سياق الأزمة والدور الأردني

 في فجر 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 اندلعت واحدة من أعنف جولات الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بعدما تعرضت غزة لهجوم إسرائيلي واسع ردًا على عملية نفذتها حماس.

سرعان ما تحول الرد الإسرائيلي إلى حملة عسكرية غير مسبوقة على القطاع المكتظ بالسكان، أسفرت عن آلاف الضحايا المدنيين ودمار هائل طال البنية التحتية والمنازل والمستشفيات.

وفي خضم هذا المشهد المروّع، تباينت المواقف العربية والدولية بين التأييد الخجول والدعوات الخافتة لضبط النفس، فيما لاذ كثيرون بالصمت. لكن الأردن اختار موقفًا مبدئيًا صارمًا، ليتبلور بوصفه صوت الضمير العربي الذي صدح بالحقيقة ودافع بشجاعة عن الشعب الفلسطيني في غزة عندما خفتت أصوات الآخرين.

وقف الأردن، ملكًا وحكومةً وشعبًا، في طليعة الرافضين للعدوان والناصرين للقضية الفلسطينية، جامعا بين التعاطف الإنساني العميق والتحرك الدبلوماسي والاستراتيجي المحسوب. ومنذ الساعات الأولى للأزمة، أكّد الأردنيون قيادةً وشعبًا أن غزة ليست وحدها، وأن البوصلة الأردنية ستبقى ثابتة نحو فلسطين مهما كانت التحديات.

لقد أرست المملكة تاريخيًا دورها كحاضنة للقضية الفلسطينية ووصية على المقدسات في القدس، إلا أن أحداث غزة الأخيرة اختبرت هذا الدور على نحو غير مسبوق.

كيف تفاعل الأردن، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني وسمو ولي العهد الحسين بن عبدالله الثاني والقيادة الهاشمية، مع حرب غزة 2023؟ وما حجم الجهد الإغاثي والدبلوماسي الذي بذله الأردنيون لنجدة أشقائهم والتصدي لما وُصف بأنه إبادة جماعية؟

  القيادة الهاشمية: موقف مبدئي

 منذ اللحظات الأولى للعدوان على غزة، برز جلالة الملك عبدالله الثاني كأعلى الأصوات العربية انتقادًا للمجازر ورفضًا لمحاولات تهجير الفلسطينيين. على المستوى العلني، أدان الملك استخدام إسرائيل للقوة المفرطة وحذّر مرارًا من أن الحل العسكري والأمني الذي تتبناه إسرائيل ضد الفلسطينيين لن يحقق لها الأمن المنشود ولن ينجح. ففي تصريحاته إبان الأزمة، أكد أن الطريق الوحيد لتحقيق سلام عادل وشامل هو العودة للمفاوضات على أساس حل الدولتين، بما يضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

هذا الموقف المبدئي ليس جديدًا، لكنه اكتسب زخمًا إضافيًا بعد 7 أكتوبر، إذ رفض الملك أي محاولة لاستغلال الحرب لفرض واقع التهجير أو توطين الفلسطينيين خارج أرضهم. وقد شدّد جلالته خلال القمم واللقاءات الدولية على خط أحمر أردني يتمثل برفض نقل الصراع إلى الأردن أو السماح بتكرار نكبة لجوء جديدة. ففي قمة القاهرة الطارئة حول غزة (أكتوبر 2023) وكذلك في قمم لاحقة، كرر الملك أن لا بديل عن الفلسطينيين لأرضهم ولا بديل عن حل الدولتين سبيلًا للاستقرار.

لم يكتفِ الملك بالتصريحات، بل اتخذ خطوات دبلوماسية جريئة عكست حجم الغضب الأردني. فعلى إثر مجزرة القصف الإسرائيلي لمستشفى المعمداني (الأهلي) في غزة يوم 17 أكتوبر 2023، أعلن الملك إلغاء قمة كانت مقررة في عمّان مع الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن، والتي كان يُفترض أن تجمع أيضًا الرئيس المصري وقادة آخرين.

