مرايا – حتى الوقت الذي كان يسمح لها بشرب المياه أو الدخول لدورة المياه كانت توفره الطبيبة المقيمة ريم “اسم مستعار” لتستغله في “تحويش” ربع الساعة لتتمكن من التسلل في ساعات الفجر إلى أي غرفة مغلقة في قسم الطوارئ لا تحتاج فيها سوى إلى كرسي، تستطيع الجلوس عليه وتقوم بعملية “شفط” حليبها لتخزنه لرضيعها الذي كانت تغيب عنه 36 ساعة في غرفة الطوارئ.
شهور مضت على تلك الحال للطبيبة ريم، لم تلفح خلالها رغم كل الصعوبات التي مرت فيها من أجل أن تعطي نفسها ووليدها حقا أموميا بسيطا بأن يتغذى الطفل من حليب أمه الغائبة عنه، كل تلك المعاناة باءت بالفشل، تشعر فيها اليوم الطبيبة ريم أنها قد تلوم نفسها ذات يوم بأنها انحازت لظروف عملها القاسية على حساب ساعات كان أولى لها أن تقضيها مع طفلها، لتضمه إلى حضنها.
ريم واحدة من طبيبات مقيمات ضمن شروط الاختصاص في مستشفيات جامعية التقت بهن “الغد”، تحدثن عن قسوة القوانين الداخلية في أماكن عملهن، تلك القوانين التي يغيب عنها قانون يعتبر حقا أساسيا بالنسبة للمرأة العاملة، وهو إجازة الأمومة، حق بحسب حديثهن ناضلن منذ العام 2004 من أجل الحصول عليه، ولم يتحقق المطلب حتى اليوم، رغم ما سببه ذلك من أذى كبير لبعضهن وصل حد تعرض مقيمات مناوبات للإجهاض، وحالات تسمم حمل وفصل مشيمة وغيرها.
وروت ريم تجربتها كضحية لقوانين تحرمها في المستشفى الجامعي الذي تعمل فيه من إجازة الأمومة. وبحسبها فإن المعاناة لا تقتصر خلال فترة الحمل للطبيبة المقيمة، بل تمتد لما بعد الولادة، فخلال فترة الحمل تحرص الطبيبة الحامل بكل ما أوتيت من قوة بألا تمرض مثلاً، أو يحدث معها ظرف خاص على سبيل مثال آخر، كل ذلك من أجل أن توفر رصيد إجازاتها السنوية “21 يوما” والشاملة أيام مرضية من أجل أن تستغلهن بعد فترة ولادتها.
الطبيبة ريم، وعلى سبيل واحدة من القصص القاسية التي مرت بها خلال حملها، تجاهلت ذات مرة وهي في شهرها الرابع من الحمل وخلال مناوبتها في المستشفى التي تصل إلى 36 ساعة، النزيف الذي حصل معها وهي واقفة على قدميها طوال تلك الساعات والذي كاد أن يؤدي إلى خسرانها الجنين، حتى بعد هذه الحادثة آثرت ريم على نفسها ولم تأخذ إجازة مرضية ووفرتها لإجازتها بعد أن تضع جنينها.
تقول ريم: “بعد انتهاء الـ21 يوما من إجازتي عقب ولادتي هاتفني المستشفى بضرورة عودتي إلى الدوام فورا، رغم علمهم المسبق بأن الجنين خرج بحالة صحية ضعيفة، وكانت ولادتي صعبة تحولت من ولادة طبيعية إلى عملية قيصرية عاجلة (…) لم يكن جرحي ملتئما منها بعد، ورغم ذلك اضطررت إلى تنفيذ أمر العودة إلى العمل فورا”.
وتضيف أنها ومنذ اليوم الأول من عودتها إلى العمل عادت إلى نظام المناوبة الذي قد يتجاوز أحيانا 36 ساعة كاملة، أغلبها في غرفة الطوارئ. وتقول “كنت أوفر أي دقيقة راحة خلال فترة مناوباتي في غرفة الطوارئ من أجل أن أهرب في ساعات الفجر إلى أي غرفة مغلقة أقوم فيها بعملية شفط الحليب وتخزينه لطفلي حتى يرضع منه في اليوم التالي، حتى شربي للمياه كنت أوفر وقته من أجل تلك اللحظة، وصدقيني حاولت لآخر رمق بأن أستمر على هذا النهج حتى يرضع طفلي من حليبي ورغم ذلك فشلت”.
