مرايا –
ديفيد شينكر* – (كارافان) 7/3/2023
يُظهر تقييم الاتفاق الذي تم التوصل إليه العام الماضي، أنه في حين كانت هناك الكثير من الأسباب الوجيهة لقبول واشنطن والقدس به، إلا أن تحسين الأمن الإسرائيلي على المدى الطويل لم يكن أحد تلك الأسباب.
* * *
توج إنجاز ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل الجهود الدبلوماسية بنظر إدارة بايدن. وقد حقق نجاح وساطة كبير المستشارين لشؤون أمن الطاقة، آموس (عاموس) هوكستين، في اتفاق ترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة بين هذين اللبلدين المتحاربين، ما عجزت الإدارات الأميركية المتعاقبة عن تحقيقه.
ورغم أن الاتفاقية لقيت استحساناً كبيراً، إلا أنها لا تخلو من العيوب والجدل.
ووصف هوكستين الاتفاق عندما عرضه بأنه مكسب للبنان وإسرائيل على حد سواء، إذ يقدم للبنان؛ الدولة الغارقة في أزمة اقتصادية مدمرة، احتمال تحقيق إيرادات كبيرة في النهاية، في حين تحصل إسرائيل بفضله، وفق هوكستين، “على الاستقرار” و”الأمن الشامل”. واتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، يائير لبيد، و”الجيش الإسرائيلي” مع تقييم هوكستين.
من المؤكد أن سجل “الجيش الإسرائيلي” يحفل بالإنجازات من حيث دوره كضامن لأمن إسرائيل. ومع ذلك، ليس من الواضح أن الاتفاق، على حد تعبير لبيد، “يعزز أمن إسرائيل”.
وفي الواقع، يشير سياق الصفقة وتوقيتها، وكذلك شروطها الفعلية، إلى أن الاتفاق البحري قد يؤدي في أحسن الأحوال إلى تهدئة التوترات مؤقتاً بين إسرائيل و”حزب الله” الشيعي اللبناني المدعوم من إيران على طول الحدود البرية والبحرية. وقد يؤخر -ولكن لا يمنع في النهاية- اشتعال الوضع في المستقبل.
تم التوصل إلى الاتفاق في لحظة تصاعد التوترات بين إسرائيل و”حزب الله”. ففي السنوات الأخيرة، زاد الحزب عدد قواعده العسكرية الكثيرة أساساً التي أقامها على طول الحدود، والتي موهها تحت راية المنظمة البيئية غير الحكومية “أخضر بلا حدود” التابعة له، وصعد هجماته على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي تقوم بدوريات في المنطقة.
وخلال هذا الإطار الزمني، وسعت الميليشيا بالمثل قدراتها الدفاعية الجوية مقابل “سلاح الجو الإسرائيلي”. كما أصبح “حزب الله” ينشر أيضاً وحدات القوات الخاصة التابعة لكتيبة “الرضوان” بطريقة ظاهرة للعيان في المنطقة الحدودية.
في الوقت نفسه، هدد “حزب الله” في الأشهر التي سبقت التوقيع على الاتفاق البحري في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 بمهاجمة الوحدة العائمة لإنتاج الغاز، “إنرجيان”، في حقل الغاز الطبيعي البحري الإسرائيلي “كاريش” -الواقع في مياه المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل بلا منازع -إذا بدأت إسرائيل بالضخ قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق.
وفي تموز (يوليو)، أسقط “الجيش الإسرائيلي ثلاث طائرات بلا طيار أطلقها “حزب الله” لمراقبة “إنرجيان”.
وكانت إسرائيل قد أعلنت في وقت سابق أنها ستبدأ الضخ في أيلول (سبتمبر) بغض النظر عن حالة المفاوضات. ومع ذلك، وتحت وجود تهديد بشن هجوم، أخرت إسرائيل الاستخراج لما يقرب من شهرين.
بالنسبة لإسرائيل، يبدو أن الضغوط التي تُمارَس على طول الحدود والتهديد باندلاع حرب بحرية قد زادت من إلحاح التوصل إلى اتفاق على طاولة المفاوضات.