حمل هذا الإلغاء رسالة دبلوماسية بالغة الوضوح: أن عمّان تضع كرامة الشعب الفلسطيني وأرواح الأبرياء فوق أي اعتبارات سياسية أخرى، حتى لو كان الثمن فتورًا مؤقتًا مع الحليف الأمريكي. وبالتوازي، أعلن الأردن استدعاء سفيره من تل أبيب وإبلاغ السفير الإسرائيلي بعدم العودة في ظل استمرار الحرب، في خطوة احتجاجية نادرة لدولة ترتبط مع إسرائيل بمعاهدة سلام منذ عام 1994.

وأكد وزير الخارجية أيمن الصفدي أن عودة السفراء مشروطة بوقف إسرائيل حربها على غزة وإنهاء الكارثة الإنسانية الناجمة عنها. هكذا وضع الملك ودبلوماسيته العلاقة مع إسرائيل على المحك، لصالح الوقوف مع غزة وحقن دماء أهلها، مما عزز صورة الأردن كدولة تقدم القيم والمبادئ على المصالح الضيقة.

أما سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، فدخل على خط الأزمة كصوت شبابي في القيادة الهاشمية يعكس وجدان الجيل الجديد من الأردنيين. برز الأمير الحسين خلال الحرب بخطاب حازم ضد استهداف المدنيين، حيث تبنّى علنًا موقفًا يدين قتل الأبرياء في غزة ويشدّد على ضرورة وقف آلة الحرب الإسرائيلية. ولم يقتصر دور ولي العهد على الخطاب، بل أشرف ميدانيًا على جهود إيصال المساعدات الإغاثية الأردنية إلى القطاع عبر معبر رفح الحدودي.

لقد ظهر الأمير الشاب في أكثر من مناسبة وهو يتابع عن كثب قوافل المساعدات المتوجهة إلى غزة، تأكيدًا على أن التضامن الأردني قيادةً وشعبًا فعلٌ عملي وليس مجرد شعارات. حضور ولي العهد بهذا الزخم في قلب الأزمة عكس نهجًا هاشميًا متواصلاً: قيادة جماعية تضع ثقلها في ميادين مختلفة – من القصر الملكي إلى ساحات الإغاثة – لنصرة الفلسطينيين.

وبجانب الملك وولي العهد، حملت جلالة الملكة رانيا العبدالله لواء الدفاع عن غزة على الساحة الإعلامية الدولية. فبصفتها شخصية عالمية تحظى بالاحترام، أجرت الملكة سلسلة مقابلات أطلقت فيها صرخة ضمير مدوية ضد الصمت الدولي. في حديثها لقناة CNN بتاريخ 24 تشرين الأول أكتوبر 2023، عبّرت الملكة بمرارة عن صدمة الأردنيين والعرب من التفاوت الصارخ في تعامل العالم مع الضحايا. وأشارت إلى أنه حين وقعت هجمات 7 أكتوبر، هبّ العالم ليدعم إسرائيل ويؤكد حقها في الدفاع عن نفسها، أما حين انهالت القنابل على رؤوس أطفال غزة، فكان الموقف الدولي مجرد بيانات قلق خجولة مصحوبة بدعم ضمني لإسرائيل.

صوت الملكة رانيا المؤثر في الإعلام الغربي قدم وجهًا إنسانيًا وأخلاقيًا للموقف الأردني، وكسب تعاطفًا وتأييدًا شعبيًا عالميًا للقضية الفلسطينية، مما دعم الجهد السياسي الرسمي بمفعول ناعم لكنه قوي.

لقد أظهرت القيادة الهاشمية – ملكًا وملكةً وولي عهد – وحدة موقف قلّ نظيرها، حيث تكاملت الشرعية التاريخية والأخلاقية التي تمثلها العائلة الهاشمية مع الحسّ الإنساني العميق والخطاب العقلاني، لترسيخ صورة الأردن كمدافع شرس عن الحق والعدالة في فلسطين.