وتختم “بعيدا عن كل المعاناة الجسدية والصحية التي مررت بها خلال فترة حملي، نفسيا كيف سأسامح نفسي مستقبلا بأنني تحملت كل ذلك على حساب طفلي؟ أتمنى أنني لم أكن مقصرة بحقه بسبب ظروف عملي القاسية”.
“خايفة يصير معي زي ما صار مع زميلاتي” تقول الطبيبة رند “اسم مستعار” خلال حديثها وهي طبيبة مقيمة في إحدى المستشفيات الجامعية أيضا، وهي اليوم في شهرها الثامن من الحمل، تخشى كما ذكرت أن يحصل معها مثل ما حصل مع زميلات لها في المستشفى أثناء فترة حملهن مثل من فقدت جنينها داخل رحمها، أو ما حدث من حالات لانفصال المشيمة المبكر من الرحم، أو حالات التدخل لولادة مبكرة نظرا لضعف الجنين، أو تأخر نموه بعد ولادته، ناهيك عن حالات الإجهاض التي حدثت.
كل ذلك كما أشارت إليه الطبيبة رند خلال حديثها، بسبب عدم وجود إجازة أمومة للطبيبات المقيمات في المستشفيات الجامعية، حيث أن المقيمة تضطر لأن تأخذ إجازاتها السنوية بشكل كامل بعد “مية ترجاي” بعد ولادتها، وغالباً وفور انتهاء إجازتها تضطر لتعويض ما فاتها من دوام نظام المناوبات التي تصل من 35-36 كاملة.
“الطبيبة المقيمة الحامل ممنوع تمرض، ممنوع يصير معها ظرف قاس” تقول رند، تلك الممنوعات التي تمنع نفسها الطبيبة المقيمة حرصا منها على توفير ما أمكن توفيره من أيام إجازاتها السنوية حتى تستغلها بعد ولادتها، لافتة إلى أن الطبيبة تكون محظوظة إذا سمح لها بالحصول على الـ21 يوم إجازة كاملة، فهناك أقسام في المستشفيات الجامعية لا تسمح بأكثر من أسبوعين للطبيبة بعد ولادتها!
وتؤكد رند، أن المشكلة ليست مشكلة شخصية مع المستشفيات الحكومية، إنما هي مشكلة تتعلق بالقانون الداخلي في تلك المستشفيات، وتقول: “ناضلنا منذ العام 2004 من أجل تعديل القانون الداخلي ولا حياة لمن تنادي بالرغم من الأجنة الذين فقدوا حياتهم بسبب قسوة وتعسف هذا القانون”.
هي خائفة اليوم كما ذكرت الطبيبة رند بأن يحدث معها مثل ما حدث مع زميلاتها، لكنها أيضا تأمل أن يحدث تغيير في القوانين الداخلية للمستشفيات الجامعية، وتختم بـ”يا رب”.
ليس فقط القطاع الحكومي الذي يوجد فيه قصور في بعض قطاعاته بحق القوانين التي لا تنصف العاملة الحامل، فأيضاً بعض قطاعات القطاع الخاص له نصيب في ذلك، ولعل قصة العاملة لانا “اسم مستعار” والتي تعمل في جمعية تابعة لمنظمة، المفارقة فيها أنها تدافع عن حقوق المرأة وتمكينها، ذات الجمعية التي أنهت خدمات لانا لأنها حامل!