وهذه هي الرسالة التي يروجها بالتأكيد مسؤولو “حزب الله”. وكما قال أحد المتحدثين باسم الميليشيا لصحيفة “واشنطن بوست” في أواخر تشرين الأول (أكتوبر)، فقد “سرعت الطائرات المسيرة المفاوضات… لولا بندقية نصر الله التي وُضعت على رأس الحكومة الإسرائيلية، لم يكن من الممكن التوصل إلى (اتفاق)”.
لا شك في أن تعليقات “حزب الله” كاذبة جزئياً. فالحزب ليس فخوراً بتوقيعه الاتفاق، وهو أمر ضروري في ظل التدهور الاقتصادي في لبنان.
وقد أضرت موافقته عليه بسمعته. ومع ذلك، يمكن لـ”حزب الله” أن يؤكد بمصداقية أن التهديد بالتصعيد لم يؤخر فقط استخراج الغاز الإسرائيلي، لكنه أسفر عن اتفاق كانت شروطه مواتية للغاية للبنان. وهذه الرسالة، إذا استوعبها “حزب الله” أساساً، يمكن أن تزيد من جرأة الحزب.
في الاتفاق، قبلت إسرائيل بموقف لبنان الأولي في المفاوضات وتنازلت عن مجمل مطالبها المتعلقة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، ومنحت لبنان أكثر من 854 كيلومتراً مربعاً من المنطقة المتنازع عليها. وفي المقابل، ستبقى الحدود البحرية القائمة بحكم الأمر الواقع والممتدة على طول الكيلومترات الخمسة الأولى المتاخمة للشريط الساحلي على ما هي عليه، وهو تطور قال وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، بيني غانتس، إنه سيضمن حرية إسرائيل في العمل قبالة الساحل.
وتضطلع حرية التصرف هذه بأهمية لا يمكن تجاهلها، ولكن تاريخياً، تجلى بشكل أساسي التحدي الذي يمثله “حزب الله” لإسرائيل على طول الحدود البرية المعروفة بـ”الخط الأزرق”. ومن الصعب على أي حال فهم كيف أن إضفاء الطابع الرسمي على هذه الكيلومترات الخمسة من الحدود البحرية الحالية سيجعل إسرائيل أكثر أماناً بطريقة ملموسة.
إحدى الحجج التي تم طرحها في القدس وواشنطن للمضي قدماً في هذا الادعاء هي أن الاتفاق يضمن المصالح المتبادلة بين إسرائيل ولبنان.
وينص الاتفاق على أنه في مقابل السماح للبنان باستخراج الغاز من حقل “قانا”، الذي يمتد جنوب المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، ستحصل إسرائيل على حصة من أرباح شركة الطاقة الفرنسية متعددة الجنسيات “توتال” التي تم التعاقد معها لاستغلال الحقل. وقيل إن هذه الترتيبات لا تجعل من لبنان فحسب، بل من “حزب الله” أيضاً، شريكين تجاريين مع إسرائيل، مما يعمل على استقرار بيئة الاستثمار والأنشطة الاقتصادية في شرق البحر المتوسط.
وفي تشرين الأول (أكتوبر)، كرر هوكستين وجهة النظر المتفائلة هذه على “القناة 12” الإسرائيلية، وقال إن “معرفة أنه لن يكون هناك تهديد بالصواريخ لحقل (غاز) “كاريش” على طول الطريق إلى الجنوب” توفر لإسرائيل الأمن.
وفي حين أن هذه الحجة مقنعة إلى حد ما، فإن من المهم أن نتذكر، كما أشار المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية ألون أوشبيز، “أن الاتفاق ليس ملزماً لحزب الله”.
وفي أي نزاع مستقبلي بين إسرائيل و”حزب الله”، من غير المرجح أن تكون أصول الطاقة الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط -سواء في “كاريش” أو “ليفياثان” أو “تامار”- محصنة ضد هجوم “حزب الله”.
وبالفعل، لن يتردد “حزب الله” كثيراً في ضرب منصة “إنرجيان” التي تملكها بريطانيا. وعلى أي حال، فإن نموذج التدمير المؤكد المتبادل للردع -أي التهديد بأن ترد إسرائيل باستهداف الأصول في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان- لا ينطبق هنا. وسترى إسرائيل غضاضة في استهداف المنصات المملوكة لشركة النفط الفرنسية.