  الحراك الدبلوماسي

 على الصعيد الدبلوماسي، قاد الأردن حملة اتصالات ومبادرات دولية مكثفة سعيًا لوقف الحرب وإنقاذ أرواح المدنيين. فمنذ الأيام الأولى، سخّر وزير الخارجية أيمن الصفدي كل المنابر المتاحة لفضح الانتهاكات والمطالبة بتحرك أممي عاجل. توجه الصفدي إلى الأمم المتحدة وعواصم القرار حاملاً رسالة الملك بأن استمرار العدوان الإسرائيلي يهدد بإشعال المنطقة بأسرها.

وبجهد أردني–عربي مشترك، نجح الصفدي في استصدار قرار تاريخي من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 تشرين الأول أكتوبر 2023 يطالب بوقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة. حظي هذا القرار بدعم 120 دولة وصيغ بمسودة قدمتها البعثة الأردنية لدى الأمم المتحدة، ما عكس القدرة الأردنية على حشد التأييد الدولي رغم الضغوط المعاكسة. صحيح أن القرار كان غير ملزم واعترضت عليه قوى كبرى، إلا أنه شكّل انتصارًا معنويًا ودبلوماسيًا مهمًا إذ أدخل مطالب وقف الحرب في سجلات الشرعية الدولية بصوت الأغلبية الساحقة.

إلى جانب التحركات المتعددة الأطراف، فعّلت عمّان أيضًا دبلوماسية القمة المباشرة. فاستقبل الملك عبدالله قادة وزعماء عرب ودوليين، والتقى بالرئيس الفلسطيني محمود عباس مرات عدة لتنسيق المواقف. في 5 شباط/فبراير 2025 استقبل الملك عباس بحضور ولي العهد، مجددًا التأكيد على الدعم الأردني المطلق للحقوق الفلسطينية وضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار في غزة. واغتنم الملك المناسبة ليشدد على رفض أي مساس بوضع القدس والمقدسات أو أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة. وقد أثنى الرئيس عباس نفسه على ثبات الموقف الأردني وجهوده في إيصال المساعدات الإنسانية دون انقطاع إلى غزة، مشيرًا إلى أن الأردن بقيادة الملك كان ركيزة أساسية في تثبيت التهدئة وتخفيف معاناة الفلسطينيين.

كذلك انخرطت المملكة في جهود تخطيط ما بعد وقف القتال، فشارك الملك في قمة بشأن إعادة إعمار غزة ضمن مؤتمر «السلام من أجل فلسطين» في أواخر 2023، ودعا المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته في إعادة البناء دون فرض حلول تهجيرية. وفي 7 نيسان/أبريل 2025، عقد الملك قمة ثلاثية في القاهرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبحث تطورات غزة. طالب القادة الثلاثة بوقف شامل للعمليات العسكرية واستئناف تدفق المساعدات الإنسانية بشكل كافٍ، فيما حذر الملك أن استمرار القصف الإسرائيلي يقوّض كل الجهود الدبلوماسية والإغاثية وقد يفجّر فوضى إقليمية عارمة.

إن الدور الأردني الدبلوماسي خلال أزمة غزة اتسم بالجرأة والفاعلية: جرأة في تحدي الرواية الإسرائيلية والغربية الأحادية على الساحة الدولية، وفاعلية في تحقيق نتائج ملموسة مثل القرارات الأممية وإبقاء ملف غزة حيًا على أجندة العالم. واستحق الأردن عن جدارة وصفه بأنه صوت الحق العربي في المحافل الدولية حين تلعثمت ألسن كثيرة تحت وطأة الضغوط.

  الجهد الإنساني والإغاثي

 لم يكن الدور الأردني في أزمة غزة سياسيًا وإعلاميًا فحسب، بل تجسد ميدانيًا عبر جسر إغاثي مكثف قادته القوات المسلحة والمؤسسات الإنسانية الأردنية لإغاثة الأشقاء المحاصرين. فمن رحم المعاناة ظهرت بصمة «الجيش العربي» الأردني ناصعة في ميادين العمل الإنساني، استمرارًا لتقاليده التاريخية في مؤازرة الفلسطينيين.