وتعود قصة العاملة لانا وفق حديث لها أنها تعمل في تلك الجمعية منذ قرابة العامين، ذات الفترة التي حاولت هي وزوجها أن يصبح لهما بعد فترة لا بأس منها من التعب والمعاناة من أجل القدرة على الإنجاب، وبعد أن حالفهما الحظ حملت لانا أثناء فترة عملها، تلك الهبة التي صبرت طويلا للحصول عليها كانت ستكون سببا لقطع رزقها، وتقول: “سمعت بأذني موظفة في قسم الإدارة عندما قالت لو بنعرف إنها رح تحمل كان ما وظفناها”.
وبفضل الله ثم فضل زميلات للانا في العمل ضغطوا باتجاه وقف قرار توقيفها عن العمل، بقيت لانا في عملها، وبعد فترة حملت مرة ثانية وهي اليوم في شهرها التاسع، ذات الشهر الذي خرج قرار فيه بإنهاء خدماتها في الجمعية. وتقول: “المؤلم أن هذا القرار تزامن مع مرض زوجي وهو منذ فترة غير قادر على العمل، وظروفنا المادية صعبة جدا، أنا حرفيا رجوت الإدارة بأن يتراجعوا عن قرار توقيفي عن العمل حتى على الأقل أستطيع أن أولد طفلي الثاني على حساب تأميني الصحي ورغم ذلك ما يزالون مصرين على قرارهم”.
حتى أن لانا ووفق حديثها، عرضت على إدارة الجمعية بأن تتنازل عن إجازة أمومتها مقابل ألا يتم إنهاء خدماتها وأن تلد على حساب التأمين الصحي. وتقول: “مع كل ترجايتي إلهم برضو ما قبلوا ولا عملوا اعتبار لظروفي المادية القاسية”. وتختم: “الرزق على رب العالمين، يا رب سترك”.
وفي حديث مع الخبيرة الحقوقية المحامية هالة عاهد علقت على ما ذكر من قصص أنه وبخصوص السيدات اللواتي يعملن في القطاع الخاص وينسحب على المنظمات الدولية أو المحلية فهن يخضعن لقانون العمل؛ وبالتالي لا يجوز فصل المرأة الحامل ابتداء من الشهر السادس وتمنح إجازة أمومة تبلغ 70 يوما لا تقل مدتها بعد الوضع عن ستة أسابيع وهذا هو الحد الأدنى من الحقوق الممنوحة للمرأة.
أما إن كانت أنظمة المؤسسة أو العقد الذي أبرمته معها يمنحها حقوق أفضل فهو الأولى بالتطبيق؛ وعليه فإن السيدة التي تم انهاء خدماتها قبل الوضع يمكن لها اللجوء للقضاء أو تقديم شكوى لوزارة العمل حيث أن إنهاء الخدمات هذا يخالف كل من قانون العمل وأوامر الدفاع.
وعن المشكلة في المتدربات المقيمات في المستشفيات الأردنية للحصول على شهادات الاختصاص، تبين المحامية عاهد أنهن وفقاً للتعليمات الناظمة سواء تعليمات التدريب المحلي للأطباء المقيمين الصادر عن المجلس الطبي أو تعليمات الجامعات المتعلقة بمنح شهادة الاختصاص العالي في الطب فهن متدربات ولسن موظفات أو عاملات حتى ينطبق عليهن أحكام نظام الخدمة المدنية أو أحكام قانون العمل فيما يتعلق بحقوق المرأة الحامل.
وقالت “نحن أمام فجوة تشريعية تهدر ليس حق الأمومة فحسب وإنما تهدد حق الصحة والحياة للأم والجنين التي تضطر لإتمام مدة تدريبها رغم وضعها الصحي وهذا يتناقض مع أحكام المادة (6) من الدستور الأردني الذي نص في الفقرة الخامسة منها أن القانون يحمي الأمومة والطفولة.
وفي ردها حول ما سبب عدم وجود إجازات أمومة للطبيبات المقيمات في المستشفيات الجامعية، أجابت مديرة الموارد البشرية في وزارة الصحة الدكتورة ريهام الحمود، أن ذلك ليس من اختصاص وزارة الصحة، فالوزارة مختصة بالمستشفيات الحكومية، أما المستشفيات الجامعية فهي من اختصاص الجامعات التي تتبع لها تلك المستشفيات. “الغد”