مرايا – بقلم: سامح المحاريق
وصلت نسبة البطالة إلى حدود مقلقة في الأردن ومع ذلك توجد العديد من الشركات التي تبحث عن الموظفين ولا تجدهم لأن مستوى مخرجات التعليم ليس مناسباً، والمتقدمين للوظائف تنقصهم مهارات مهمة، كما ويوجد في الأردن مئات الآلاف من العمال الأجانب الذين سيرحلون لو وجدوا أن الأمور غير مجدية مادياً، بما يجعل التشكي من البطالة بصورة مطلقة أمراً على قدر من المبالغة وينطوي على كثير من المغالطات، وليس ممكناً الحديث عن البطالة قبل تحديد وتعريف الفجوة بين ما يريده أصحاب الأعمال الذين يواجهون تحديات واقعية وذات طبيعة شبه عالمية في أسواق مفتوحة، وبين ما تقدمه الجامعات والمدارس من مخرجات للتعليم.
يتحدث وزير الاقتصاد الرقمي (البدعة الرزازية) عن مشكلة عدم القدرة على المواكبة لأن مخرجات التعليم لم تمنح الخريجين مهارات الريادة الرقمية، وحقيقةً أنها لم تمنح مهارات أخرى كثيرة، وبقيت مجموعة من النصوص التي يحفظها الطلبة، لدرجة أن الطلبة وهم يتدربون على أسئلة السنوات السابقة في الرياضيات والفيزياء مثلاً، يحاصرون أنفسهم، ويحاصرهم المعلمون في صندوق معين يؤدي في النهاية إلى ظاهرة حفظ المواد العلمية وليس فهمها.
السهل للغاية أن نتحدث عن أن التعليم تضرر في السنوات الأخيرة، مع أن ذلك يجافي الحقيقة، فالضربة وجهت للتعليم في بداية السبعينيات مع سيطرة الإخوان المسلمين على الوزارة، وهي الكتلة الأساسية التي تقاوم تغيير المناهج، والتي أدخلت الأردن إلى نظام تعليم الكتاتيب التلقيني وفصلت عملية التعليم عن العصر ومستجداته وأسئلته.
كنت حضرت نقاشاً حول المناهج في مادتي العلوم والرياضيات وهي المناهج الوحيدة التي كانت أنجزت في ذلك الوقت، وأبديت ملاحظات تقنية بسيطة، وفوجئت بأحد الشخصيات الوازنة والمصنفة محافظةً بهجومها على التعديل، ولم أعرف كيف يمكن لأحد أن يغضب من تعديل مناهج الرياضيات، وما خمنته وما هو صحيح باعتقادي أن التخوف من تغيير مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية وما إلى ذلك، وبما أنه لم تصدر التعديلات في ذلك الوقت، فالمستغرب هو الهجوم على مناهج لم تعدل أصلاً.
كيف يمكن أن نتخوف من مناهج معدلة في التربية الإسلامية، هل يستطيع أي ليبرالي أن يقدم آية واحدة من خارج القرآن، وهل يمكن أن يخوض مؤلفو المناهج في جدليات الناسخ والمنسوخ؟ وهل سيصمت المجتمع مثلاً؟ أم أن الاعتراض سيكون على زيادة مساحة التفكر والتدبر التي لا يفضل أصحاب الأحكام القطعية والرؤية الأحادية أن تأخذ حيزاً، فهم يحتكرون التفسير والتأويل ولا يمكن الخروج عن رؤاهم التي تتقلب من لدنهم وحدهم بحجة المرجعية التي يكتسبونها وتحصنهم وراء مقولة ابن عساكر (لحوم العلماء مسمومة) فهل أصبح ابن عساكر ووجهة نظره الشخصية منزهاً ومحصناً بصورة مطلقة؟
حسناً، لنترك جانباً مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية، فهل يمكن أن نصلح منظومة التعليم فيما سواها؟ هل يمكن لمنظومة التلقين أن تخرج متعلمين يتميزون بالكفاءة في مجالاتهم؟
هل تريدون الصراحة المتعبة أم الأكذوبة المريحة؟
كم مرة سمعنا فلاناً أو علاناً يتفاخر بأنه لم يكن يؤدي جيداً في مادة أو أخرى، وأن تواصله على أسس مناطقية مع مدرس المادة كان عاملاً في إنجاحه وفي حصوله على درجة جيدة، وكم من مرة أثقلت الجامعات بكوادر غير مؤهلة وغير مدربة استجابة لضغوطات من أوساط اجتماعية وسياسية؟
القصة ليست في المناهج وفي منظومة التعليم وحدها، المسألة أوسع إذ لم يعد التعليم وسيلة لتعديل سلوكيات المجتمع والارتقاء بها، ولكنه استورد جميع المشكلات الاجتماعية وأعاد إنتاجها، ففي التعليم واسطات ومحاباة وسوء إدارة وتعليب تجاري.
التعليم يحتاج لانتفاضة واسعة وجريئة، وجلداً ثخيناً أمام المنتقدين من أصحاب الصوت المرتفع الذين يحاولون وضع المشكلة في سياقات ضيقة من أجل مصالح سياسية مؤقتة، ولتجنب المزيد من المغالطات، فالتعليم الذي أطلق عملية البناء في الأردن جرى تصميمه في الخمسينيات والستينيات، وكان خريجوه يقودون المنطقة بأسرها، أما ما بعد ذلك فهو ما يصنع العملية في هذه المرحلة، والتعليم الجامعي بقي صادماً حتى منتصف التسعينيات عندما بدأت الجامعات الخاصة والتوسع في الجامعات في شتى المحافظات، ولذلك وصلنا إلى تعليم ينتج الكثير من الكم والقليل من النوعية، ويمكن أن نتساءل كيف يكون في ايران 46 جامعة وفي مصر 43 ومثلها في السعودية، و10 جامعات في اسرائيل، بينما لدينا في الأردن 32 جامعة؟
أفسدت بعض التوجهات السياسية التعليم في الأردن، وما زالت تريد السيطرة على انفعالات الأردنيين وانطباعاتهم تحت حجة الوصاية وتسعى بكل ما تمتلكه من أسلحة للتكفير والتخوين لتضع الأردن وراء عوائق الخوف يتفرج على العالم من غير أن يمتلك القدرة على مواكبته.