وبتوجيهات مباشرة من جلالة الملك القائد الأعلى للقوات المسلحة، انطلقت منذ الأيام الأولى للحرب قوافل المساعدات الأردنية صوب غزة عبر الأراضي المصرية، محملة بالمواد الطبية والإغاثية العاجلة. ولمّا تعذر إيصال الإمدادات برًا بالسرعة اللازمة تحت وطأة الحصار والقصف، سيّر سلاح الجو الملكي الأردني جسورًا جوية إلى سيناء، ثم إلى داخل القطاع حال سريان هدن إنسانية قصيرة.

وبحلول 9 شباط/فبراير 2025، كانت المروحيات الأردنية قد نفذت قرابة 100 طن من المساعدات جواً إلى مستشفيات غزة المحاصرة، وفق ما أفاد أحد قادة المهمة الإنسانية الجوية. وقد حازت تلك الجهود على اهتمام دولي، حيث رافقت شبكة NPR الأمريكية إحدى الرحلات ووثّقت مشاهد الجنود الأردنيين وهم يسابقون الزمن تحت النار لإيصال أدوية ضرورية كمخدر العمليات وعلاجات الأمراض المزمنة التي تفتقر إليها مستشفيات غزة.

على الأرض، أقامت القوات المسلحة الأردنية مستشفيات ميدانية عسكرية في قطاع غزة تكاد تكون الوحيدة من نوعها خلال الحرب. فمنذ 2009 يدير الأردن مستشفى ميدانيًا في شمال غزة (غزة/المدينة) لم يغلق أبوابه رغم المخاطر، وعند اشتداد القصف الإسرائيلي وتركز المعارك شمالًا، كان الأردن أول دولة تقيم مستشفى إضافيًا في جنوب القطاع. ففي تشرين الثاني نوفمبر 2023، وعلى وقع القتال العنيف، نشر الجيش الأردني مستشفى ميدانيًا جديدًا في مدينة خان يونس جنوب غزة، لتعزيز صمود المنظومة الصحية المنهارة. وساهم المستشفيان (الشمالي والجنوبي) خلال الحرب في إنقاذ آلاف الأرواح عبر تقديم خدمات جراحية وطبية حرجة.

هذا الجهد الإنساني النوعي وسط أهوال الحرب جسّد «النخوة» الأردنية بأبهى صورها، حيث عمل الأطباء والممرضون العسكريون ليل نهار في خيام المستشفى تحت أزيز الطائرات، مسطرين ملاحم رحمة وإنقاذ.

وعلى صعيد الإمداد اللوجستي، سيرت القوات المسلحة بالتعاون مع الهيئة الخيرية الهاشمية أكثر من 5,000 شاحنة محمّلة بحوالي 74 ألف طن من المساعدات عبر الحدود إلى الأراضي الفلسطينية، كما نفذت القوات الجوية 125 عملية إنزال جوي منفردة و266 عملية إنزال بالتعاون مع دول أخرى لإيصال المعونات للمناطق المحاصرة. إضافة إلى ذلك، نُظمت 53 رحلة جوية إغاثية عبر مطار العريش المصري لنقل المساعدات إلى مشارف غزة.

لقد أعاد «الجيش العربي» بهذا الدور التذكير بأن عقيدته المؤسسة كانت دومًا نصرة المظلوم والدفاع عن قضايا الأمة، وأن بوصلته ستبقى تشير إلى القدس وغزة كما أشارت من قبل إلى الكرامة والجولان. ويُمكن القول إن الدعم الإغاثي الأردني اللامحدود خلال حرب غزة أكسب عمّان رصيدًا أخلاقيًا واستراتيجيًا على الصعيد الدولي، إذ برزت كطرف إقليمي يعتمد عليه في جهود الإغاثة والاستقرار، تمامًا كما هو شريك في جهود السلام.