ومما يزيد الأمور سوءاً أن “حزب الله” قد يستفيد اقتصادياً من الاتفاق. وفي الواقع، في غياب إجراءات محاسبية فعالة وشفافة، فإن أي مكاسب مالية غير متوقعة من الغاز البحري من المرجح أن تتلاشى في هاوية الفساد الهائل في لبنان. وكون “حزب الله” حلقة رئيسية في شبكة الفساد هذه، من المؤكد أنه سيستفيد من ذلك.
في الواقع، يفوق تهديد مبادرة “حزب الله” طويلة الأمد المتعلقة بتحديث عشرات الآلاف من صواريخه وقذائفه، والمعروفة بـ”الذخائر الموجهة بدقة”، التهديدات التي يفرضها على إسرائيل في البحر المتوسط.
قبل خمس سنوات، حدد “الجيش الإسرائيلي” التقدم في هذا المشروع بأنه “خط أحمر” ووصفه بانتظام بأنه “أكبر تهديد لإسرائيل اليوم”، ويأتي في المرتبة الثانية بعد البرنامج النووي الإيراني. ولم تنجح الجهود الإسرائيلية لإحباط البرنامج، ويستمر “حزب الله” في إحراز تقدم مطرد في تحديث ترسانته. ويستمر التزام الميليشيا بمشروع “الذخائر الموجهة الدقيقة”، على الرغم من الاتفاق البحري.
من غير الواضح كيف سيؤثر الاتفاق على الجهود الإسرائيلية المستقبلية لتعطيل مشروع “الذخائر الموجهة الدقيقة”. ولا شك في أن هذه الجهود ستستمر، ولكن يمكن أن يتم تقييدها بسبب المخاوف من التصعيد الذي قد يؤثر على أصول الطاقة الإسرائيلية.
بغض النظر عن هذه الشكوك حول الفوائد الأمنية المزعومة طويلة الأجل، فإن للاتفاقية بعض الجوانب الإيجابية. حتى لو لم يتم التوقيع على الاتفاقية من قبل كل من إسرائيل ولبنان -حيث وقعها كل طرف على حدة مع الولايات المتحدة- فإنها تزيل نقطة خلاف واحدة بين الدولتين.
وهكذا تظهر إمكانية حل القضايا الشائكة بين إسرائيل ولبنان دبلوماسياً. وتَذْكر الوثيقة الموقعة كلمة “إسرائيل”، وهو تطور غير عادي -إن لم يكن غير مسبوق- بالنسبة للبنان.
وعلاوة على ذلك، فإن قبول “حزب الله” لاتفاق يعترف ضمنياً بإسرائيل يسيء إلى سمعة الحزب. ولعل الأهم من ذلك، أن الاتفاق أيضاً، على الأقل مؤقتاً، يتجنب مواجهة عسكرية وشيكة بين إسرائيل و”حزب الله”. وهكذا دواليك.
كما ذُكر آنفاً، سيعود الاتفاق على إسرائيل بفوائد حقيقية ومهمة. ومع ذلك، لا يعد الاتفاق حلاً شافياً. فمن غير المرجح أن يحقق لبنان مكاسب اقتصادية كبيرة قبل عقد من الزمان -وبالتالي فإن الاتفاقية لن تفعل شيئاً يذكر لتحقيق الاستقرار في الدولة و”شرق البحر المتوسط” في أي وقت قريب.
وفي غضون ذلك، قد يخرج “حزب الله” من المفاوضات البحرية بثقة زائدة، ما قد يزيد من خطر التصعيد تحت ذرائع أخرى، في المستقبل.
باختصار، كان هناك الكثير من الأسباب الوجيهة لواشنطن للتوسط، ولإسرائيل للموافقة على هذا الاتفاق. ومع ذلك، فإن تحسين أمن إسرائيل على المدى الطويل، ليس بالضرورة أحد هذه الأسباب.
*ديفيد شينكر: “زميل أقدم في برنامج توب” في معهد واشنطن، ومدير “برنامج السياسة العربية” التابع للمعهد. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “مؤسسة هوفر”.