قادوا مظاهرة شعبية واتجهوا إلى مقر (م ت ف) .. حرروه أو أحرقوه!
لن يعود الشهداء لكن هذا الشعب الفلسطيني فيه قدرة عجيبة على الخلق وتوليد مثل هؤلاء بما يُناسب روح العصر، ولن يعدم الوسيلة أو الفكرة والإرادة، فضلاً عن عود كبريت!قدس الاخبارية