  مؤسسات الدولة والإجماع الوطني

 لم تكن مواقف القيادة الأردنية وجهود جيشها لتؤتي هذا الزخم لولا ارتكازها على جبهة داخلية متماسكة من مختلف مؤسسات الدولة ومن عموم الشعب الأردني، صاغت بمجملها حالة فريدة من الإجماع الوطني خلف نصرة غزة وفلسطين. فعلى مستوى الحكومة الأردنية، بدت السلطة التنفيذية بكامل أجهزتها متناغمة مع توجيهات الملك في التصدي للعدوان. فقد عقد مجلس الوزراء جلسات طارئة لمتابعة التطورات، ووجّه رئيس الوزراء (السابق) بشر الخصاونة الوزارات المعنية لتقديم كل التسهيلات للجهد الإغاثي والدبلوماسي. ونشطت وزارة الخارجية عبر الوزير أيمن الصفدي وفريقه في إيصال الرسائل الأردنية للعالم، كما تولت وزارة الصحة استقبال جرحى غزة الذين تم إجلاؤهم إلى المستشفيات الأردنية وتقديم الرعاية اللازمة لهم. وبدا واضحًا أن الدولة الأردنية بكافة أركانها تبنت موقفًا موحدًا نابعًا من قناعة استراتيجية وأخلاقية بأن ما يحدث في غزة يمس الأردن مباشرة وأخلاقيًا، وبالتالي وجب التحرك على كافة الصعد.

على صعيد مجلس الأمة (البرلمان بغرفتيه)، علت الأصوات الغاضبة التي طالبت بإجراءات أقوى تجاه إسرائيل. ففي ذروة القصف، عقد مجلس النواب جلسات خاصة نقاشية حول جرائم الحرب في غزة، أصدر على إثرها بيانات تضامن حازمة. وذهب النواب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ صوتت الأغلبية الساحقة في مجلس النواب لصالح مذكرة توصية للحكومة بطرد السفير الإسرائيلي من عمّان وإلغاء معاهدة السلام، تعبيرًا عن غضب الشارع ورغبة المجلس في اتخاذ موقف بحجم فظاعة الجرائم المرتكبة.

ورغم أن القرار بهذا الشأن سيادي ويعود للسلطة التنفيذية، إلا أن الرسالة السياسية كانت مدوية بأن صبر الأردنيين على انتهاكات إسرائيل نفد. وقد استجابت الحكومة جزئيًا عبر استدعاء السفير الأردني وتجميد بعض أشكال التعاون، لكنها آثرت عدم قطع العلاقات كليًا لإبقاء قنوات التواصل التي قد تخدم وقف الحرب.

ومع ذلك، عبّر البرلمان عن نبض الشارع، وأظهر وحدة نادرة بين كافة الكتل – موالاة ومعارضة – في الوقوف صفًا واحدًا مع فلسطين. وكان رئيس مجلس النواب أحمد الصفدي صارمًا في خطاباته للحكومة، داعيًا لاتخاذ «خطوات عملية حازمة» وعدم الاكتفاء بالإدانات، فيما أيّده أعضاء المجلس بالتصفيق والتأييد. ولقي هذا الموقف صدى إيجابيًا شعبيًا، إذ شعر الأردنيون أن صوتهم مسموع تحت القبة في قضية يعتبرونها قضية وطنية داخلية بقدر ما هي قضية قومية.

أما الإعلام الأردني بمختلف منصاته، فقد لعب دورًا تعبويًا وتوعويًا محوريًا خلال الأزمة. فلأيام وليالٍ طويلة تصدرت أخبار غزة عناوين الصحف ونشرات التلفزة والإذاعة، وتم تسخير الوسائل الإعلامية الرسمية والخاصة لإبراز حقيقة ما يجري على الأرض من دمار ومعاناة إنسانية.

تميزت التغطيات المحلية بالتركيز على قصص الضحايا المدنيين، ونقل صوت غزة إلى المجتمع الأردني والعربي، ودحض الروايات الإسرائيلية التي سعت لتبرير القتل الجماعي. كما أبرز الإعلام الجهود الأردنية سياسيًا وإنسانيًا، مسلطًا الضوء على القوافل الملكية ومواقف جلالة الملك الدولية، ومتابعًا مقابلات الملكة رانيا مع كبرى المحطات العالمية والتي تناقلتها الصحافة المحلية بفخر.

في الوقت نفسه، تجنبت وسائل الإعلام الأردنية الوقوع في فخ التهويل أو نشر الشائعات، والتزمت عمومًا بخطاب مسؤول يوازن بين نقل المشهد المأساوي في غزة وتعزيز الثقة بإجراءات الدولة لنصرة الأشقاء. وقد خصصت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية بثًا مفتوحًا لفعاليات التضامن والندوات التي تستضيف محللين ومسؤولين لشرح أبعاد الموقف الأردني. كما لعبت منصات التواصل الاجتماعي الأردنية دورًا لا يستهان به في تناقل المعلومات عن حملات التبرع والمساعدات الشعبية وإظهار لقطات الوقفات التضامنية الجماهيرية، مما عزز حالة التعاطف العام ووحدّة المزاج الشعبي تجاه نصرة غزة.

وفي قلب هذه اللوحة، برز الشارع الأردني كفاعل أساسي دفع الأحداث وزود الدولة بشرعية شعبية للتحرك. فمنذ الأيام الأولى، خرجت في عمان وكبرى المدن مسيرات حاشدة تندد بالعدوان وتطالب بوقف المجازر. رفرفت الأعلام الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع الأعلام الأردنية في الساحات، وردد المتظاهرون هتافات تدعو لطرد السفير الإسرائيلي وإلغاء اتفاقية وادي عربة، في مشهد أظهر التلاحم الشعبي الأردني الفلسطيني في أبهى صوره.

لم تخلُ أي مدينة أو مخيم في الأردن من وقفات غضب يومية؛ ففي العاصمة عمّان، اعتصم الآلاف قرب السفارة الإسرائيلية مرددين «غزة.. غزة رمز العزة» و»بالروح بالدم نفديك يا أقصى»، مطالبين بإغلاق السفارة وقطع العلاقات فورًا. ورغم أن القوى الأمنية اضطرت أحيانًا لاستخدام القوة الخفيفة (كالغاز المسيل) لمنع بعض المحتجين الغاضبين من محاولة اقتحام السفارة الإسرائيلية المحصنة، إلا أن سقف حرية التعبير كان ملحوظًا؛ فقد سُمح للجموع بالتظاهر يوميًا تقريبًا، ما دام ذلك في إطار سلمي ومنظم.

ويمكن القول إن الشارع الأردني شكّل ضغطًا إيجابيًا عزز الموقع التفاوضي والسياسي للحكومة؛ فعندما تحدّث جلالة الملك أو الصفدي أمام محافل دولية عن خطورة ما يجري، كان العالم يرى على الشاشات آلاف الأردنيين يهتفون لنصرة غزة، فاكتسب الموقف الرسمي ثقلًا شعبيا قلَّ نظيره إقليميا.

 

 المصادر والمراجع: جاءت المعلومات والبيانات الواردة أعلاه موثقة من مصادر رسمية وإعلامية متعددة، منها وكالة رويترز وتقارير جوردان تايمز ووكالة الأنباء الأردنية وبيانات القوات المسلحة الأردنية، إضافة إلى تصريحات مباشرة لجلالة الملك وسمو ولي العهد وجلالة الملكة رانيا في مقابلات دولية، وكلمات معالي وزير الخارجية أيمن الصفدي في المحافل البرلمانية والدولية، وجميعها حتى تاريخ 12/4/2025. هذه التوثيقات تؤكد دقة ما سلف عرضه من حقائق وأرقام، وتظهر الدور الأردني الاستثنائي في مواجهة العدوان على غزة ونصرة الشعب الفلسطيني خلال تلك الفترة الحرجة.

عصام المساعيد